اكتب إليك لالتمس عندك السلوى فيما أعانيه ويضيق به صدرى فأنا رجل فى الأربعين من عمرى..توفى أبى منذ عشرين سنة تاركا لى أسرة مكونة من أم وثلاث شقيقات وشقيق واحد كان عمره حين رحل أبى عن الدنيا 6 سنوات ،أما أنافقد كان عمرى وقتها عشرين عاما فقط وقد أنهيت دراستى الثانوية وبدأت اتطلع إلى الالتحاق بالجامعة فجاءت وفاة أبى فحطمت أحلامى فى أن أعيش حياة طالب الجامعة التى طالما تمنيتها وترك أبى وراءه محلا صغيراً لبيع قطع غيار السيارات يفى بمتطلبات الأسرة بصعوبة وبعد أيام العزاء اجتمعت الأسرة الخائفة من المستقبل تبحث أمورها..فاتجهت الأنظار إلي تلقائيا وأحسست بوطأة المسئولية وأعلنت وقلبى يتمزق إنى سأخلف أبى فى محله لكى تجد الأسرة ما يقيم أودها وقوبل إعلانى بارتياح عميق من كل أفراد الأسرة لعله غاظنى أكثر مما سرني وألقيت بكتبى وأحلامى وراء ظهرى واستقبلت مسئوليتى بقلب واجم وخائف من المستقبل ،وفتحت المحل فجاء زملاء أبى من التجار يشدون أزرى..ويحيون رجولتى ويعرضون علي خدماتهم وكنت فى حاجة إليها فعلا فى أيامى الأولى فى التجارة..
ثم شيئا فشيئا عرفت أسرار العمل وثبتت أقدامى فيه،وانتظم مورد الأسرة لكن العبء كان ثقيلا فلقد كانت شقيقاتى وشقيقى جميعا فى مراحل التعليم المختلفة وكانت الكبرى منهن فى الثانوية العامة ،وكان المحل مديناً ببعض الديون فعشنا فترة كئيبة من الضيق والشدة ..واجهتهها بصبر لكن استقر فى أعماقى امتعاض دائم من ظروفي التى حكمت علي بأن أتحمل المسئولية وأنا فى العشرين من عمرى بدلا من ان أعيش سنوات شبابى طليقا وغيرى يتحمل مسئوليتى ومضت الأيام وبدأت أشعر أننى محور حياة الأسرة وأن أمى وشقيقاتى يبالغن فى العناية بي ومجاملتى ورغم ذلك فقد أصبح صدرى ضيقا مع كثرة النفقات وصعوبة المسئولية وأصبحت عصبياً تندفع منى الكلمات الجارحة رغماً عنى لأخوتى وأحياناً لأمى ،فلا يقابلن ذلك إلا بالدموع الصامتة ،ومع ذلك فقد مضت أيامنا وحصلت الكبرى على الثانوية العامة والتحقت بالجامعة وتخرجت وجاءها من يخطبها فقمت بواجبى معها فى حدود إمكانياتى،ثم لحقت بها الأخت التالية لها وتخرجت وتزوجت وتخففت من بعض أعبائى فقررت أن أتزوج وتزوجت من ابنة مدير بالمعاش من جيران الأسرة انضمت إلى شقتنا الواسعة فى أحياء القاهرة القديمة.
وطوال هذه السنوات الصعبة كنت أتطلع إلى شقيقى الأصغر واتعجل السنوات لكى ينهى تعليمه ويشاركنى فى حمل مسئولية الأسرة ،ومن سن العاشرة بدأت أفرض عليه أن يقف فى المحل لعدة ساعات كل يوم ،وكان كأى صبى يضيق بذلك ويحاول أحيانا أن يتملص منه،فلا أسمح له بالفكاك وانهره بعنف فيستسلم باكياً ..ثم استقر الخوف منى فى أعماقه فأصبح لا يحتمل إشارة منى لكى ينفذ ما آمره به..وبررت ذلك لنفسى بأنى أريده أن يتحمل المسئولية لمصلحته لكنى رغم ذلك كنت احيانا أرق له وأراه غلاما محروما من الحنان لكنى لم أظهر له هذا العطف أبداً ومع تقدمه فى الدراسة كانت ساعات عمله فى المحل تزيد ،حتى جاء وقت لم يكن لدى عمال فيه فكان هو المساعد الوحيد فى المحل ،الذى يفتحه فى الصباح ويبقى فيه حتى الليل فى أيام الأجازات ،لذلك لم يكن متفوقا فى دراسته لكنه كان ينجح لأن ظروفنا لا تحتمل أن يتأخر سنة واحدة ..إلى أن جاءت الثانوية العامة ورسب فدعوت الأسرة وعقدت له جلسة تأديب انهلت عليه فيها باللوم والتقريع..ثم أعمانى الشيطان فى لحظة حمق فانهلت عليه صفعا أمام شقيقاته ..فلم يزد عن ان حمى وجهه بذراعيه وأحنى رأسه وهو يصيح من بكائه"حانح السنة الجاية يا خويا..الدكان خد منى وقت يا خويا"
وأفقت فجأة من غيي فعدت إلى مقعدى لاهثا وشقيقاتى واجمات يحبسن دموعهن خوفا من انفجارى فيهن وانسحب هو إلى غرفة أمى وبعد أن خلوت لنفسى..اتأبت لما بدر منى وأرقت ليلتها فلم يغمض لى جفن وذهبت إلى المحل فى اليوم التالى عليلا ...،وكان المعتاد أن يحضر إلى المحل فى فترة الظهر فيجلس مكانى لكى أستريح وقت الغداء ..وتوقعت ألا يحضر وأن يخاصمنى لعدة أيام ..ووطنت نفسى على ان أصالحه واسترضيه خاصة أنه لم يفلت منه كلمة سيئة ضدى فى قمة إهانتى له وعدوانى عليه وبلغت الساعة الثالثة فطلبت من الصبى أن يغلق المحل لدة ساعتين وتهيأت للانصراف فإذا بي ألمح شقيقى قادماً منكسراً ،يحيينى وهو خافض الرأس ويعتذرعن تأخره بأنه ذهب إلى المستوصف يطلب علاجاً لأن عنده ألماً فى جنبه،فكادت الدمعة تطفر من عينى وقاومتها بصعوبة وقلت له ولماذا المستوصف..سأذهب بك إلى أكبر طبيب فى المساء ،واذهب الآن واسترح فأصر على أن يجلس فى المحل بدلا منى ،فتركته وعدت إلى البيت وفى المساء اصطحبته للطبيب فأعطاه علاجا وطمأننا عن حالته،وعندما بدأت الدراسة حاولت أن أعفيه من فترة الظهر لكى يتفرغ للمذاكرة لكنه رفض بإصرار فكنت أراه يسهر الليل يذاكر ويقف فى المحل نهاراً وصحته تذبل من آثار قلة النوم ،وظهرت النتيجة فكان من الناجحين بمجموع ضعيف لا يؤهله للالتحاق بالجامعة فالتحق بمعهد فوق المتوسط وأصبح يجد وقتاً أكبر لمساعدتى،وخلال هذه الفترة تطورت علاقتى به تطوراً جديداً ..فقد كنت أعطيه مصروفاً شهرياً عشرة جنيهات ينظم حياته بها ،فجاء ابن الحلال الذى همس فى أذنى أن أخاك يصاحب شلة فاسدة من شباب المعهد وانهم يدخنون السجائر ويصادقون الفتيات ،فلعب الفأر فى عبي أن يكون الشيطان قد أغواه فبدأ يمد يده إلى نقود المحل فى غيابى..وواجهته بذلك فبكى وما كان أسرع بكائه..وقال لى كلمة ظلت توجعنى طويلاً وهى:إننى ابن فلان مثلك وقد كان رجلاً طيباً عارفاً بالله فكيف أكون خائناً؟ولمن؟
لأخـى الذى ربانى وفى مال أسرتى التى تعيش منه أمى وأختى التى ما زالت فى الجامعة فأنهيت الموضوع لكنى بدأت أراقبه خفية فلا أجد عليه ما يريب فهو يصلى الفروض فى أوقاتها..ولا يدخن..وهو المهموم دائما بامر أخواته البنات والذى يقضى حوائجهن ويرعى أولاد المتزوجتين فيهدأ خاطرى قليلاً ..ثم تعود الوساوس تطاردنى من جديد فأسئ معاملته فيتحمل ويصبر إلى أن أعود إلى حالتى الطبيعية وهكذا مضى الحال إلى أن انتهت دراسته فى المعهد وحصل على الشهادة وأدى فترة تجنيده .
وخلال هذه الفترة كانت تجارتى قد نجحت واستقرت وتخلصت من كل المتاعب فأعدت تأثيث شقتنا الواسعة واشتريت سيارة .
وبدأت أطكئن للمستقبل وأجنى ثمرة كفاحى .وفى هذه الفترة أيضا اشتريت المحل المجاور لى وضممته إلى محلى وأنفقت على عمل ديكور جديد له وأصبح لدي عاملان يتقاضيان أجرا كبيرا وعاد شقيقى يساعدنى فى انتظار التعيين ،وفكرت بينى وبين نفسى فى أن أفرغه للمحل ،وهو من دمى وله نصيب شرعى فى المحل، وصارحته بذلك فقال لى أنه يعتبرنى أبى والأب لا يختار لابنه إلا ما فى صالحه فإن أردته فى المحل فهو معى وإن أردته فى الوظيفة فسينفذ رغبتى وسيكون إلى جوارى دائما بعد الوظيفة،واتفقنا على أن يعمل فى المحل فترة الانتظار وأن يختار بعد ذلك، وبدأ العمل بهمة ،وكان للحق شعلة من النشاط والذكاء ومحبوباً من كل من يتعامل معه أو يعرفه، فهو خدوم وشهم وكريم فى حدود ما تملكه يده وهو قليل ،فقد كنت أعطيه نصف مرتب العامل وكان راضياً بذلك لأنه صاحب مال كما يقولون وأصبحت أعتمد عليه فى أعمال كثيرة ..
وفجأة عاودنى الوسواس القديم ، وكان سببه هذه المرة هو نفس السبب القديم شلة الأصدقاء الذين أراهم فاسدين ويراهم عاديين ،وكانوا زملاءه منذ الطفولة حتى المعهد وكنت لا أرتاح لهم وأشك فى سلوكهم وأخشى عليه من صحبتهم.
فنصحته بالابتعاد عنهم ورويت له عنهم ما لايسر ،فكان رده أننى لا أستطيع أن أتحكم فى سلوك غيرى،وأننى أرضى الله وهذا يكفى وهؤلاء أصدقائى منذ الصغر ،ولم أقتنع.
وبدأت الوساوس تلح علي من جديد وذات يوم رأيت معه ساعة جيدة،فسألته عن مصدرها فأخبرنى بأن شقيقته الكبرى المتزوجة أهدتها له،فلم أصدقه وسألت أختى فأكدت ذلك وقالت أنها اشترتها له بالتقسيط من مرتبها حين لاحظت أنه لا يحمل ساعة ولا يجرؤ على طلبها منى،فلم يسترح عقلى لذلك وشككت فى أنها تدافع عنه لعطفها عليه.
وكانت أختى الثالثة قد تخرجت وخُطبت ونستعد لجهازها وزواجها فكان صدرى ضيقاً فانفجرت فيه بشكوكى مرة أخرى وخيرته بين الانقطاع عن هذه الشلة وبين المحل،وانصرف صامتاً وللأسف أن هذه المكاشفة قد تمت فى المحل وأمام العمال والزبائن فعرفوا أنى أشك فى أمانة أخى وسلوكه ..ولامنى كثيرون من الزبائن والتجار من جيرانى..فزادنى ذلك عنادا وعدت للبيت فى المساء فلم أجده..وعرفت أنه سيقضى الليل عند خالته فزادنى ذلك غضباً وصممت على ألا يعود للعمل إلا إذا قاطع كل أصدقائه وانتظرته أن يعود بعد أيام خاقض الرأس منكسراً كما تعودت منه لكنه لم يعد فتنازلت عن كبريائى قليلاً وسألت عنه فكانت المفاجأة أنه سافر إلى الإسكندرية ليبحث عن عمل وأنه اقترض نقود السفر من خالته،وأحسست بألم فى قلبى لكنى تظاهرت بالاستهانة وقلت بصوت عال:فى داهية! وتمنيت أن يفشل سعيه وأن يعود منهزماً ويقبل شروطى لكنه لم يعد يا سيدى، ومضى شهران قبل أن يأتى فى زيارة لأمه وشقيقاته اللاتى كن يتحرقن شوقاً إليه وعدت إلى البيت فى الظهر وكان جالساً مع زوجتى وأمى وشقيقاتى ومن حوله سعيدات به فنهض مرتبكاً حين رآنى ليحيينى ..فركبنى الشيطان فجأة وأشحت بوجهى بعيداً عنه ودخلت إلى غرفتى ..وجاءت ورائى زوجتى تلومنى فصرخت فى وجهها ،أما هو فقد جلس لمدة ثم أستأذن وانصرف،ومن زوجتى عرفت أنه يعمل عند مستورد لقطع الغيار أتعامل أنا معه منذ سنوات وأنه يقيم فى غرفة فى حى شعبى وأن هذا المستورد أحبه ويثق فى أمانته ويرسله إلى الجمرك لتخليص بعض أعماله.
ولعب الفأر فى عبي وخشيت إن صحت الوساوس،أن يضعنى فى حرج معه فاتصلت به أسأله عنه فقال لى أنه ولد سكرة ووجهه فيه القبول وكلما أرسله فى مهمة يسرها الله على يديه وأنه يشكرنى على التنازل له عنه! وأحسست بالفخر والغيرة معاً ،ومع ذلك فقد حرصت بمنطق بعض التجار ألا لعنة الله عليه على أن أؤكد له أننى غير مسئول عن أى تصرفات له،فقاطعنى رافضاً الاستماع وانتهت المكالمة.
واستمر الحال هكذا ..وقد أصبح يأتى إلى القاهرة مرة كل شهر فواصلت تجاهله..مع حرصى على أن أعرف اخباره من زوجتى وسعت أمى كثيراً لكى تصلح بينى وبينه ،فتمسكت أن ينفذ كل شروطى وأن يبتعد عن شلته الذين يحرص على زيارتهم كلما جاء من الإسكندرية والذين يزورونه هناك كما سمعت .
ومضى عامان ثم أبلغتنى أمى أنه ارتبط بفتاة بائعة فى محل المستورد وأنه يريد خطبتها
ويطلب منى الاذن فسألت عن التفاصيل وتأكدت من أنه نسب غير ملائم وأن مستوى أسرتها الاجتماعى منخفض جداً ،فقلت لأمى أنه يريد أن يجلب لى عاراً جديداً .
كما فعل حين عمل عند أحد ممن أتعامل معهم وبإمكانه أن يتزوج من أسرة أفضل منها فهو فى النهاية ابن ناس طيبين ورفضت الموافقة بإصرار.
وبعد أيام جاءنى منه خطاب يطلب فيه أن أصفح عنه ويقول لى أنه لا يعرف له أباً غيرى ،ويطلب منى حضورى حفل خطبته فلم أرد عليه،وجاء بعدها بأسبوعين وزارنى فى المحل فلم أحسن استقباله ومع ذلك فقد جلس وروى لى وهو خجلان قصة ارتباطه بهذه الفتاة وطلب"تشريفى" حفل خطبته ..فهززت رأسى أن لا فسكت قليلاً ثم طلب بصوت خافت أن أسمح لأمى وشقيقاته بالحضور نيابة عنى لكيلا يبدو أمام أسرة خطيبته بلا أهل..فهززت رأسى مرة أخرى، فسكت قليلاً ثم قال كتر خيرك ،وألقى السلام وانصرف،وبكت أمى طويلاً فلم أستجب لها وأعلنت رفضى لذهاب شقيقاتى..فبكين وأشفقن عليه من أن يكون وحيداً فى يوم خطبته فلم أتراجع وقد سلط علي ذعنى أنه يعاندنى ويريد أن يجلب لى العار ولا شئ غير ذلك..
مع أنه شاب ومن حقه أن يحب ويتزوج..لكن هكذا صور لى العناد
فهددت من تذهب من أخواتى وأمى إلى الإسكندرية بمقاطعتها فرضخن _ساخطات_وطاف هو عليهن يرجوهن ألا يزعلن لأنه يعذرهن ولا يريد لهن المشاكل معى..وودعنه جميعاً كما عرفت بالقبلات والدموع حتى زوجتى بكت وصرخت فى وجهى بأنى ظالم وأنه لولا أنها لا تريد أن تزيد من آلامى لما قبلت السكوت على هذا الظلم ولذهبت إلى خطبته وهو الشاب المؤدب الذى لم تر منه منذ زواجها بى إلا كل خير وفى وسط كل ذلك قررت خالتى وكانت تحب شقيقى حباً خالصاً وتشفق عليه أن تذهب هى وزوجها وأولادها إلى الإسكندرية لتخطب له هذه الفتاة نيابة عن أمى وليضرب فلان الذى هو أنا رأسه فى الحائط لأن الله لا يرضى بالظلم..ولأنى كما قالت سامحها الله ظلمته صغيراً وكبيراً ولا أريد أن أرجع عن ظلمى وذهبت فعلاً
وعادت تروى لأمى كيف استقبلها بالدموع وتقبيل يديها لأنه لم يكن يتوقع حضورها وكيف احتضن زوج خالته وقبل رأسه معرباً عن شكره..وكيف استقبل بنات وأولاد خالته بفرحة جنونية ،وأن أسرة فتاته أسرة طيبة رغم فقرها وأنهم يحبونه ويحترمونه ،وكيف أنها عاشت أسعد أيام حياتها فى هذا الفرح البسيط ،وأنها زغردت من قلبها وأصدقاؤه الذين سافروا إليه من القاهرة ..وأصدقاؤه الجدد من الإسكندرية وهو يكسب الأصدقاء سريعاً ،يزفونه بالسيارات حول ضريح أبو العباس المرسى وهو يضحك سعيداً والدموع لا تفارق عينيه ،وأن التاجر الذى يعمل عنده هو الذى رتب له الـزفة وأعطاه نقوطاً كبيراً مكافأة له على نشاطه وأمانته
وسمعت كل ذلك وأحسست بالندم يلسعنى على موقفى منه ولكنى تظاهرت بتجاهل الموضوع وعرفت من زوجتى أنه سيقيم مع أسرة خطيبته بعد الزواج إلى أن يجد شقة ،ومضت اسابيع وبدأت آثار الخطبة وحرمان الأسرة من الاشتراك فيها يخف تدريجيا وعاد هو يزور أمه وشقيقاته ويحكى لهن عن خطيبته وعمله وحياته هناك ..وكان من بين ما رواه لهن أن آلام جنبه قد عاودته بسبب ساعات العمل الطويلة فذهب إلى المستشفى الأميرى فى الإسكندرية وعالجه الأطباء وشُفى والحمد لله.
ومضى عام آخر والموقف بيننا لم يتغير فهو يحيينى حين يدخل فأرد تحيته باقتضاب..فإذا غلبنى حنينى إليه وأردته أن يحكى لى عن نفسه..أو يطلب منى الرجوع..أو السماح كما كان يفعل،فإنه يحكى لدقائق لا تشبع..حنينى وشوقى له ثم يصمت ..كأنه لا يجد ما يقول وينسحب بعد قليل،وجاء مرة فى زيارته المعتادة فلاحظت عليه الإرهاق فسألته عما به فروى لى أنه احس بالتعب فذهب إلى المستشفى الأميرى وأنهم أجروا له فحوصات عديدة أتعبته أكثر ..لكنه تحسن الآن والحمد لله ..فانخلع قلبى..وأمسكته من يده وذهبت به إلى طبيب كبير فطلب أشعات وتحاليل فحاول الاعتذار لظانه مضطر للسفر فأقسمت عليه بالطلاق ألا يسافر إلا بعد إجراء الفحوصات والتحاليل وعدنا للطبيب فوصف له العلاج وطلب منه الراحة ورجعنا إلى البيت فطلبت منه ألا يعود للإسكندرية نهائياً وأن يستريح فى البيت وأعلنت له أننى سأنفق على علاجه كل ما أملك..وسأدعو خطيبته وأسرتها لزيارته هنا ،فابتسم فى ضعف وقال لى أنه لا بد أن يعود وأن يعمل لأنه مدين لصاحب العمل بجزء من قيمة الشبكة ولبعض أصدقائه هناك ببعض المال لأنه اشترى الدواء وأجرى فحوصاً كلفته الكثير ..فطلبت منه أن يبقى وسأسدد ديونه مهما كانت وأنه ليس فى حاجة للعمل وهو مريض ..وألححت عليه فى ذلك وأردت أن أحلف عليه مرة أخرى فسد فمى بيده..ثم أمسك يدى وقبلها وشكرنى بحرارة راجيا أن أكرمه بتركه يسافر لأن حياته أصبحت هناك..وسوف يواظب على العلاج فوافقت مرغماً وأوصلته للقطار ، وأعطيته نقوداً رفض أن يأخذها وألححت عليه وذكرته بأن له حقاً فى المحل الذى تركه أبوه وهذا جزء منه فقال لى وهو يبتسم متعباً:لقد أخذت حقى وزيادة بلقمتى وطعامى فى سنوات التعليم..فإذا كان لى حق فأعطه لأمى ولشقيقاتى .
ثم تحرك القطار وصورته وهو يبتسم فى ضعف لا تفارقنى وعدت إلى البيت مهموماً ،ولم أنم الليل ،وفى الصباح كان أول ما فعلت حين ذهبت إلى المحل هو أن اتصلت تليفونياً بالتاجر الذى يعمل معه أخى لأطمئن عليه وأبلغه أنى سأسدد دينه عنه ..وأرجوه أن يرفض عودته للعمل ويعيده للقاهرة حتى تتحسن صحته..فما إن عرفنى حتى قال لى واجماً :كنت سأتصل بك الآن فوراً..انتظرنا نحن قادمون إليك بعد 3 ساعات..البقاء لله!
وصرخت من اعماقى وسقطت السماعة من يدى وجاء جيرانى مفزوعين ..واركبونى سيارة أحدهم وأعادونى للبيت:وبعد ساعات وصل الركب الحزين وبدأت رحلة الوداع وحولى أصدقاؤه وأحباؤه الذين طالما كرهتهم وأسأت الظن بهم يولون ويصرخون كالثكالى ويتدافعون لحمل صاحبهم..ووقفت فى المساء فى العزاء منهاراً أصافح الأيدى ولا أدرى بها ..وجاء أصدقاؤه فما أن وضع أولهم يده فى يدى حتى بكيت كالطفل فشجع ذلك أحدهم على أن يقول لى:لقد مضى كل شئ وراح لكنى أشهد الله أمامك أن شقيقك كا مثال الأمانة والشهامة والأخلاق وأن يده لم تمتد إلى حرام ..ولم يرتكب معصية..وإننا كنا إخوة فى الخير لا الشر وأن أقصى ما فعلناه مما كنت تعيبه علينا أننا كنا ندخن فى مرحلة المعهد لكننا لم نعرف الخمر ولا المخدرات كما كنت تتصور ..وعاش أخوك ومات ولم يدخن سيجارة فقال:لكن ألسنة السوء لا تدع الناس فى حالها ..فسألته فجأة :هل كرهنى لما فعلت معه؟
فقال:لم يذكرك مرة بسوءحتى وأنت تقسو عليه ..وكان يقول لنا دائما لا تظلموه فلقد حمل الهم صغيراً ..وهو أخى وأبى الذى لم أر غيره،ويكفيه أنه ستر شقيقاتى أما أنا فرجل وأستطيع أن أتحمل.
فاسترحت لذلك قليلاً...لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن ينبئ براحة،فبعد رحيل أخى خيم الحزن على بيتنا واستقر فيه ، وبدأت أحس باكتئاب شديد أفقدنى حماستى للعمل..فأصبحت أنهض أحيانا من النوم فلا أشعر بميل للذهاب إلى المحل ولا لمغادرة البيت..وضاعف من حالتى ..أنى أحس باتهام صامت فى عيون أمى وشقيقاتى بأنى ظلمت أخى وقبرته..مع أنى يعلم الله لم أرد سوى مصلحته حتى وإن أسأت التصرف وقد استقر الفتور فى علاقتى بأمى وشقيقتى الكبرى التى كانت أكثر الشقيقات عطفاً على أخى الراحل بالذات.أما خالتى التى تحدتنى بالذهاب إلى خطيبته فقد حاولت مصالحتها بعد رحيله فانهالت علي بالإتهام والتجريح ،وزادت من معاناتى ،وسافرت إلى الإسكندرية وذهبت إلى التاجر الذى عمل معه أخى وشكرته وسددت له دينه فأبى بكل إصرار ..وقال غنها كانت هدية منه لشاب كريم وليست ديناً عليه..وقد ساءت حالتى الآن حتى أصبحت لا أذهب للمحل إلا مرتين أو ثلاثاً فى الأسبوع وإلى جانب ذلك فأنا أصحو كل ليلة من نومى عدة مرات وقد توقف قلبى وتنفسى ووصلت إلى مرحلة الاختناق ..
وفى كل ليلة يجيئنى أخى فى المنام وأراه عابساً وهو الذى لم أره إلا مبتسماً فى حياته حتى حين كان يغلبه الدمع ،ذهبت إلى الطبيب فأحالنى غلى طبيب نفسى شخص حالتى بأنها ميول اكتئابية وأعطانى بعض الأدوية ،وأنا الآن أواظب على العلاج لكنى لا أنام جيداً .. وقد فقدت كل الأشياء قيمتها عندى فلم تعد عندى رغبة فى النجاح ولا فى الثراء وأسأل نفسى كل حين ما معنى كل ذلك وأنا لم أنجب أولادا ولا بنات ولم يعد لى أخى ثم ماذا يعنى هذا المحل...وهذه التجارة التى ولم تعد فى مسئوليتى سوى أمى وما هذه الجدران والرفوف التى تصورت فى حمقى أنها أهم من شقيقى الوحيد وأن على أن أحميها منه بإبعاده عنها ومتى يبتسم وجه أخى حين يزورنى فى الليل ،
وأين راحـة الضمير...أيــــن؟