كانت الشمس محجوبة بغبار اصفر...والطرق مسدودة بالصبات الخرسانية..بمشقة وصلت مشفى غزة الذي يغص
بالناس..المرضى ومرافقيهم والمصابين كل يوم من جرائ القصف,وسيارات الاسعاف تقف امام المداخل الخارجية لبوابات المشفى...قبل ان اقترب من الإستقبال رأيتهم ينتظرونني..شعرت بمثل ما كنت اشعر في المغربيات التي استيقظ بها من الحمى..وشعرت بثقل قدمي,وبركبتي تخوران وتعجزان عن حملي...كنت اشعر رغم هذا الوهن في عظامي بقوة ما تحملني وتسيرني,وانني محمولة بموج سيل جارف يدفعني لأمضي.
نظروا الي واللون الأصفر يعلو وجوههم ويعلو كل شيء ويصعد للسماء...تقدم الطبيب بهدوء وخلفه آخرون وهالة من الصفار بيني
وبينهم ..كان يتمتم بكلام ويتأوه,لم اسمعه جيدا..كان الصفير الحاد يضج في أذني(آه كبدي)..لقد رأيتها..ملقاة على السرير بلا غطاء..
وحول رأسها عصابة بيضاء.. احسست بكبدي الممزقة..وضعت يدي عليها كان ما لمسته حارا يكوي أصابعي شعرت بها تتفطر..قطعا
صغيرة غير مرتبة.. كفاها الصغيران ملقان هكذا فقط الى جانبها..كانت العصابة الطبية حول رأسها تغطي كل شعرها الذي كنت اربيه
لها لكي اجعله ظفيرتين أو ذيل حصان..ليتها تستيقظ الآن لنلعب قليلا لعبة الإختباء او اي لعبة تريد,ربما هي متعبة وتريد ان احكي لها
حكاية..سنعيد ترتيب غرفتها وسنقوم معابتحميم الديناصور الصغير مع امه..وسنذهب كل يوم لبستان(جدو)ونجمع الفراش والدود الأخضر,لدينا الكثير من الأعمال الرائعة سنقوم بها..لن يكون لدينا غيرها,لن أنشغل عنها بأي شيئ ولا حتى بإشوربة العدس لجيراننا المصابين بالقصف,(سأصنع وقتا لك).. علت الأصوات من خلفي..(بأنها لم تتألم كثيرا..وهذه رحمة من الله نظرا لإصابتها الخطيرة..وأنه هنيئا لي فهي شهيدة بإذن الله,وستشفع لي يوم القيامة وفي سبعين من اهلها).. كانوا جميعا يتكلمون دفعة واحدة بما يشبه الهذيان,وبعضهم يردد منذ دخلت(الله اكبر.. الله أكبر) احتضنتها.. شعرت بها تلمس قلبي الفارغ ..كان هناك فراغ كبيريؤلمني في الجهة اليسرى لا استطيع التنفس حتى اضع يدي عليه,تدحرج كفها الصغير مكانه..لمسته..لقد كان مجرد هوة فارغة مظلمة,شعرت بكل ذلك ولم اشعر بذراعيها الصغيران الطريان يلتفان حول عنقي..ولم تحاول ان تلمس بيدها كتفي..ولم أسمع صوت تنفسها الهادئ الرتيب,لم اشعر بنفسها الحار قرب
أذني..آه كان وجهها جامدا..وهي لا تتحرك ابدا.. هل حقا ما يقال..هل ذهبت هكذا بكل بساطة..كيف رحلت؟..كيف ذهبت هذه الروح؟..
كيف استطاعت مغادرة هذا الجسد الطاهر؟..بأية قوة..بينما تسكن اجسادا مثقلتا بالذنوب والآثام بدون ان تتململ من ذلك..هل رحلت حقا هكذا بسرعة؟..قبل ان تذهب للمدرسة..قبل أن تركب الباص(لقد وعدتها بذلك).. وقبل أن يكون لها معلمة تفضلها عن غيرها..لن يتسنى لي سؤالها بعد الآن اي زميلاتك الأحب لديك..يبدو حقيقيا ما يقولونه..إنها شهيدة..تطير في عليين الآن,وما أمامي فقط جثة..أما روحها الحبيبة
فتحلق هناك في عدن..آه نعم..لا بأس بذلك..لا بأس به انما على الآن ان أعيش بعدها..من دونها.. فقط لأرا قتلتها أمام عيني يستمتعون
بكل نفس حرموها منه..هي احق به منهم ..اراهم يقبلون اطفالهم..يوصلونهم للمدرسة..يستقبلونهم منها..ويسألونهم ماذا درسوا اليوم بينما
حرموني من كل ذلك..أعيش فقط لأتحسس مكان قلبي الفارغ.....
بدي ردووووووووووووووووووووووووووووووووووووود