والتواضع من أبرز أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والنماذج التي تدل على تواضعه صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها:
أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- سُئِلَتْ: ما كان النبي يصنع في أهله ؟ فقالت : كان في مهنة أهله (يساعدهم)، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة. [البخاري].
وكان يحلب الشاة، ويخيط النعل، ويُرَقِّع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويشتري الشيء من السوق بنفسه، ويحمله بيديه، ويبدأ من يقابله بالسلام ويصافحه، ولا يفرق في ذلك بين صغير وكبير أو أسود وأحمر أو حر وعبد، وكان صلى الله عليه وسلم لا يتميز على أصحابه، بل يشاركهم العمل ما قل منه وما كثر.
وعندما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، دخلها صلى الله عليه وسلم خافضًا رأسه تواضعًا لله رب العالمين، حتى إن رأسه صلى الله عليه وسلم كادت أن تمس ظهر ناقته. ثم عفا صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة وسامحهم وقال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)[سيرة ابن هشام].
التواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس، وتدعو إلى المودة والمحبة والمساواة بين الناس، وينشر الترابط بينهم، ويمحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس، وفوق هذا كله فإن التواضع يؤدي إلى رضا المولى -سبحانه-.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله) [مسلم]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ تواضع لله رفعه الله) [أبو نعيم]. وعنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) [مسلم].
وقال الشاعر:
إذا شــِئْتَ أن تَـزْدَادَ قَـدْرًا ورِفْـــعَــة
فَلِنْ وتواضعْ واتْرُكِ الْكِبْـرَ والْعُجْـــبَا
يحكى أن ضيفًا نزل يومًا على الخليفة عمر بن عبد العزيز، وأثناء جلوسهما انطفأ المصباح، فقام الخليفة عمر بنفسه فأصلحه، فقال له الضيف: يا أمير المؤمنين، لِمَ لَمْ تأمرني بذلك، أو دعوت من يصلحه من الخدم، فقال الخليفة له: قمتُ وأنا عمر، ورجعتُ وأنا عمر ما نقص مني شيء، وخير الناس عند الله من كان متواضعًا.
وكان أبو بكر- رضي الله عنه- يذهب إلى كوخ امرأة عجوز فقيرة، فيكنس لها كوخها، وينظفه، ويعد لها طعامها، ويقضي حاجتها.
وقد خرج -رضي الله عنه - يودع جيش المسلمين الذي سيحارب الروم بقيادة أسامة بن زيد - رضي الله عنه - وكان أسامة راكبًا، والخليفة أبو بكر يمشي، فقال له أسامة : يا خليفة رسول الله ، لَتَرْكَبَنَّ أو لأنزلنَّ، فقال أبو بكر: والله لا أركبن ولا تنزلن، وما على أن أُغَبِّرَ قدمي ساعة في سبيل الله.
*وقد حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الدقيق على ظهره، وذهب به إلى بيت امرأة لا تجد طعامًا لأطفالها اليتامى، وأشعل النار،وظل ينفخ حتى نضج الطعام، ولم ينصرف حتى أكل الأطفال وشبعوا.
*ويحكى أن رجلا من بلاد الفرس جاء برسالة من كسرى ملك الفرس إلى الخليفة عمر، وحينما دخل المدينة سأل عن قصر الخليفة، فأخبروه بأنه ليس له قصر فتعجب الرجل من ذلك، وخرج معه أحد المسلمين ليرشده إلى مكانه. وبينما هما يبحثان عنه في ضواحي المدينة، وجدا رجلا نائمًا تحت شجرة، فقال المسلم لرسول كسرى: هذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. فازداد تعجب الرجل من خليفة المسلمين الذي خضعت له ملوك الفرس والروم، ثم قال الرجل: حكمتَ فعدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمر.
*جلست قريش تتفاخر يومًا في حضور سلمان الفارسي، وكان أميرًا على المدائن، فأخذ كل رجل منهم يذكر ما عنده من أموال أو حسب أو نسب أو جاه، فقال لهم سلمان: أما أنا فأوَّلي نطفة قذرة، ثم أصير جيفة منتَنة، ثم آتي الميزان، فإن ثَقُل فأنا كريم، وإن خَفَّ فأنا لئيم.
أن التواضع للمؤمنين وخفض الجناح لهم مما يرفع الله به المسلم ولا ينقصه، ولا تنقص به كرامته، بل تزيد كما قال صلى الله عليه وسلم: وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل.
فالتواضع إذا مشروع للمؤمنين، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }{الشعراء:215}.
وقد يكون ترك التواضع هو المشروع أحيانا لمصلحة شرعية، فالتكبر على الكفار في الحروب مشروع إغاظة لهم ونكاية فيهم، وكذا التكبر على من يزيده التواضع تماديا في غيه كالمتكبرين من أهل الدنيا، قال القرافي رحمه الله: وأصل الكبر التحريم، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَنْقُلُهُ عَنْ التَّحْرِيمِ إمَّا إلَى الْوُجُوبِ كَمَا فِي الْكِبْرِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَإِمَّا إلَى النَّدْبِ كَمَا فِي الْكِبْرِ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ تَقْلِيلًا لِلْبِدْعَةِ، وَالْإِبَاحَةُ فِيهِ بَعِيدَةٌ. انتهى.
وقال في بريقة محمودية: ورد التكبر على المتكبر صدقة، لأنه إذا تواضعت له تمادى في ضَلَالِهِ وَإِذَا تَكَبَّرْت عَلَيْهِ تَنَبَّهَ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: تَكَبَّرْ عَلَى الْمُتَكَبِّرِ مَرَّتَيْنِ ـ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: التَّجَبُّرُ عَلَى أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَوْثَقُ عُرَى الْإِسْلَامِ ـ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ مَنْ تَوَاضَعَ لِمَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ـ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ لِتَنْبِيهِ الْمُتَكَبِّرِ لَا لِرِفْعَةِ النَّفْسِ فَيَكُونُ مَحْمُودًا كَالتَّكَبُّرِ عَلَى الْجُهَلَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ، قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: التَّكَبُّرُ عَلَى مَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْك بِمَالِهِ تَوَاضُعٌ وَإلَّا عِنْدَ الْقِتَالِ مَعَ الْكُفَّارِ لِكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَإِيقَاعًا لِلْخَوْفِ وَالرُّعْبِ وَالْمَهَابَةِ عَلَيْهِم. انتهى.
فإذا علمت أين يحمد التواضع وأين يشرع ضده فقد بين العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ الفرق بين التواضع والمهانة وهو ما عبرت عنه بضياع الكرامة، فقال ما عبارته: وَالْفرق بَين التَّوَاضُع والمهانة أَن التَّوَاضُع يتَوَلَّد من بَين الْعلم بِاللَّه سُبْحَانَهُ وَمَعْرِفَة أَسْمَائِهِ وَصِفَاته ونعوت جَلَاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله وَمن مَعْرفَته بِنَفسِهِ وتفاصيلها وعيوب عَملهَا وآفاتها فيتولد من بَين ذَلِك كُله خلق هُوَ التَّوَاضُع وَهُوَ انكسار الْقلب لله وخفض جنَاح الذل وَالرَّحْمَة بعباده فَلَا يرى لَهُ على أحد فضلا وَلَا يرى لَهُ عِنْد أحد حَقًا، بل يرى الْفضل للنَّاس عَلَيْهِ والحقوق لَهُم قبله وَهَذَا خلق إِنَّمَا يُعْطِيهِ الله عز وَجل من يُحِبهُ ويكرمه ويقربه، وَأما المهانة فَهِيَ الدناءة والخسة وبذل النَّفس وابتذالها فِي نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السّفل فِي نيل شهواتهم وتواضع الْمَفْعُول بِهِ للْفَاعِل وتواضع طَالب كل حَظّ لمن يَرْجُو نيل حَظه مِنْهُ فَهَذَا كُله ضعة لَا تواضع وَالله سُبْحَانَهُ يحب التَّوَاضُع وَيبغض الضعة والمهانة، وَفِي الصَّحِيح عَنهُ صلى الله عليه وسلم : وَأوحى إِلَي أَن تواضعوا حَتَّى لَا يفخر أحد على أحد وَلَا يَبْغِي أحد على أحد. انتهى.
والله أعلم.
وفي الختام أسأل الله بمنه وكرمه أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه دوما وأبد ويصلح لنا سرائرنا وعلانيتنا ويهدينا لطريق الحق ويرزقنا اتباعه غير مفرطين ولا مبتدعين ويجنبنا طريق الباطل وأهله ويجعلنا من عباده المتقين الفائزين بالنظر لوجهه الكريم وسكنى دار النعيم .. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .