طبيعة المنهج القرآني الجزء الاول...!
ظل القران المكِّي ينزل على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر عاماً
كاملة، يحدِّثه فيها عن قضية واحدة. قضية واحدة لا تتغير، ولكن طريقة عرضها لا
تكاد تتكرر. ذلك الأسلوب القرآني يدعها في كل عرض جديدة، حتى لكأنما يطرقها
للمرة الأولى.
لقد كان يعالـج القضية الأولى،والقضية الكبرى,والقضية, الأساسية, في هذا الدين
الجديد.. قضية العقيدة.. ممثلة في قاعدتها الرئيسية..الألوهية والعبودية وما بينهما
من علاقة.
لقد كان يخاطب بهذه الحقيقة"الإنسان" .. الإنسان بماأنه إنسان.. وفي هذا المجال
يستوي الإنسان العربي في ذلك الزمان والإنسان العربي في كل زمان كما يستوي
الإنسان العربي وكل إنسان،في ذلك الزمان وفي كل زمان!
إنها قضية "الإنسان"التي لا تتغير،لأنها قضية وجوده في هذا الكون وقضية مصيره.
قضية علاقته بهذا الكون وبهؤلاء الأحياء،وقضية علاقته بخالق هذا الكون وخالق هذه
الأحياء. وهي قضية لا تتغير، لأنها قضية الوجود والإنسان.
لقـد كان هذا القرآن المكي يفسر للإنسان سر وجوده ووجود هذا الكون من حوله..
كان يقول له: من هو؟ ومن أين جاء؟ ولماذا جاء؟والى أين يذهب في نهاية المطاف؟
من, ذا الذي جاء به من العدم والمجهول؟ ومن ذا الذي يذهب به وما مصيره هناك؟
وكان يقول له : ما هذا , الوجود , الذي يحسه ويراه ، والذي يحس أن وراءه , غيباً
يستشرفه ولا يراه ؟ من أنشأ هذا الوجود المليء بالأسرار ؟ من ذا يدبره؟ومن ذا
يحوره؟ ومن ذا يجدد فيه ويغير على النحو الذي يراه؟..وكان يقول له كذلك : كيف
يتعامل مع خالق هذا الكون، ومع الكون أيضاً، كما يبين له:كيف يتعامل العباد مع
العباد؟
وكانت هذه هي القضية الكبرى التي يقوم عليها وجود"الإنسان" وستظل هي
القضية الكبرى التي يقوم عليها وجوده على توالي الأزمان.
وهكذا انقضت ثلاثة عشر عاماً كاملة في تقرير هذه القضية الكبرى، القضية التي
ليس وراءها شيء في حياة الإنسـان إلا ما يقوم عليها من المقتضيات والتفريعات.
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من
التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما تستحقه من
البيان وأنهـا استقرت استقراراً مكيناً ثابتاً في قلوب العصبة المختارة من بني الإنسان
التي قدَّر الله أن يقوم هذا الدين عليها، وأن تتولى هي, إنشاء النظام , الواقعي الذي
يتمثل فيه هذا الدين.
وأصحاب الدعوة إلى دين الله وإلى إقامة النظام الذي يتمثل فيه هذا الدين فـي واقع
الحياة خليقون أن يقفوا طويلاً أمام هذه الظاهرة الكبيرة ظاهرة تصدي القرآن المكي
خلال ثلاثة عشر عاماً لتقرير هذه العقيدة، ثم وقوفه عندها لا يتجاوزها إلى شيء من
تفصيلات النظام الذي يقوم عليها، والتشريعات التي تحكم المجتمع المسلم الذي
يعتنقها.
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة
منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله-صلى الله عليه وسلم- أولى خطواته
في الدعوة بدعوة الناس أن يشهدوا: أن لا اله إلا الله، وأن يمضي في دعوته ي
عرِّف الناس بربهم الحق، ويُعَبِّدَهم له دون سواه.
ولم تكن هذه-في ظاهر الأمر وفي نظرة العقل البشري المحجوب- هي أيسر
السبل إلى قلوب العرب!فلقد كانوا يعرفون من لغتهم معنى"إله"ومعنى: "لا إله
إلا الله" . كانوا يعرفون أن الألوهية تعني الحاكمية العليا.. وكانوا يعرفون أن توحيد
الألوهية وإفراد الله-سبحانه- بها، معناه نزع السلطان الذي يزاوله الكهان ,ومشيخة
القبائل والأمراء والحكام، وردّه كله , إلى الله.. السلطان , على الضمائر،والسلطان
على ,الشعائر، والسلطان , على واقعيات الحياة، والسلطان في المال ،والسلطان
في القضاء،والسلطان في,الأرواح والأبدان.. كانوا يعلمون أن "لا إله إلا الله" ثورة
على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على ,الأوضاع
التي , تقوم, على قاعدة , من هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم
بشريعة من عندها لم يأذن بها الله.. ولم يكن يغيب عن العرب-وهم يعرفون لغتهم
جيداً ويعرفون المدلول الحقيقي لدعوة-"لا اله إلا الله" - ماذا تعني هذه الدعوة
بالنسبة لأوضاعهم ورياساتهم وسلطانهم، ومن ثم استقبلوا هذه الدعوة- أو هذه
الثورة- ذلك الاستقبال العنيف، وحاربوها هذه الحرب التي يعرفها الخاص والعام..
فَلِمَ كانت هذه نقطة البدء في هذه الدعوة؟ وَلِمَ اقتضت حكمة الله أن تبدأ بكل
هذا العناء؟
لقد بُعث رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بهذا الدين،وأخصب بلاد العرب وأغناها
ليست في أيدي العرب، إنما هي في أيدي غيرهم من الأجناس!
بلاد الشام كلهـا في الشمال خاضعة للروم،يحكمها أمراء عرب من قِبَل الروم، وبلاد
اليمن كلها في الجنوب خاضعة للفرس، يحكمها أمراء عرب من قبل الفرس، وليست
في أيدي العرب إلا الحجاز وتهامة ونجد، وما إليها من الصحاري القاحلة التي تتناثر
فيها الواحات الخصبة هنا وهناك...!
وربما قيل أنه كان في استطاعة محمد -صلى الله عليه وسلم-وهو الصادق الأمين
الذي حكَّمه أشراف قريش قبل ذلك في وضـع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ
خمسة عشر عاماً قبل الرسالة والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش
نسباً.. إنه كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب
التي أكلتها الثارات ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها
المغتصبة من الامبراطوريات المستعمرة.. الرومان في الشمال والفرس في
الجنوب.. وإعلاء راية العربية والعروبة، وإنشاء وحدة قومية في كل
أرجاء الجزيرة.
وربما قيل: أنه لو دعا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- هذه الدعوة لاستجابت له
العرب قاطبة، بدلاً من أن يعاني ثلاثة عشر عاماً في اتجاه معارض , لأهواء أصحاب
السلطان في الجزيرة....!
وربما قيل: أن محمداً-صلى الله عليه وسلم- كان حليفاً- بعد أن يستجيب له العرب
هذه الاستجابة، وبعد أن يولّوه فيهم القيادة والسيادة،وبعد استجماع السلطان في
يديه، والمجد فوق مفرقيه-أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعث
بها، في تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبَّدهم لسلطانه البشرى!
ولكن الله-سبحانه- وهو العليم الحكيم لم يوجِّه رسوله- صلى الله عليه وسلم- هذا
التوجيه!إنما وجهه إلى أن يصدعبـ"لا اله إلا الله" ، وأن يحتمل ,هو والقلة,التي
تستجيب له كل هذا العناء!