– كشك عم ( صبحي )
استقل ( يوسف ) المترو ليتجه أثناء عودته من الجامعة إلى سور الأزبكية , حيث أنة قد قرر أن يزور صاحب الكشك العجوز ليسأله عن مصدر المخطوطة .... فنزل إلى المحطة المنشودة ولكنة فشل في اختيار السلم الصحيح الذي سيقوده إلى سور الأزبكية ...!! حتى أنة تاه مرتين حتى وجد السلم أخيراً , فصعد حتى رأى المشهد الذي أحترمه ( يوسف ) كثيراً , مشهد الأكشاك المتراصة جنباً إلى جنب والمليئة بأصناف الكتب من شتى المجالات .... ذهب صديقنا في اتجاه الأكشاك وهو يبحث بعينية عن الكشك الذي أشترى منه المخطوطة
هل هو هذا ؟ لا ليس هو فالثاني كان أصغر من ذلك ... ولا هذا ولا هذا ...... وفجأة توقف ( يوسف ) عند مجموعة أكشاك متراصة , وقد بدأ يتذكر أشكالها ويتذكر أن الكشك المقصود في تلك النقطة بالذات ...... أخذ يتمشى حتى رأى المقعد الحديدي الطويل الذي كان أمام الكشك الصغير , والذي كان يريد صديقة أن يستريح علية في المرة السابقة
* * *
- << لقد تعبت من المشي هيا بنا نستريح على ذلك المقعد الحديدي >>
كانت تلك العبارة من صديق ( يوسف )
فأجابه ( يوسف )
- << كشك أو أثنين ونعود للمترو مرة أخرى >>
وهنا رأى ( يوسف ) رجل عجوز يجلس داخل كشك _ أمام المقعد الحديدي _ على الأرض فشدة المنظر ودخل إلى الكشك ...
* * *
تذكر ( يوسف ) ذلك المقعد فنظر أمامه ولكنه لم يجد الكشك بل وجد مكان خالي وبه شجرة تملأها الأغصان الخضراء ...!!
كاد أن يجن ..... فجرى ناحية الكشك المجاور لتلك البقعة الخالية ودخله ليجد فتى في سن المراهقة يمسك مجلة ويتصفحها
- << تحت أمرك يا باشا >>
- << إذا سمحت أين الكشك المجاور لكم ؟ >>
- << ماذا تقصد ؟ >>
- << في تلك البقعة الخالية التي بها شجرة كان هناك كشك صغير يجلس به رجل عجوز >>
نظر الفتى لعين ( يوسف ) حتى يتأكد أنه لا يمزح , ثم ضحك بسخرية وقال
- << لا يوجد كشك في مكان الشجرة .... لأنة ببساطة تلك الشجرة مزروعة من خمسة عشر عاماً ..... فلا يمكن أن نبني كشكاً عليها إلا بعد أن نخلعها من جذورها >>
- << مستحيل ...!! لقد هناك كشك صغير يجلس به عجوز ويبيع كتباً قديمة >>
هنا دخل الكشك رجلاً يلبس جلباباً , ويبدوا أنة في أواخر الثلاثينات ، فنظر إلى ( يوسف ) والفتى ثم ألقى السلام ..... فقال له الفتى
- << شوفت يابا ....! الأستاذ يسأل عن كشك يجلس فيه رجل عجوز .... والكشك مكان الشجرة التي بجانبنا ..!! >>
نظر الرجل إلى ( يوسف ) نظرة شك , يتأمله من أسفل إلى أعلى , ثم قال
- << أحكي لي يا بني ماذا تريد ؟ >>
- << لقد اشتريت منذ ثلاثة أيام مخط ... أقصد كتاباً من الكشك الذي بجانبك .... والذي أرى مكانة الآن شجرة مزروعة .....! هل أنا جننت لهذه الدرجة >>
- << ربما أخطأت المكان وتشابهت الأكشاك عندك >>
- << لقد كنت أحدد مكان الكشك عن طريق الكرسي الحديدي الذي أمامه فكيف أخطئ >>
- << صف لي صاحب الكشك ؟ >>
- << عينية اليسرى ممسوحة وكأن عليها سحابة .... عجوز بدرجة كبيرة ووجهه ملئ بالتجاعيد .... عينية الوحيدة التي يرى بها ضعيفة كما قال لي >>
يبدوا أن الرجل قد أضيقت عيناه وهو ينظر لـ ( يوسف ) بتمعن , حتى قال له ببطء
- << أعتقد أنك بذلك تصف عم ( صبحي ) , ولكن المشكلة أنك لن تجده في سور الأزبكية الآن .... >>
<< ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ >>
<< لن تجده في سور الأزبكية الآن لأنة في مقبرته ..... لقد توفي عم ( صبحي ) منذ ما يقارب السبعة عشر عاماً .... وكان يمتلك كشكاً بجانب هذا الكشك فعلاً ..... ولكن يبدوا أن أحدهم قد وصف لك المكان والشخص .... ماذا يحدث لك يا بني لماذا أنت مندهش هكذا ؟ .... اجلس يا بني فالإعياء يبدوا عليك بشدة , هل أنت من طرف أحد أقربائه أم ماذا ؟ >>
* * *
فلمح بعينية حجراً على أحد القبور مكتوب علية المتوفى إلى رحمة الله محمد السالمي اللحاد أدخلة الله فسيح جناته * فأندهش بن إسحاق كيف كان يكلمه محمد السالمي وهو من الأموات *
* * *
أنة في إحدى رحلاته داخل مصر .. قد دخل مدينة كل من بها أموات .. ورأى فيها العجب ... حتى أنة قال بأنة رأى شخص ميت يتحدث معه وجهاً لوجه ..
* * *
بالتأكيد لن نقدر على وصف شعور ( يوسف ) من داخلة , فقد كان في حالة من التشتت الفكري , لا يعرف ماذا يفعل .... هناك شجرة مكان الكشك ؟ ربما أخطأ المكان .. ولكن هذا الرجل عرف الوصف وقال أنة شخص ميت ... ميت ....!!! رباه ... لقد جننت
- << لا لست أحد أقرباءه .... ولكن يبدوا أنني أخطأت في وصف المكان ... أو وصف الرجل ....أو ربما كليهما , شكراً لكما >>
- << ولكنك قلت أنك اشتريت من صاحب الكشك شيئاً ؟ >>
- << لقد كنت أقصد رجل أخر بالتأكيد ....!! >>
غادر ( يوسف ) الكشك وهو يحس بالخواء العقلي , عقلة يأبى أن يفكر في شيء , كيف يفكر عقلة وهو لا يفهم شيئاً مما حدث ...... الكرسي الحديدي .... أوصاف الرجل ...... الشجرة الموجودة مكان الكشك ........ كل تلك تؤدي لنتيجة غريبة .... إما أن ( يوسف ) قد توهم كل شيء ... وإما أن الرجل الذي قابلة منذ قليل كاذب ....!
الاحتمال الأول يمكنه التأكد من خطأه , لأن صديقة كان معه ... ويمكنه أن يتأكد عندما يعود لمنزلة من وجود المخطوطة معه , الاحتمال الثاني يبدوا خاطئاً أيضاً .... لأن هناك شجرة لا يمكن أن توجد هنا قبل سنين عديدة ..... ويمكن أيضاً التأكد من صحة كلام الرجل ببعض الأسئلة البسيطة لأصحاب باقي الأكشاك بالسور ....!
تباً لهذا العقل , دائماً يحاول إثبات فروض أخرى غير الحقيقة التي توصل لها منذ زمن .... عقلة يحاول إثبات أي شيء أخر غير الحقيقة التي بدأت تتشكل في ذهنه .... يبدوا أن الحقائق التي تقابله قد ازدادت هذه الأيام .....
إنه منذ يومان قد حصل على مخطوطة نادرة .... وقد حصل عليها من .....
شخص ميت منذ سبعه عشر عاماً
يبدوا أنه قد أقترب كثيراً من مستشفى العباسية ...
* * *
كان أول ما فعلة ( يوسف ) عند وصولة لمنزلة أن يطمئن على وجود المخطوطة ... فهو برغم كل هذا قد شك لحظة في أنة يهلوس وأنة لم يشتري شيئاً ... ولكنة وجدها ..... لم وجدها , لقد كان يتمنى ألا يجدها .... فإذا لم يكن قد وجدها كان يمكنه أن يفسر الموضوع تفسيراً سهلا .... هو مجنون ويتخيل أشياء ليست لها وجود ...
ولكن المشكلة أنة متأكد من أنة لا يهلوس ...! إذن فبكل بساطة علية أن يتقبل فكرة أنة يمتلك مخطوطة من الهواء , لا يعرف كيف ولا من من اشتراها ....
فيلم رعب ... هذا فيلم رعب من تلك الأفلام التي تذخر بها السينما الأمريكية .... حينما يعرف البطل أن كل من حوله أموات ... حينها يهب كالمجنون يقتل كل أبطال الفيلم وينقذ حبيبته .... حبيبته .!!
طالما أنة يمثل دور البطل في هذا الفيلم إذن من ستكون الحبيبة التي سينقذها ....؟
- << حبيبة >>
كانت تلك من والدته وهي تنادي علية من غرفة الصالون .... اندهش للحظات , حتى أتاه صوت أمة وهي تكمل عبارتها
- << حبيبة زميلتك في الكلية عايزاك في التليفون >>
أه .... هذه هي البطلة التي علية أن ينقذها إذن ..... لم يمنع نفسه من الابتسام وهو يتجه إلى الصالون ....
- << الو >>
- << ازيك يا ( يوسف ) ؟؟ >>
- << الحمد لله .... عاملة إيه ؟ >>
- << الحمد لله .... لماذا لم تأتي إلى الكلية اليوم ؟ >>
- << كنت في كلية الآداب .... أنهي بعض الأشياء >>
ثم نظر ( يوسف ) خلفه ليطمئن إلى أن والدته قد رحلت , وعندما تأكد من عدم وجود أحد قال بصوت هامس
- << وحشتيني >>
ردت علية ( حبيبة ) بصوت هامس
- << وأنت كمان وحشتني .... ماذا كنت تفعل في كلية آداب ؟؟ >>
- << موضوع يطول شرحه .... سأشرح لك كل شيء عندما نتقابل غداً ... هل ستأتين ...؟ >>
- << سأحاول .... أبي يعرف جدول المحاضرات جيداً ... وغداً لا توجد محاضرات ... >>
- << حاولي بأي طريقة ..... كأن تقولي أنك ذاهبة لشراء مذكرات أو كتاب جديد لدكتور ... أي شيء >>
- << سأحاول ولكن لا أعدك .... لو نجحت سأرن لك من موبايلي قبل خروجي من المنزل بساعتين .... ( يوسف ) سأضطر لإغلاق الخط الآن قبل أن يصل بابا في أي لحظة >>
- << سأنتظرك غداً عند مكاننا ..... لا اله إلا الله >>
<< إن شاء الله ..... محمد رسول الله >>
أغلق ( يوسف ) السماعة , وجلس على أحد المقاعد التي بجانبه وهو يفكر , ذهنه صافي الآن ... لا توجد مشاكل من شاكلة مخطوطة بن إسحاق ولا الأشخاص الأموات الذين يعودون للحياة .... لقد نظفته هذه المكالمة من الداخل .... فهو يعشق ( حبيبة ) زميلته في الجامعة منذ أن رآها أول مرة ..... لقد جذبة أسمها عندما نطقته إحدى صديقاتها وهي تنادي عليها , فنظر لصاحبة الاسم ليرى إحدى ملكات الجمال .... كانت ترتدي الحجاب , ولكنة زادها جمالاً ... تخيل أنك تقف أمام شيء يتوهج بالنور الأبيض الصافي ... هذا هو وجه ( حبيبة ) ....
تخيل أنك تسمع صوت العصافير الرقيقة وهي تغني _ إن كانت تغني _ على الأشجار ... هذا هو صوت ( حبيبة ) .... عندما رآها أول مرة لم يمنع عينية من النظر لها ..... لم يمنع عينيه إلا عندما نظرت هي مصادفة لتلتقي عينه بعينيها .... التقت عيناهما لحظات حتى أدار ( يوسف ) وجهه خجلاً منها ....
ومن تلك اللحظة لم يكن ( يوسف ) يترك لحظة إلا ولو حاول اختلاس النظر لعينيها .... وهي كانت تلاحظ ذلك مندهشة .... فهي تعرف أن الشباب لا يخجلون من شيء .... ولو أراد أن يتعرف عليها لذهب إليها وتعرفا في لحظتها .... لكن أن يحاول أن ينظر فقط إلى عينيها , فهذا ما جعلها هي الأخرى تنظر له بين الحين والأخرى , حتى إذا التقت عيناهما ابتسما ابتسامه خفيفة وأدار كل منهم وجهه للناحية الأخرى ...
ظل الحال هكذا يومين حتى , لاحظ أحد أصدقاء ( يوسف ) إعجابه بها , فتعرف إلى صديقتها حتى يعرف ( يوسف ) بهم , وتم التعارف وأنتقل الموضوع ببطء من مرحلة الصداقة التي استمرت لشهر إلى مرحلة الحب ... في الحقيقة لم يكن ( يوسف ) يعرف كيف يعرف أنة يحب بحق ...؟
لكنة أراح نفسه من عناء التفكير واعتبر نفسه يحبها بحق ... وقد سمع الكثير من أصدقاءه وأقرباءه عن الحب الأول ..وكيف أنة يفشل دائماً بلا سبب , أما لو نجحت قصة أو قصتين من قصص الحب الأول فهذا هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة , بل ويذكر له أصدقاءه الأمثلة الكثيرة عن فلان الذي أحب فلانة ولكنة لم يتزوجها وتزوج علانة وأنجب ولداً وهو يعيش سعيداً الآن ....
كاد يموت من الغيظ وهو يسمع تلك الرواية من كل الناس باختلاف طرق روايتها , وكأنهم يقولون حكم ونبوءات وكأن السعادة في نظرهم أن تتزوج أي فتاه وتنجب ولداً وتأتي كل يوم المنزل وأنت تحمل كيلو ( موز ) وكيلو ( جوافة ) لتأكلوهم هانئين .... هذه هي السعادة في نظرهم .... سعادة خيالية لأن من داخلها ملل وتعود .... جيل ملول ينتج جيل ملول ...
فجأة توقع له الناس أن حكاية حبة الأولى ستفشل مائه في المائه ... لأنها قاعدة معروفة ..... يبدوا أنهم لم يسمعوا عن ما يسمى القدر , ومشيئة الله عز وجل , أو عن النصيب .....
وبرغم كل الحكايات التي ملئوا بها أذنه ... استمر حبه لـ ( حبيبة ) لثلاث سنوات ... إذن ما المشكلة ..... إن الأغبياء ليسـ ....
ما هذا الذي يسمعه ...؟
إنه آذان المغرب يتردد من المسجد القريب ..
قام ليتوضأ حتى يلحق صلاه المغرب بالمسجد ...... أتم وضوءه ثم خرج من المنزل وهو يدعوا متجهاً للمسجد ....
......................................
يتبع