الموضوع
:
●● الخليفةُ الثانيّ ، عُمَر بن الخَطاب رضيَ الله عنهُ || الجزءُ السابع || ~
عرض مشاركة واحدة
07-05-2012, 11:48 PM
رقم المشاركة :
4
Arsalan
عضو نشيط
الحالة
شكراً: 192
تم شكره 741 مرة في 171 مشاركة
رد: ●● الخليفةُ الثانيّ ، عُمَر بن الخَطاب رضيَ الله عنهُ || الجزءُ السابع || ~
●
●
●
●
.
· فتح الجزيرة: 17هـ:
تقدم لنا أن الروم وأهل بلاد الجزيرة أغاروا على مدينة حمص وحصروا فيها
أبا عبيدة رضي الله عنه والمسلمين وأن عمر رضي الله عنه أرسل إلى سعد بن
أبي وقاص رضي الله عنه يأمره بإمداد أهل حمص بجيش يخرج من الكوفة إلى حمص، وجيوش تخرج إلى الجزيرة وقد أرسل سعد جيشاً من الكوفة بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي، وأرسل جيوشاً إلى الجزيرة وكلها تحت قيادة عياض بن غنم رضي الله عنه، فخرجَت هذه الجيوش إلى الجزيرة فسلك سهيل بن عدي وجنده طريق الفراض حتى انتهى إلى الرَّقًّة فحاصرهم، فنظروا إلى أنفسهم بين قوتين للمسلمين في العراق والشام فصالحوهم، وسلك عبد الله بن عبد الله بن عِتْبان طريق دجلة حتى انتهى إلى نصيبين فلقيه أهلها بالصلح كما صنع أهل الرقة، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ضم عياض سهيلاً وعبد الله إليه وسار بالناس إلى حران فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية فقبل منهم، ثمّ سرَّح عبدالله وسهيلاً إلى الرُّها فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية وهكذا فتحت الجزيرة كلها على سعتها صلحاً، فكانت أسهل البلدان أمراً([91]).
●
●
●
●
.
المبحث الثاني: فتوحات مصر وليبيا:
كانت دوافع فتح مصر عند المسلمين قوية، فهناك العقيدة التي يريدون التمكين لها في كل مكان، ومصر تتصل بفلسطين فمن الطبيعي بعد فتح فلسطين أن يتجه المسلمون إلى مصر، وقد قسم المسلمون الإمبراطورية البيزنطية إلى قسمين لا يصل بينهما سوى البحر وذلك باستيلائهم على الشام، وفي مصر وشمال أفريقية جيوش ومسالح رومية، ولبيزنطة أسطول قوي في البحر، ولن يأمن المسلمون في الشام ومصر تحت النفوذ الروماني، ومصر غنية، وهي مصدر لتموين القسطنطينية فإذا فتحها المسلمون ضعف نفوذ بيزنطية كثيراً وأمن المسلمون في الشام والحجاز حيث يسهل اتصال الروم بالحجاز عن طريق مصر([92]) ومن العوامل أيضاً أن (القبط) أنفسهم يعانون من اضطهاد الروم، وأن هؤلاء لا يعيشون في مصر إلا بمثابة حاميات عسكرية، فلماذا لا تنتهز هذه الفرصة خاصة أن عدل المسلمين لابد أن يكون قد سبقهم إلى مصر([93])، أما الحامية نفسها فإن الرعب([94]) لابد أن يكون قد تملّكها حينما رأت ملكها هرقل يترك بلاد الشام لتصير جزءاً من الدولة الإسلامية كل هذا كان يدركه عمرو بن العاص وخلص إلى نتيجة وهي: أن الروم في مصر سيكونون عاجزين عن الوقوف في وجه المسلمين بينما لو تركت مصر دون فتح فستظل مصدر تهديد لهم، وهذا ما صرح به عمرو بن العاص نفسه([95]) وبالرغم من تعدد الروايات حول أول من فكر في فتح مصر: عمرو بن العاص أم الخليفة نفسه دون تدخل من عمرو، أم أن الخليفة وافق تحت إلحاح عمرو([96])، بالرغم من ذلك الاختلاف فإن العوامل السابقة كلها تنفي أن تكون خطة فتح مصر هي مجرد خاطرة من عمرو وأن الخليفة غير راضٍ عن ذلك، أو أنهم لم يكن لديهم التصور الكامل عن مصر وأرضها وحجم قوة أعدائهم فيها وقد جاءت الروايات التاريخية تؤيد ما ذهبت إليه فقد بين ابن عبد الحكم: أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص بعد فتح الشام أن أندب الناس إلى المسير معك إلى مصر، فمن خف معك فسر به([97])، وجاء في الطبري: .. أقام عمر بإيلياء بعدما صالح أهلها ودخلها أياماً، فأمضى عمرو بن العاص إلى مصر، وأمّره عليها، إن فتح الله عليه، وبعث في إثره الزبير بن العوام مدداً له ويؤكد هذا تلك الإمدادات التي أرسلها عمر إلى مصر ووصل عددها إلى اثني عشر ألفاً، وكذلك أمره بفتح الإسكندرية دون خلاف في ذلك([98])، فهل من الممكن أن يتوغل عمرو في مصر دون رضاً من الخلافة؟ ونحن نعرف المسلمين قادة وجنوداً كانوا غاية في السمع والطاعة والالتزام ومن ثم نكرر أن فتح مصر لم يكن إلا استجابة لخطة مرسومة سلفاً عند الخليفة وقواده، ولم تكن استجابة لرغبة عابرة([99]).
●
●
●
●
.
أولاً: مسير الفتح الإسلامي لمصر:
يعتبر فتح مصر المرحلة الثالثة من الفتوحات بالنسبة لمحور الدولة البيزنطية ولقد كانت مسيرة عمرو من فلسطين إلى مصر محاذياً البحر فسار من رفح إلى العريش إلى الفرما واستمر فتحه للقاهرة فالاسكندرية وهذا يدلنا على موهبة عمرو العسكرية حيث سار في هذا الخط ربما لأنه لم يكن للروم ثقل عسكري في هذا الخط كما كان في بلاد الشام وربما لأن الدرب كان معروفاً لعمرو بن العاص، فكان تسلسل الفتح كما هو مرتب فيما يلي مع بيان أوجه الاختلاف والاضطراب حيث لم يخل سير الفتح من اختلاف كما حدث في فتح بلاد الشام([100]).
●
●
●
●
.
1- فتح الفرما:
تقدم عمرو غرباً ولم يلاق جيشاً رومانياً إلا في (الفرما) أما قبل ذلك فقد قابله المصريون بالترحاب والتهليل، فكان أول موضع قوتل فيه كان في (الفرما) فقد تحصن الروم في المدينة لمواجهة المسلمين، واثقين من قدراتهم على الذود عنها ورد المسلمين بعد أن علموا أن المسلمين الذين جاءوا مع عمرو قلة في العدد والعدة وليس معهم عدة للحصار، عرف عمرو عدد الروم، واستعداداتهم وأنهم يزيدون على جنده أضعافاً، فكانت خطته في الاستيلاء على الفرما هي المهاجمة وفتح الأبواب أو الصبر عليها إلى أن يضطر الجوع أهلها فينزلوا إليها، واشتد حصار المسلمين للمدينة واشتد عناد الروم ودام الحصار شهوراً، وكانت بعض القوات الرومانية تنزل إلى المسلمين بين الحين والآخر لقتالهم فيجهز عليهم المسلمون وكان عمرو يشد أزر المسلمين بكلماته القوية، فمن قوله لهم: يا أهل الإسلام والإيمان، يا حملة القرآن، يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصبروا صبر الرجال واثبتوا بأقدامكم
ولا تزايلوا صفوفكم، واشرعوا الرماح واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله، ولا تحدثوا حدثاً حتى آمركم([101]) وذات يوم خرجت فرقة من الرومان من القرية إلى المسلمين ليقاتلوهم وكانت الغلبة للمسلمين والدائرة على الروم فلاذوا بالفرار إلى القرية، وتبعهم المسلمون، وكانوا أسرع منهم، فملكوا الباب قبل أن يقتحمه الرومان، وكان أول من اقتحم المدينة من المسلمين هو (أسميقع) فكان الفتح المبين، ومما هو جدير بالذكر أن أقباط مصر الذين كانوا بالقرى عاونوا المسلمين ودلوهم على مناطق الضعف وتلقوا المسلمين في (اتميدة) بالترحاب، وبعد تمام احتلال الفرما قام المسلمون بهدم أسوارها وحصونها حتى لا يستفيد منها الروم لو رجعوا إليها لا قدر الله ثم خطب عمرو في الجيش قائلاً: أيها الناس، حمداً لله الذي جعل لجيش المسلمين الغلبة والظفر، والله عظيم حمى بالإسلام ظهورنا، وتكفل به طريق رجوعنا، ولكن إياكم أن تظنوا أن كل ما نرغب فيه قد تحقق، وأن تخدعوا بهذا النصر، فلا يزال الطريق أمامنا وعراً شاقاً والمهمة التي وكلها لنا أمير المؤمنين بعيدة المنال، وعليكم بالصبر والطاعة لرؤسائكم، فسيعلم القوم هنا أننا جنود السلام، لا نبغي فساداً في الأرض بل نصلحها وكونوا خير قدوة للرسول صلى الله عليه وسلم ([102]).
اطمأن عمرو إلى أن المدينة لم تعد صالحة لحماية جيش يأوي إليها، وتفقد جيشه وما فقده في المعركة وتألم لفقد رجال كانوا حريصين على فتح مصر فعاجلتهم المنية، وخشي إن استمرت المعارك على هذا النحو مع وقوع الخسائر في الجيش القليل العدد ألا يستطيع مواصلة الزحف، ولا يتمكن من بلوغ الغاية ولكن الله تعالى قد عوضه عمن فقده فانضم إلى جيشه كثير من رجال القبائل العربية من راشدة ولخم وكانوا يقيمون بجبل الحلال([103])، ومضى عمرو بجيشه لا يلقى شيئاً من المقاومة متجهاً غرباً حتى وصل القواصر (القصاصين) ومن هناك اتجه نحو الجنوب حتى أصبح في وادي الطمبلان بالقرب من التل الكبير ثم اتجه إلى الجنوب حتى نزل بلبيس. قال صاحب النجوم الزاهرة فتقدم عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس([104]).
●
●
●
●
.
2- فتح بلبيس:
وعند بلبيس برز الروم في قوة كبيرة قاصدين صدّ عمرو عن التوجه نحو حصن بابليون وأرادوا منازلة المسلمين، فقال لهم عمرو رضي الله عنه لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام، وعندئذ كفوا عن القتال، وخرج إليه الرجلان، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر، بسبب هاجر أم اسماعيل: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنّكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط([105])، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمّة ورحماً؛ أو قال: ذمة وصهراً([106])، فقالا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمِنّا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يُخدع: ولكني أوجلكما ثلاثاً لتنظرا فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس عظيم القبط([107])، وأرطبون الوالي من قِبَل الروم، فأخبراهما خبر المسلمين، فأما أرطبون فأبى وعزم على الحرب، وبيّت المسلمين، فهزموه هو وجنده إلى الإسكندرية([108])، ومما هو جدير بالذكر، ما يدل على شهامة المسلمين ومروءتهم أنه لما فتح الله على المسلمين (بلبيس) وجدوا فيها ابنة المقوقس واسمها (أرمانوسة) وكانت مقربة من أبيها، وكانت في زيارة لمدينة بلبيس مع خادمتها (بربارة) هرباً من زواجها من قسطنطين ابن هرقل (وهو فيما بعد والد قنسطتز) صاحب موقعة ذات الصواري وكانت غير راغبة في الزواج منه، ولما تمكنت مجموعة من الجيش الإسلامي من أسر أرمانوسة جمع عمرو بن العاص الصحابة وذكرهم بقوله تعالى:} هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلاَّ الإحْسَانُ(60) { (الرحمن،آية:60). ثم قال: لقد أرسل المقوقس هدية إلى نبينا وأرى أن نبعث إليه بابنته وجميع من أسرناهم من جواريها وأتباعها، وما أخذنا من أموالهم، فاستصوبوا رأيه([109])، فأرسلها عمرو إلى أبيها معززة مكرمة ومعها كل مجوهراتها وجواريها ومماليكها وقالت لها خادمتها (بربارة) أثناء سفرهما: يا مولاتي إن العرب يحيطون بنا من كل جانب فقالت أرمانوسة: إني آمن على نفسي وعرضي في خيمة العربي، ولا آمن على نفسي في قصر أبي([110])، ولما وصلت إلى أبيها سُرَّ بها وبتصرف المسلمين معها([111]).
●
●
●
●
.
3- معركة أم دنين:
ذكر ابن عبد الحكم في روايته أن عمراً مضى بجيشه حتى فتح ((بلبيس)) بعد قتال دام نحواً من شهر، ثم مضى حتى أتى ((أم دنين)) وتسمى المقسس وهي واقعة على النيل فقاتل المسلمون حولها قتالاً شديداً وأرسل عمرو إلى أمير المؤمنين يستمده فأمده أمير المؤمنين بأربعة آلاف رجل على كل ألف منهم رجل يقوم مقام الألف، وهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مُخلَّد، وقيل الرابع خارجة بن حذافة، وقال عمر في كتابه له: اعلم أن معك اثني عشر ألفاً، ولن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلَّة([112])، وقد خرج الروم مع الأقباط لمواجهة المسلمين، وجرت بينهم معركة حامية استعمل فيها عمرو بن العاص دهاءه الحربي كما صنع خالد بن الوليد في حروب العراق، وذلك أنه جعل جيشه ثلاثة أقسام، حيث أقام كميناً للأعداء في الجبل الأحمر، وأقام كميناً آخر على النيل قريباً من أم دنين، وقابل أعداءه ببقية الجيش، ولما نشب القتال بين الفريقين خرج الكمين الذي في الجبل الأحمر وانقضَّ على الروم فاختل نظامهم وانهزموا إلى أم دنين فقابلهم الكمين الذي بقربها فأصبحوا بين جيوش المسلمين الثلاثة وانهزموا وتفرق جيشهم ولجأ بعضهم إلى حصن بابليون الحصين([113])، وهكذا كسب المسلمون هذه المعركة ووقاهم الله شر أعدائهم بفضله تعالى وذلك بتوفيق قائدهم المحنَّك إلى هذه الخطة المحكمة التي شتت بها قوات الأعداء([114]).
●
●
●
●
.
4- معركة حصن بابليون:
تقدم عمرو وجيشه إلى حصن بابليون وحاصروه حصاراً محكماً ودام الحصار سبعة أشهر، وأرسل المقوقس خلال ذلك رسله إلى عمرو بن العاص للمصالحة فاستجاب عمرو بن العاص على الشروط: الإسلام أو الجزية أو الحرب فاختار المقوقس الجزية، وكتب المقوقس إلى هرقل يستأذنه في ذلك، فلم يقبل منه بل حنق عليه ولامه لوماً شديداً واستدعاه إلى القسطنطينية ثم نفاه، ولما أبطأ فتح حصن بابليون قال الزبير بن العوام: إني أهب نفسي لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين([115])، وراح عمرو بن العاص يحاصر حصن بابليون ثم تسوروا الحصن في الليل واشتبكوا مع الجنود في قتال عنيف وكان أول من تسور الحصن الزبير بن العوام فوضع سلماً من ناحية سوق الحمام ثم صعد وأمر المسلمين إذا سمعوا تكبيره أن يقتحموا الحصن، فما شعروا إلا والزبير بن العوام على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فكبر تكبيرة فأجابه المسلمون من خارج الحصن، ولم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا جميعاً الحصن فهربوا، فعمد حواري رسول الله بأصحابه إلى باب حصن بابليون ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن وفتحوه عنوة، ولكن عمرو بن العاص أمضى الصلح على أن يخرج جند الروم ما يلزمهم من القوت لبضعة أيام، أما حصن بابليون وما فيه من الذخائر وآلات الحرب فتبقى غنيمة للمسلمين ثم خرب أبو عبد الله أبراج الحصن وأسواره([116]).
●
●
●
●
.
ثانياً: فتح الإسكندرية:
رابط عمرو بن العاص ورجاله عدة أشهر في حصن بابليون ليستجمَّ الجنود ويصله الإذن من أمير المؤمنين عمر بالسير لفتح الإسكندرية، فلما تحقق ذلك ترك عمرو في الحصن مسلحة قوية من المسلمين، وفصل بجنوده من بابليون في مايو سنة 641م، الموافق جمادى الآخرة سنة 21هـ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط الذين اطمأنوا إلى أن مصلحتهم باتت في مساندة القوة الإسلامية المظفرة، وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعواناً على ما أرادوا من قتال الروم([117])، وقد آثر عمرو السير على الضفة اليسرى للنيل حيث محافظة البحيرة لتتيح له الصحراء مجالاً واسعاً لحركة خيله وجنوده، وكي يتجنب ما كان سيعترضه من الترع الكثيرة لو سار في دلتا النيل، ولم يلق عمرو إلا قتالاً يسيراً عند مرفوط أو (الطرانة) كما يسميها المؤرخون العرب([118])، ثم عبر النهر إلى الضفة الشرقية حيث تقع مدينة نقيوس الحصينة([119])، وكانت ذات حصن منيع فتخوف عمرو أن يتركها على جانبه ويسير عنها، ولكن الروم بدل أن يتحصنوا من المسلمين في حصنهم ركبوا سفنهم ليحاربوا المسلمين فيها ويمنعوهم من الاقتراب من مدينتهم، فرماهم المسلمون بالنبال والسهام وطاردوهم في المياه، فولوا الأدبار في سفنهم نحو الإسكندرية، وسرعان ما استسلم من بقي في الحصن ودخله المسلمون ظافرين، وأمضوا عدة أيام يستبرئون ما حوله من أعدائهم([120])، وأرسل عمرو قائده شريك بن سُميَّ ليتعقب الروم الفارين، فالتقى بهم وليس معه إلا قوة معدودة، فطمع فيه الروم وأحاطوا به، فاعتصم بهم في نهد من الأرض عُرف فيما بعد بكوم شريك، فأرسل إلى عمرو يطلب الأمداد، وما إن علم الروم أن المدد في الطريق إلى المسلمين حتى لاذوا بالفرار([121])، وعند سُلْطَيْس على ستة أميال جنوبي دمنهور كان اللقاء التالي بين عمرو والروم، وجرى قتال شديد انهزموا فيه وولوا الأدبار([122])، ومما يؤسف له أن هذه المعارك التي خاضها المسلمون بقواتهم المحدودة ضد قوات تفوقهم عدة أضعاف من الروم عدداً وعدة، والتي استمر بعضها عدة أيام لم تظفر من مؤرخي المسلمين سوى بأسطر قليلة أو كلمات معدودة، في حين أفرد بعضهم عشرات الصفحات للحديث عن القادسية أو اليرموك أو نهاوند([123])، ومن هذه المعارك الكبرى التي لا تشفى فيها مصادرنا العربية غليلاً معركة كِرْيون وهي آخر تلك السلسلة من الحصون التي تمتد بين بابليون والإسكندرية وقد تحصن بها تيودرو قائد الجيش الرومي ودار قتال شديد استمر بضعة عشر يوماً، ورغم ذلك فلم يظفر من ابن عبد الحكم سوى بهذه الكلمات: ثم التقوا بكريون، فاقتتلوا بها بضعة عشر يوماً، وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو، وصلى (عمرو) يومئذ صلاة الخوف، ثم فتح الله للمسلمين، وقتل منهم المسلمون مقتلة عظيمة واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية، وفي أثناء ذلك أورد قصة عن بطولة عبد الله بن عمرو ووردان مولى أبيه([124])، وقد كانت الإسكندرية عند فتح المسلمين لها عاصمة البلاد وثانية حواضر الإمبراطورية البيزنطية بعد القسطنطينية، وأول مدينة تجارية في العالم، وكان البيزنطيون يدركون خطورة استيلاء المسلمين عليها ويحملون همّ ذلك، حتى قال هرقل: لئن ظهر العرب على الإسكندرية إن ذلك انقطاع ملك الروم وهلاكهم([125])، وقد زعم الرواة أنه تجهز ليخرج إلى الإسكندرية بنفسه ليباشر قتال المسلمين بها، فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته، وكفى الله المسلمين مؤنته([126])، واضطربت أمور الدولة البيزنطية بعد موت هرقل إذ تولى الحكم إبناه قسطنطين وهرقل الثاني (هرقليانوس) وشاركتهما الإمبراطورة مارتينة أم هرقليانوس، لكن قسطنطين سرعان ما وافته منيته بعد مائة يوم من وفاة أبيه مما جعل أصابع الاتهام تتجه إلى الإمبراطورة التي كانت ترغب في أن ينفرد ولدها بالحكم، فاشتعلت الثورة ضدها، واستمرت الفتن ضاربة في البلاد عدة أشهر، حتى تولى كونستانس بن قسطنطين الحكم شريكاً لعمه هرقليانوس([127]).
وكانت الإسكندرية فضلاً عن متانة أسوارها وضخامة ووفرة حماتها تمتاز بموقعها الدفاعي المميز فكان البحر يحميها من شمالها؛ حيث السيطرة آنذاك للروم، وكانت بحيرة مريوط تحميها من جنوبها، وكان اجتيازها عسيراً، بل غير مستطاع، وكانت إحدى تفريعات النيل قديماً واسمها نزعة الثعبان تدور حولها من الغرب، وبذلك لم يبق إلا طريق واحد من الشرق يصل إليها؛ وهو الطريق الواصل بينها وبين كرْيون([128]).
وطال الحصار عدة أشهر مما أثار مخاوف عمرو من ملل جنوده أو شعورهم بالعجز أمام عدوهم، فقرر أن يبث كتائبه تجوس خلال بلاد الدلتا وقرى الصعيد، غير أن طول حصار الإسكندرية آثار حفيظة الخليفة عمر، وأثار في نفسه الهواجس والظنون حول استعداد جنوده للتضحية والمبادأة، ورأى أن ذلك ما كان إلا لما أحدثوا([129])، وشرح ذلك في رسالة إلى عمرو بن العاص يقول فيها: (( أما بعد، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر، إنكم تقاتلونهم منذ سنتين ذلك إلا لما أحدثتم، وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله تبارك وتعالى لا ينصر قوماً إلا بصدق نيّاتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، (يعني الزبير وصحبه)، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف، إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحُضَّهم على قتال عدوهم، ورغِّبهم في الصبر والنية، وقدِّم أولئك الأربعة في صدور الناس، ومُر الناس جميعاً أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة ووقت الإجابة، وليعجّ الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدّمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر، ففعلوا ففتح الله عليهم([130])، ويروى أن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد الأنصاري فقال: أشر علي في قتال هؤلاء فقال مسلمة: أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتعقد له على الناس، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيه، فقال عمرو: ومن ذلك؟ قال: عبادة بن الصامت، فدعاه عمرو إليه، فلما دنا منه أراد النزول عن جواده؛ فقال له عمرو: عزمت عليك إن نزلت، ناولني سنان رمحك، فناوله إياه فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه قتال الروم، ففتح الله على يديه الإسكندرية في يومهم ذاك([131])، وقد جاء في رواية: إني فكرت في هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله يريد الأنصار، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ففتح الله على يديه([132])، ويروي ابن عبد الحكم أن حصار الإسكندرية استمر تسعة أشهر وأنها فتحت في مستهل المحرم سنة عشرين للهجرة([133])، وهي ما يوافق 21 ديسمبر سنة 640م بينما انتهى بتلر في دراسته عن فتح مصر إلى أن حصار المدينة قد بدأ في أواخر يونيو سنة 640م وأنها استسلمت في 8 نوفمبر سنة 641م وهو ما يوافق 7 ذي الحجة سنة 21هـ، وقد يرجح هذا القول ما ورد في رسالة عمر الفاروق إلى عمرو بن العاص: إنكم تقاتلونهم منذ سنتين، فما بين وصول عمرو العريش في ديسمبر سنة 639م وتسليم الإسكندرية في نوفمبر 641م ما يعادل سنتين هلاليتين واستبقى عمرو أهل الإسكندرية فلم يقتل ولم يَسْبِ وجعلهم أهل ذمة، كأهل بابليون… ثم ترك في الإسكندرية حامية من قواته بعد أن اطمأن إليها ونشر بقية كتائبه لتفتح بقية حصون الروم وجيوبهم في مصر، فاستكمل فتح ساحل البحر المتوسط ومدنه الكبرى مثل رشيد ودمياط وغيرها: وكذلك بسط سيطرته على كل دلتا مصر وصعيدها([134]).
.
●
●
●
●
الأعضاء الذين قالوا شكراً لـ Arsalan على المشاركة المفيدة:
::Cinderella::
Arsalan
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن كل مشاركات Arsalan