01-23-2013, 11:23 PM
|
|
بيعة الرضوان - لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فإن القارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتاريخ دعوة الإسلام يجد ارتباطًا وثيقًا بين أحداثها ومجرياتها
وخير ما يشهد لهذه المقولة " بيعة الرضوان " ، إذ كانت ذات علاقة وثيقة بصلح الحديبية
وربما كانت سببًا مباشرًا لهذا الصلح ، الذي كان خيرًا للمسلمين ، وفتحًا مبينًا للجماعة المؤمنة .
وفيما يلي شيء من تفصيل مجريات وملابسات بيعة الرضوان , ذلك الحدث الجلل في حياة الدعوة الإسلامية وتاريخها المجيد .
ذلك أنه لما استقر أمر المسلمين بالمدينة ، وأسسوا دولتهم الفتية
وأخذت الأمور تسير إلى حد كبير لصالحهم ، بدأت طلائع الفتح الإسلامي
ورايات الدعوة الإسلامية تبدو شيئًا فشيئًا ، وبدأت التمهيدات والاستعدادات لإقرار حق المسلمين
في أداء عبادتهم في المسجد الحرام ، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام ، وهو بالمدينة ، أنه داخل هو وأصحابه المسجد الحرام
وآخذ مفتاح الكعبة ، وطائف بالبيت العتيق , فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا بهذه الرؤية فرحًا شديدًا
وتشوَّقت نفوسهم لتلك الساعة ، وحسبوا أنهم داخلو مكة خلال وقت ليس بالبعيد .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى إثر تلك الرؤيا المبشرة ، أخبر أصحابه أنه معتمر
وطلب منهم أن يأخذوا أهبة السفر ، فتجهزوا لما أمرهم به , واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم .
وخرج قاصدًا مكة غرة ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة , وصحبته في هذا السفر زوجته أم سلمة رضي الله عنها
وكان عدد الذين خرجوا معه يريدون مكة قد قاربوا ألفًا وأربعمائة رجل
ولم يخرج معه أحد بسلاح المعركة ، بل خرج الجميع بسلاح المسافر فحسب .
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم قد عقدت جلسة طارئة
لبحث الموقف وتداعياته ، وخرجت من تلك الجلسة بقرار جماعي
حاصله صد المسلمين عن البيت الحرام كيفما كان ، ومهما كلفها ذلك من ثمن .
ثم إن قريشًا بدأت خطواتها التنفيذية ، وإجراءاتها العملية لمواجهة الموقف
بإرسال الرسل للمفاوضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عسى أن تثمر تلك المفاوضات عن ثنيه عن عزمه وقصده من دخول البيت الحرام .
ولما رأى شباب قريش الطائشون ، الطامحون إلى الحرب ، رغبة زعمائهم في الصلح
فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح ، وأخذوا زمام المبادرة
إذ إن الموقف - حسب منطق هؤلاء - لم يكن يحتمل المفاوضة ، ولا يتسع للأخذ والمناورة
فقرروا - حسمًا للموقف - أن يخرجوا ليلاً ، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين ، ويحدثوا أحداثًا تشعل نار الحرب
وتؤجج سعير المعركة , وفعلاً قاموا بتنفيذ هذا القرار ، واتخذوا خطوات عملية وميدانية في هذه الاتجاه
فخرج منهم سبعون أو ثمانون رجلاً ليلاً ، وهبطوا من جبل التنعيم ، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين .
بيد أن عيون المسلمين كانت لهم بالمرصاد ، فحالما تسلل أولئك النفر إلى المكان
الذي كان ينـزل فيه المسلمون اعتقلوا جميعًا ، وفشلت محاولتهم التي كانوا يرمون إليها
وأخذوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقرر في أمرهم ما يراه مناسبًا للموقف .
ورغبة منه صلى الله عليه وسلم في الصلح ، وتمشيًا مع القصد الذي خرج صلى الله عليه وسلم لأجله
فقد أطلـق سراحهم وعفا عنـهم ، وفي ذلك أنزل الله قوله الكريم :
{ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم } (الفتح:24) .
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ قريشًا موقفه وهدفه وغايته من هذا السفر
فعزم على أن يبعث إليها سفيراً يؤكد لها موقفه ذلك ، فانتدب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليرسله إليهم
فاعتذر عمر رضي الله عنه قائلاً :
يا رسول الله ، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب ، يغضب لي إن أوذيت
فأرسلْ عثمان بن عفان ، فإن عشيرته بها ، وإنه مبلِّغ ما أردت .
فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه ، وأرسله إلى قريش
وقال : أخبرهم أنا لم نأتِ لقتال وحرب ، وإنما جئنا عُمَّارًا - أي : نبتغي العمرة - وادعهم إلى الإسلام
وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ، ونساء مؤمنات ، فيبشرهم بالفتح
ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة ، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان .
فانطلق عثمان رضي الله عنه لما وجَّهه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى قريشًا
وبلَّغ زعماءها الرسالة التي حمَّله إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغ من إبلاغ رسالته
عرضوا عليه أن يطوف بالبيت ، فرفض هذا العرض ، وأبي أن يطوف إلا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلما رأت قريش هذا الموقف من عثمان رضي الله عنه ، وهو موقف لم يَرُقْ لها بحال
لجأت إلى أسلوب الضغط والتهديد ، فاحتبست عثمان رضي الله عنه عندها
- ولعلها أرادت من وراء هذه الخطوة أن تتشاور فيما بينها في الوضع الراهن ، وتبرم أمرها .
- أو لعلها أرادت أن تتخذ من عملية اعتقال عثمان رضي الله عنه ورقة ضغط في وجه المسلمين .
وأشاعت خبر ذلك بين المسلمين ، وطال احتباس عثمان رضي الله عنه ، حتى شاع بين المسلمين أنه قتل !
فلما بلغ خبر تلك الإشاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( لا نبرح حتى نناجز القوم )
ثم دعا أصحابه إلى البيعة ، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا ، وبايعته جماعة على الموت
- وأول من بايعه أبو سنان الأسدي
- وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مراتفي أول الناس ووسطهم وآخرهم
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال : ( هذه عن عثمان )
ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له : جَدُّ بن قَيْس .
وقد ذكر القرآن الكريم خبر هذه البيعة ، ومدح أصحابها ، ورضا الله عنهم
قال الله تعالى في ذلك :
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا (الفتح:18)
ولأجل ما ذكر الله ، سميت هذه البيعة ( بيعة الرضوان )
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة من صحابته رضوان الله عليهم تحت شجرة
وكان عمر رضي الله عنه آخذًا بيده ، و مَعْقِل بن يسار آخذًا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكرت كتب السيرة خبر هذه البيعة بطرق متعددة ، وبألفاظ متقاربة من ذلك ما رواه الطبري عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، قال :
بينما نحن قافلون من الحديبية ، نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم :
{ أيها الناس ، البيعة البيعة ! نزل روح القدس! }
قال: فسرنا إلى رسول الله ، وهو تحت شجرة سمرة ، قال : فبايعناه
قال : وذلك قول الله تعالى : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }
فأخبر سبحانه نبيه أنه قد رضي عن أصحابك المؤمنين ، لمبايعتهم إياك على الجهاد
ومواجهة قريش في موقفها العنيد ، وعلى أن لا يفروا ولا يولوهم الأدبار ، مهما كلفهم ذلك من التضحيات .
وكان أول من بايع بيعة الرضوان رجل يقال له أبو سنان ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال : يا رسول الله أبسط يديك حتى أبايعك ، فقال : على ماذا ؟
قال : على ما في نفسك قال : وما في نفسي ؟ ، قال : الفتح أو الشهادة .
فبايعه ، وكان الناس يجيئون فيقولون : نبايع على بيعة أبي سنان .
قال ابن اسحاق صاحب السيرة : فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس
ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بني سلمة
قال : كان جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، يقول : لكأني أنظر إليه ، لاصقًا بإبط ناقته
قد ضبأ ( أي : لصق بها واختبأ ) إليها ، يستتر بها من الناس .
ولما تمت البيعة المرضية ، رجع عثمان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال له بعضهم : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت ؟ فقال : بئس ما ظننتم بي
والذي نفسي بيده لو مكثت بها سنة و رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها
حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت
فقال المسلمون : رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله ، وأحسننا ظنًا .
وقد ثبت في صحيح الحديث - ناهيك على ما جاء في القرآن -
الشهادة بالجنة لجميع من شهد بيعة الرضوان عام الحديبية ؛ فعن أم مبشر رضي الله عنها :
أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها :
لا يدخل النار - إن شاء الله - من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها
قالت : بلى يا رسول الله ! ، فانتهرها ، فقالت حفصة : { وإن منكم إلا واردها } (مريم:71)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قد قال الله عز وجل :
{ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } (مريم:72) رواه مسلم
وفي سنن أبي داود : ( لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة )
وفي المصنف لابن أبي شيبة قال: السابقون الأولون ، من أدرك بيعة الرضوان .
وقد وعد سبحانه هؤلاء بالجنة ، قال الله تعالى :
{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه
وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم } (التوبة:100) .
|