التوبة
الحمد لله الذي بتحميده يستفتح كل كتاب، وبذكره يصدر كل خطاب، وبحمده يتنعم أهل النعيم في دار الثواب، وباسمه يتسلى الأشقياء وإن أرخي دونهم الحجاب، وضرب بينهم وبين السعداء بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.
ونتوب إليه توبة من يوقن أنه رب الأرباب ومسبب الأسباب، ونرجوه رجاء من يعلم أنه الملك الرحيم الغفور التواب، ونمزج الخوف برجائنا مزجَ من لا يرتاب، أنه مع كونه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب.
ونصلي على نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه صلاة تنقذنا من هول المطلع يوم العرض والحساب، وتمهد لنا عند الله زلفى وحسن مآب.
أما بعد..
(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم)
(يا أيها الذين امنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين امنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير) التحريم (آية 8)
التوبة النصوح: هي البالغة في النصح وهو صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة، وصفت به على الإِسناد المجازي مبالغة أو في النصاحة، وهي الخياطة كأنها تنصح ما خرق الذنب، وهي التي لا عودة بعدها.
وسمع عليّ أعرابياً يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، قال: وما التوبة؟ قال: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وعلى الفرائض الإعادة، ورد المظالم، واستحلال الخصوم، وأن يعزم على أن لا يعودوا، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي.
وعن حذيفة: بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه. انتهى
(عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار) ذكر بصيغة الأطماع جرياً على عادة الملوك، وإشعاراً بأنه تفضل والتوبة غير موجبة وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء. { يَوْمَ لاَّ يُخْزِى الله النبي } ظرف لـ { يدخلكم } { والذين ءامَنُواْ مَعَهُ } عطف على النبي عليه الصلاة والسلام إحماداً لهم وتعريضاً لمن ناوأهم، وقيل مبتدأ خبره: { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم } أي على الصراط. { يَقُولُونَ } إذا طفىء نور المنافقين. { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } وقيل تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلاً. أمر الله تعالى بالتوبة في آيات كثيرة من القرآن الكريم فقال سبحانه:
(وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله).
(استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا).
(ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما).
(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم).
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مغَفِرَةٍ للنَّاِس عَلَى ظُلمِهِم).
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ).
(أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى الله ويَستَغفِرونَهُ واللهُ غَفُورُ رَحيمٌ).
(فَإِن تُبتُمُ فَهُوَ خَيرٌ لَكُم).
(ثُمَّ تَابَ علَيهِم لِيَتُوبُوا).
(وَاستَغفِروا رَبَّكُم ثُمَّ تُوبُوا إلَيهِ إِنَّ رَبِّى قَرِيبٌ مُجِيبٌ).
(وَتُوبُوا إِلى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤمِنُونَ لَعَلَّكُم تُفِلحُونَ).
(إِلاَّ مَن تَابَ وَآمنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سِّيئَاتِهِم حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
(فَأَمَّا من تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكونَ من المُفلِحِينَ).
(حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيم غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوبِ).
(وهُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعفُو عَنِ السَّيِّئاتِ).
(يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوبَةً نَصُوحاً).
قَالَ العلماءُ: التَّوْبَةُ وَاجبَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْب، فإنْ كَانتِ المَعْصِيَةُ بَيْنَ العَبْدِ وبَيْنَ اللهِ تَعَالَى لاَ تَتَعلَّقُ بحقّ آدَمِيٍّ فَلَهَا ثَلاثَةُ شُرُوط:
أحَدُها: أنْ يُقلِعَ عَنِ المَعصِيَةِ.
والثَّانِي: أَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا.
والثَّالثُ: أنْ يَعْزِمَ أَنْ لا يعُودَ إِلَيْهَا أَبَداً. فَإِنْ فُقِدَ أَحَدُ الثَّلاثَةِ لَمْ تَصِحَّ تَوبَتُهُ.
وإنْ كَانَتِ المَعْصِيةُ تَتَعَلقُ بآدَمِيٍّ فَشُرُوطُهَا أرْبَعَةٌ: هذِهِ الثَّلاثَةُ، وأنْ يَبْرَأ مِنْ حَقّ صَاحِبِها، فَإِنْ كَانَتْ مالاً أَوْ نَحْوَهُ رَدَّهُ إِلَيْه، وإنْ كَانَت حَدَّ قَذْفٍ ونَحْوَهُ مَكَّنَهُ مِنْهُ أَوْ طَلَبَ عَفْوَهُ، وإنْ كَانْت غِيبَةً استَحَلَّهُ مِنْهَا.
ويجِبُ أنْ يَتُوبَ مِنْ جميعِ الذُّنُوبِ، فَإِنْ تَابَ مِنْ بَعْضِها صَحَّتْ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أهْلِ الحَقِّ مِنْ ذلِكَ الذَّنْبِ وبَقِيَ عَلَيهِ البَاقي. وَقَدْ تَظَاهَرَتْ دَلائِلُ الكتَابِ والسُّنَّةِ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ عَلَى وُجوبِ التَّوبةِ.
قَالَ الله تَعَالَى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور: 31 ]، وَقالَ تَعَالَى: { اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ } [ هود: 3 ]، وَقالَ تَعَالَى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحا } [ التحريم: 8 ].
(1)- وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: سمعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: (( والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً )) رواه البخاري.
(2)- وعن الأَغَرِّ بنِ يسار المزنِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلى اللهِ واسْتَغْفِرُوهُ، فإنِّي أتُوبُ في اليَومِ مئةَ مَرَّةٍ )) رواه مسلم.
(4)- وعن أبي موسَى عبدِ اللهِ بنِ قَيسٍ الأشْعريِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: (( إنَّ الله تَعَالَى يَبْسُطُ يَدَهُ بالليلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها )) رواه مسلم.
(5)- وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( مَنْ تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِها تَابَ اللهُ عَلَيهِ )) رواه مسلم.
أسباب التوبة: 1- انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة. ويصل إلى هذه الجملة بالتوفيق للإصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق، سبحانه، يسمع قلبه، فإنه جاء في الخبر "واعظُ الله في قلب كل امرئ مسلم ".وفي الخبر: " إن في البدن لمضغة إذا صلحَت صلح جميع البدن وإذا فسدت فسد جميع البدن، ألا وهي: القلب ".
فذا فكر بقلبه في سوء ما يصنعه، وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال، سنح في قلبه إرادة التوبة، والإقلاعُ عن قبيح المعاملات فيمدُّه الحق، سبحانه بتصحيح العزيمة، والأخذ في جميل الرجعي.
ولا يتم ذلك: إلا بالمواظبة على المشاهدة التي تزيد رغبته في التوبة وتوفَر دواعيه على إتمام ما عزم عليه. مما يقوِّي خوفه ورجاءه: فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه من قبيح الأفعال، فيقف عن تعاطي المحظورت، ويكبح لجام نفسه عن متابعة الشهوات فيفارق الزلةَّ في الحال، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها في الاستقبال.
فإن مضى على موجب قصده، ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا.
2- هجران إخوان السوء؛ فإنهم هم الذين يحملونه على ردّ هذا القصد ويشوشون عليه صحة هذا العزم.
3- ترك المكان الذي حصلت فيه المعصية إن كان مكاناً يذهب إليه، وتطهير المكان من دواعي الذنوب إذا كان في بيته أو في مكان لا يمكنه هجره.
4-اللجوء إلى الله تعالى متضرعاً أن يتوب عليه، وينقذه من الذنوب والآفات.
وإن نقض التوبة مرَّة أو مرات، وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا أيضاً كثيراً، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل كتاباً.
الخطبة الثانية:
وعن أبي حمزةَ أنسِ بنِ مالكٍ الأنصاريِّ رضي الله عنه -خادِمِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (( للهُ أفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرهِ وقد أضلَّهُ في أرضٍ فَلاةٍ)) مُتَّفَقٌ عليه.
وفي رواية لمُسْلمٍ: (( للهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يتوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتهِ بأرضٍ فَلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابهُ فأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتى شَجَرَةً فاضطَجَعَ في ظِلِّهَا وقد أيِسَ مِنْ رَاحلَتهِ، فَبَينَما هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِها قائِمَةً عِندَهُ، فَأَخَذَ بِخِطامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنْتَ عَبدِي وأنا رَبُّكَ ! أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ )).
الدعاء:
اللهم إنَّا نسألك التوبةَ الكاملة، والمغفرة الشاملة، والمحبة الكاملة الجامعة، والـخُـلَّة الصافية، والمعرفة الواسعة، والأنوار الساطعة، والشفاعة القائمة والحجة البالغة والدرجة العالية، وفَكَّ وثاقنا من المعصية ورهاننا من النعمة بمواهب المنَّة.
اللهم إنَّا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، وذكرنا بالخوف منك قبل هجوم خطراتها، واحملنا على النجاة منها ومن التفكُّر في طرائقها، وامح من قلوبنا حلاوة ما اجتنيناه منها، واستبدلها بالكراهة لها، والطعم لما هو بضدها، وأفضْ علينا من بحر كرمك وعفوك، حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها، واجعلنا عند الموت ناطقين بالشهادة عالمين بها، وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وأرحنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.
اللهم إنا نسألك لسانا رطباً بذكرك، وقلباً منعماً بشكرك، وبدنا هيناً ليناً بطاعتك، وأعطنا مع ذلك: ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ، كما اختبر به رسولك r حسب ما علمته بعلمك، إنك على كلِّ شيء قديرٌ.
اللهم إنَّا نسألك إيماناً دائماً، ونسألك قلباً خاشعاً، ونسألك علماً نافعاً، ونسألك يقيناً صادقاً، ونسألك ديناً قيماً، ونسألك العافية من كل بلية، ونسألك تمام العافية، ونسألك دوام العافية، ونسألك الشكر على العافية، ونسألك الغنى عن الناس.
اللهم أرضنا بقضائك، وصبرِّنا على طاعتك، وعن معصيتك وعن الشهوات الموجبات للنقص أو البعد عنك. وهب لنا حقيقة الإيمان بك، حتى لا نخاف غيرك ولا نرجو غيرك، ولا نُحب غيرك ولا نعبد شيئاً سوِاك، وأوزِعنا شكرَ نعمائك وغطِّنا برداء عافيتك، وانصرنا باليقين والتوكل عليك، وأسفر وجوهنا بنور صفاتك، وأضحكنا وبشِّرنا يوم القيامة بين أوليائك، واجعل يدك مبسوطةً علينا وعلى أهلينا وأولادنا ومن معنا برحمتك، ولاتكلنا إلى أنفسنا طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، يا نعم المجيب، يا نعم المجيب، يا نعم المجيب.
(ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)
يتبع