عرض مشاركة واحدة
قديم 07-05-2012, 11:49 PM   رقم المشاركة : 5
Arsalan
عضو نشيط






 

الحالة
Arsalan غير متواجد حالياً

 
Arsalan عضوية ستكون لها صيت عما قريبArsalan عضوية ستكون لها صيت عما قريب

شكراً: 192
تم شكره 741 مرة في 171 مشاركة

 
افتراضي رد: ●● الخليفةُ الثانيّ ، عُمَر بن الخَطاب رضيَ الله عنهُ || الجزءُ السابع || ~ ‏





.

ثالثاً: فتح برقة وطرابلس:

وسار عمرو بعد أن استقر له فتح مصر ليؤمن فتوحه من ناحية الغرب إذ كانت للروم قوات في برقة وطرابلس تتحصن هناك، وربما واتتها الفرصة ساقها الإغراء إلى مهاجمة المسلمين بمصر، فاتجه في قواته إلى برقة سنة 22هـ وكان الطريق بينها وبين الإسكندرية آنذاك منزعاً بالخضرة والعمران، فلم يلق كيداً في طريقه إليها، فلما وصلها صالحه أهلها على أداء الجزية، وكان أهل برقة بعد فتحها يبعثون بخراجهم إلى والي مصر من غير أن يأتيهم حاث أو مستحث فكانوا أخصب قوم بالمغرب ولم يدخلها فتنة، ثم سار عمرو إثر ذلك إلى طرابلس ذات الحصون المنيعة، وبها جيش رومي كبير، فأغلقت أبوابها وصبرت على الحصار الذي استمر شهراً لا يقدر المسلمون منها على شيء وكان البحر من ورائها لاصقاً ببيوت المدينة، ولم يكن بين المدينة والبحر سور، فاستبانت جماعة من قوات المسلمين الأمر، فتسللت إلى المدينة من جهة البحر، وكبروا؛ فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم، إذ هاجمهم عمرو في قواته أيضاً فلم يفلت منهم إلا ما خفت بهم مراكبهم، وغنم المسلمون ما بالمدينة، وبث عمرو قواته فيما حولها وأراد عمرو أن يستكمل فتوحه في الغرب ويسير إلى تونس وأراضي إفريقية ليفتحها، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب، غير أن الخليفة كان يخشى على جيوش المسلمين من الانسياح في جبهة جديدة ولم يطمئن بعد إلى ما فتحت في زحفها السريع من الشام إلى طرابلس، فأمر القوات الإسلامية بالتوقف عند طرابلس وبذلك امتدت دولة الإسلام في عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لتشمل مساحة شاسعة من الأرض يحدها من الشرق نهر جيحون والسند ومن الغرب بلاد إفريقية وصحراؤها، ومن الشمال جبال آسيا الصغرى وأراضي أرمينية، ومن الجنوب المحيط الهادي وبلاد النوبة في دولة عالمية واحدة متعددة الأجناس والديانات والنحل والعادات، عاش أهلها في عدل الإسلام ورحمته، ذلك الدين الذي احتفظ لهم بحقهم في الحياة الكريمة وإن اختلفوا معه في عقائدهم؛ ومع أهله في عاداتهم وأعرافهم([135]).




.

المبحث الثالث: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتح مصر:

أولاً: سفارة عبادة بن الصامت الأنصاري إلى المقوقس:

حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون فأرسل المقوقس إلى عمرو الرسالة التالية: إنكم قد وَلَجتم في بلادنا، وألححتم على قتالنا، وطال مقامكم في أرضنا، وإنما أنتم عُصْبَة يسيرة، وقد أظلتكم الروم وجهزوا إليكم، ومعهم من العُدّة والسلاح، وقد أحاط بكم هذا النيل، وإنما أنتم أسارى في أيدينا، فأرسلوا إلينا رجالاً منكم نسمع من كلامهم، فلعله أن يأتي الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبُّون ونحب، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام، ولا يقدر عليه. ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفاً لمطلبكم ورجائكم، فابعثوا إلينا رجالاً من أصحابكم، نعاملهم على ما نرضى نحن وهم به من شيء. فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: أتروْن أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم! وإنما أراد عمرو بذلك أن يروا حال المسلمين. فرد عليهم عمرو مع رسلهم: إنه ليس بيني وبينك إلا إحدى خصال ثلاث: إما إن دخلتم في الإسلام، فكنتم إخواننا وكان لكم ما لنا وإن أبيتم أعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وإما أن جاهدناكم بالصبر والقتال، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين([136])، فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال: كيف رأيتموهم قالوا: رأينا قوماً الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نَهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على رُكبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد فيهم من العبد: وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويتخشعون في صلاتهم. فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحْلف به، لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم، وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض، وقووا على الخروج من موضعهم فردّ إليهم المقوقس رسله، وقال: ابعثوا إلينا رسلاً منكم نعاملهم، ونتداعى نحن وهم إلى ما عسى أن يكون فيه صلاح لنا ولكم. فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر، وأحدهم عبادة بن الصامت، وكان طوله عشرة أشبار، وأمره عمرو أن يكون متكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إلا إحدى هذه الثلاث الخصال([137])؛ فإن أمير المؤمنين قد تقدم في ذلك إليّ، وأمرني ألا أقبل شيئاً سوى خصلة من هذه الثلاث الخصال. وكان عبادة بن الصامت أسود، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس، ودخلوا عليه، تقدم عبادة، فهابه المقوقس لسواده، فقال: نحُّوا عني هذا الأسود، وقدموا غيره يكلمني. فقالوا: إن هذا الأسود أفضلنا رأياً وعلماً، وهو سيدنا وخيرنا، والمقدَّم علينا، وإنا نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، وقد أمّره الأمير دوننا بما أمره به، وأمرنا ألا نخالف رأيه وقوله. فقال المقوقس للوفد: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم، وإنما ينبغي أن يكون دونكم؟ قالوا: كلا: إنه وإن كان أسود كما ترى، فإنه من أفضلنا موضعاً وأفضلنا سابقة وعقلاً ورأياً، وليس ينكر السواد فينا. فقال المقوقس لعبادة: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك، وإن اشتد علي كلامك، ازددت هيبة فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك، وإن فيمن خلَّفت من أصحابي ألف رجل أسود كلهم مثلي، وأشد سواداً مني وأفظع منظراً، ولو رأيتهم لكُنت أهيب لهم مني، وأنا قد ولّيت وأدبر شبابي، وإني مع ذلك بحمد الله ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وكذلك أصحابي وذلك إنما رغبتُنا، وبغيتنا الجهاد في سبيل الله تعالى، واتباع رضوان الله، وليس غزونا عدوَّنا ممن حارب الله لرغبة الدنيا، ولا طلباً للاستكثار منها؛ إلا أن الله عز وجل قد أحلّ ذلك لنا، وجعل ما غنمنا من ذلك حلالاً، وما يبالي أحدنا: أكان له قنطار من ذهب، أم كان لا يملك إلا درهما، لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها، يسد بها جَوْعَته، وَشمْلة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، واقتصر على هذا الذي بيده؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاءها ليس برخاء، إنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا، وأمرنا به نبينا، وعهد إلينا ألا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا فيما يمسك جَوْعته ويستر عورته، وتكون همته وشغله في رضا ربه، وجهاد عدوه، فلما سمع المقوقس ذلك منه، قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط، لقد هِبت منظره؛ وإن قوله لأهيب عندي من منظره، إن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض، وما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل المقوقس على عبادة فقال: أيها الرجل، قد سمعت مقالتك، وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتكم إلا بما ذكرت ولا ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا لحبِّهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم مما لا يحصى عدده، قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل وإنا لنعلم أنكم لن تقوَوا عليهم، ولن تطيقوهم لضعفكم وقلَّتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهراً، وأنتم في ضيق وشدة في معاشكم وحالكم، ونحن نرِقُ عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما
لا قوَّة لكم به. فقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: يا هذا؛ لا تغرّنَّ نفسك
ولا أصحابك. أما ما تخوِّفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم، وأنا لا نقوى عليهم، فلعمْري ما هذا الذي تخوفنا به، ولا بالذي يكْسِرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقاً فذلك والله أرغب ما يكون في قتالهم، وأشد لحرصنا عليهم؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجَنّته، وما من شيء أقرّ لأعيننا، ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين؛ إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفِرنا بكم، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا، وإن الله تعالى قال لنا في كتابه:} كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(249) { (البقرة،آية:249).
وما منا رجل إلا وهو يدعو ربه صباحاً ومساء: أن يرزقه الشهادة وألا يرد إلى بلده، ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا همٌ فيما خلفه، وقد استودع كل واحد منا ربه أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا. وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السّعة، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا لأنفسنا منها أكثر مما نحن فيه فانظر الذي تريد، فبيّنه لنا، فليس بيننا وبينكم خصلة نقبلها منكم، ولا نجيبكم إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين؛ وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل إلينا؛ إما إن أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته، أمرنا الله أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك، فقد سعدتم في الدنيا والآخرة، ورجعنا عن قتالكم، ولم نستحلَّ أذاكم ولا التعرض لكم. وإن أبيتم إلا الجزية، فأدُّوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، نعاملكم على بشيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبداً ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم، ونقوم بذلك عنكم، إذا كنتم في ذمتنا، وكان لكم به عهد الله علينا، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت عن آخرنا أو نصيب ما نريد منكم هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينه غيره، فانظروا لأنفسكم فقال المقوقس: هذا مما لا يكون أبداً، ما تريدون إلا تتخذونا عبيداً ما كانت الدنيا. فقال له عبادة: هو ذاك، فاختر ما شئت. فقال المقوقس: أفلا تجيبونا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاثة؟ فرفع عبادة يديه، وقال: لا، ورب السماء ورب هذه الأرض ورب كل شيء، ما لكم عندنا خصلة غيرها فاختاروا لأنفسكم. فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه، وقال: قد فرغ القول مما ترون؟ فقالوا: أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا في دينهم؛ فهذا لا يكون أبداً،
ولا نترك دين المسيح ابن مريم، وندخل في دين لا نعرفه، وأما ما أرادوا من أن يسْبُونا ويجعلونا عبيداً أبداً، فالموت أيسر من ذلك؛ لو رضوا منا أن تُضعف لهم ما أعطيناهم مراراً، كان أهون علينا. فقال المقوقس لعبادة: قد أبى القوم، فما ترى؟ فارجع صاحبك على أن نعطيكم في مَرّتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفون فقام عبادة وأصحابه. فقال المقوقس لمن حوله عند ذلك: أطيعوني، وأجيبوا القوم إلى خصلة واحدة من هذه الثلاث، فوالله ما لكم بهم طاقة؛ وإن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم منها كارهين. فقالوا: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: إذا أخبركم.. أما دخولكم في غير دينكم، فلا آمركم به؛ وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقدروا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولابد من الثالثة. قالوا: فنكون لهم عبيداً أبداً؟ قال: نعم تكونوا عبيداً مُسلطين في بلادكم آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيداً، وتباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبداً، أنتم وأهلوكم وذراريكم. قالوا: فالموت أهون علينا، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة، وبالقصر من جمع القبط والروم كثير([138]).

ومن الحوار الذي دار بين عبادة والمقوقس، ظهرت نباهة عبادة وإدراكه لمرامي خصمه فلم يتأثر بتلك الأساليب التي استخدمها للتأثير في نتائج المحادثات تلك كما ظهر عبادة واضحاً في تصوراته وأهدافه، ولم ينس في خضم ذلك أن يدعو إلى الإسلام ويرغب فيه، ويظهر انفتاح المسلمين على غيرهم من الأمم والأديان مما ترك أثراً طيباً في نفس المقوقس الذي اختار الصلح مع المسلمين([139]).



.

ثانياً: من فنون القتال في فتوح مصر:

مارس عمرو بن العاص رضي الله عنه في فتح مصر فنوناً عدة في القتال منها:

1- الحرب النفسية:

عندما أمر المقوقس النساء أن يقمن على سور بابليون مقبلات بوجوههنّ إلى داخله، وأقام الرجال بالسلاح مقبلين بوجههم إلى المسلمين ليرهبوهم بذلك، فأرسل إليه عمرو: .. إنا قد رأينا ما صنعت، وما بالكثرة غلبْنا من علينا، فقد لقينا مِلكَكُم فكان من أمره ما كان فقال المقوقس لأصحابه: صدق هؤلاء القوم، أخرجوا ملكنا من دار مملكته حتى أدخلوه القسطنطينية، فنحن أولى بالإذعان([140])، فقد كان عمرو من القادة الذين يستخدمون الحرب النفسية لإرهاب عدوه وإحباط روح القتال لديه، وكان يعتمد في الحرب على الله ثم على العقل والسيف لتحقيق هدف واحد هو تحقيق النصر الحاسم في نهاية المعركة([141]).



.

2- أسلوب المباغتة بالكمائن:
مارس عمرو أسلوب المباغتة بالكمائن في وقعة عين شمس، فقد أعدّ هذه الكمائن إعداداً محكماً مما يسر له سبل النجاح الكامل فهو قد أرسلها لاتخاذ مواقع معينة من الليل، فأحسن اختيار تلك المواقع، وعيّن ساعة انطلاق كل منها في وقت يكون العدو منشغلاً بمجابهته، فباغتته تلك الكمائن في ميمنته وميسرته، فأحسن بذلك اختيار التوقيت، وساعة الصفر ونقاط الصدام مع العدو. وهكذا تعتبر عملية عمرو (المباغتة بالكمائن) في هذه الوقعة من أكثر عمليات المباغتة نجاحاً وإتقاناً([142]).



.

3- أسلوب المباغتة في أثناء الحصار:

وأتقن عمرو كذلك أسلوب المباغتة في أثناء حصار حصن بابليون فبينما كان الروم المحاصَرون في هذا الحصن مطمئنين إلى أن المسلمين لن يستطيعوا النيل منهم، بفضل مناعة حصونهم وأسوارهم وما لديهم من ذخائر ومؤن ومعدات حربية، وبسبب ما وضعوه من عوائق من الحسك الشائك على أبواب الحصن وفي الخندق الذي جفت مياهه بعد هبوط مياه النيل إذا بهم يفاجأون في ليلة مظلمة بالزبير بن العوام ومجموعة من رجاله المقاتلين، يعتلون السور مكبرين، ويباغتونهم فيعملون السيف فيهم، ويهزم من في الحصن من المدافعين فيطلبون الصلح والأمان، ويدخل المسلمون الحصن فاتحين([143]).



.

4- أسلوب النفس الطويل في الحصار:

اعتمد عمرو في حصار ((كِرْيون)) و((الاسكندرية)) النفس الطويل؛ فهو عندما أيقن صعوبة الانتصار على الروم المتمركزين في مواقع منيعة ومحصنة في كريون، بدأ بمناوشتهم محاولاً، لمرة واحدة فقط، شن هجوم على الحصن، إلا أنه فشل، فاستمر في المناوشة تاركاً للزمن، والإرهاق، ونفاذ الذخيرة، والمؤونة وصبر الرجال أن يفعل فعله، وهكذا كان، وما أن استمر حصار كريون بضعة عشر يوماً حتى أيقن الروم عزم المسلمين على الاستمرار في هذا الحصار فلم يجدوا بداً من الاستسلام وتسليم الحصن للمهاجمين، وحدث الشيء نفسه في حصار الإسكندرية، إلا أن هذا الأخير استمر مدة أطول (ثلاثة أشهر) وذلك لأن الروم كانوا يدركون إدراكاً تاماً أن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشهم بل ولهم جميعاً، فإن سقطوا في الإسكندرية سقطوا في مصر وفي إفريقيا بأسرها. وهذا ما حصل([144]) تماماً.



.

ثالثاً: بشارة الفتح إلى أمير المؤمنين:

بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج وافداً إلى عمر بن الخطاب بشيراً بالفتح فقال له معاوية: ألا تكتب معي؟ فقال له عمرو: وما أصنع بالكتاب: ألست رجلاً عربياً تبلغ الرسالة، وما رأيت حضرت([145]) فلما قدم على (عمر) أخبره بفتح الإسكندرية فخرَّ عمر ساجداً وقال: الحمد لله ونترك معاوية بن حديج يحدثنا عن قصته في إبلاغ أمير المؤمنين ببشارة الفتح: لما بعثني عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب وصلت المسجد فبينما أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل (عمر بن الخطاب)، فرأتني شاحباً عليَّ ثياب السفر، فأتتني، فقالت: من أنت؟ قال: فقلت: أنا معاوية بن حديج، رسول عمرو بن العاص، فانصرفت عني ثم أقبلت تشتد أسمع حفيف إزارها على ساقها أو على ساقيها حتى دنت مني فقالت: قم فأجب أمير المؤمنين يدعوك، فتتبعتها فلما دخلت فإذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشد إزاره بالأخرى، فقال: ما عندك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية فخرج معي إلى المسجد فقال للمؤذن: أذن في الناس (الصلاة جامعة)، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك فقمت فأخبرتهم، ثم صلى ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس فقال: يا جارية هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت فقال: كل فأكلت على حياء ثم قال: كله فإن المسافر يحب الطعام فلو كنت آكلاً لأكلت معك فأصبت على حياء، ثم قال: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال: قلت لعل أمير المؤمنين قائل – نوم القيلولة – قال: بئس ما قلت أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعن الرعية ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية([146]).

ومن هذا الخبر نستنتج أن المسجد في عصر الإسلام الأول كان يمثل أهم وسائل الإعلام حيث يجتمع المسلمون فيه بنداء الصلاة جامعة، وهذا النداء يعني أن هناك أمراً مهماً سيتم إبلاغه لعموم المسلمين فإذا اجتمعوا أُلقيت عليهم البيانات العسكرية والأمور السياسية والاجتماعية وغير ذلك، كما نستفيد من هذا الخبر وصفاً لحياة عمر رضي الله عنه، وهو خليفة المسلمين، حيث يقول لمعاوية بن خديج لئن نمت النهار لأضيِّعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعنَّ نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية وهذا يدل على كمال اليقظة لحق النفس وحقوق الآخرين، وإذا استطاع المسلم أن يجمع بين مراعاة ذلك كله فإنه يكون من المتقين المحسنين([147]).



.

رابعاً: حرص الفاروق على الوفاء بالعهود:

ذكر ابن الأثير: … إن المسلمين لما انهوا إلى بِلْهِيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو بن العاص:إنّني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إليّ منكم: فارس والروم فإن أحببت الجزية على أن تردّ ما سبيتم من أرضي فعلت.

فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تُقسم ثمّ كأنها لم تكن، وأمّا السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيّروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأمّا مَنْ تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندريّة، فأجاب إليه، فجمعوا السبي واجتمعت النصارى وخيّروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبّروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية، حتى فرغوا([148]).

إن هذا يعتبر شاهد صدق على ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من العزوف عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والرغبة الصادقة في هداية العالمين إلى الإسلام، فإن دخول الأسرى في الإسلام لا يفيد المسلمين شيئاً من الدنيا، وبقاؤهم على دينهم يتضمن فائدة دنيوية لهم حيث يُلزَمون بدفع الجزية للمسلمين ومع ذلك نجد عمر رضي الله عنه يأمر بتخيير الأسرى بين الإسلام أو دفع الجزية، وحينما تمّ تطبيق ذلك كان الصحابة ومن معهم يكِّبرون تكبيراً أشد من تكبير الفتح حينما يختار أولئك النصارى دين الإسلام ويجزعون جزعاً شديداً حينما يختارون البقاء على دينهم حتى كان أولئك الأسرى من ضمن جماعة المسلمين وخرجوا عن دين الإسلام ومما يلفت النظر في هذا الخبر حرص الصحابة على خلق الوفاء ويتضح ذلك من قول عمر رضي الله عنه في كتابه: وأما من تفرّق في البلدان فإنّا لا نقدر على ردّهم، وجاء في رواية: … ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفي له به([149])، فعمر رضي الله عنه ينظر إلى الوفاء بالعهد قبل إبرام الاتفاق مع الأعداء، حتى لا يكون المسلمون في وضع لا يستطيعون فيه الوفاء، وهذا الخلق يعتبر مرحلة عالية من الوفاء – وهو من أخلاق النصر – لأن من يبرم اتفاقية على أمر ثم لا يستطيع الوفاء به يكون معذوراً ولكن حينما يفكر بعمل الاحتياطات اللازمة لموضوع الوفاء بالعهد حتى لا يجد نفسه بعد ذلك عاجزاً عن الوفاء، فهذا نهاية التدبير، وغاية النظر الثاقب([150]).
.




رد مع اقتباس
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ Arsalan على المشاركة المفيدة: