رد: ●● الخليفةُ الثانيّ ، عُمَر بن الخَطاب رضيَ الله عنهُ || الجزءُ الخامس || ~
● ● ● ●
.
7- كتاب من أمير المؤمنين إلى سعد بن أبي وقاص:
وصل إلى سعد بن أبي وقاص كتاب من أمير المؤمنين وهو نازل في شراف على حدود العراق يأمره فيه بالمسير نحو فارس وقد جاء في هذا الكتاب: أما بعد فسر من شراف نحو فارس، بمن معك من المسلمين، وتوكل على الله واستعن به على أمرك كله، واعلم فيما لديك أنك تقدم على أمة عددهم كثير وعدتهم فاضلة، وبأسهم شديد، وعلى بلد منيع – وإن كان سهلاً – كؤود لبحوره وفيوضه ودأدائه([114])، إلا أن توافقوا غيضاً من فيض، وإذا لقيتم القوم أو أحداً منهم فابدؤوهم العتيد والضرب، وإياكم والمناظرة – لجموعهم – يعني الانتظار بعد المواجهة – ولا يخدعنكم فإنهم خدعة مكرة، أمرهم غير أمركم، إلا أن تجادوهم – يعني تأخذوهم بالجد – وإذا انتهيت إلى القادسية([115])، فتكون مسالحك على أنقابها ويكون الناس بين الحجر والمدر([116])، على حافات الحجر وحافات المدر، والجراع بينهما([117])، ثم ألزم مكانك فلا تبرحه فإنهم إن أحسوك انغضتهم رموك بجمعهم، الذي يأتي على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم، فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله ونويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبداً، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن، وهذه الوصية في اختيار المكان الذي يستقر فيه الجيش تشبه وصية المثنى لسعد حيث اتفق رأي عمر والمثنى في اختيار المكان، وكانت تلك الوصية من المثنى نتيجة خبرة أكثر من ثلاث سنوات في حرب الفرس، وهذا دليل على براعة عمر رضي الله عنه في التخطيط الحربي مع أنه لم تطأ قدماه أرض العراق رضي الله عنهم أجمعين، وتتضمن هذه الوصية إبقاء الجيش بعيداً عن متناول الأعداء، ثم رميهم بالسرايا التي تنغص عليهم حياتهم وتثير عليهم أتباعهم حتى يضطر المسلمون إلى منازلتهم في المكان الذي تم اختياره([118]).
● ● ● ●
.
8- من أسباب النصر المعنوية في رأي عمر رضي الله عنه:
كتب عمر رضي الله عنه إلى سعد يذكره بأسباب النصر المعنوية وهي التي تأتي في المقام الأول، وقد جاء في كتابه: أما بعد فتعاهد قلبك وحادث جندك بالموعظة والنية والحسبة، ومن غفل فليحدثهما والصبر الصبر، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية والأجر قدر الحسبة، والحذر الحذر على ما أنت عليه وما أنت بسبيله واسألوا الله العافية، وأكثروا من قول ((لا حول ولا قوة إلا بالله)) واكتب إليَّ أين بلغ جمعكم، ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم، فصف لنا منازل المسلمين، والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفة كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجيلة وخف الله وارجه، ولا تُدِل بشيء، واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكل لهذا الأمر بما لا خُلف له، فاحذر أن تصرفه عنك، ويستبدل بكم غيركم([119])، ففي هذا الكتاب يوصي عمر رضي الله عنه بتعاهد القلوب، فإن القلب هو المحرك لجميع أعضاء الجسم والحاكم عليها فإذا صلح صلح الجسم كله، ثم يوصيه بموعظة جنده وتذكيرهم بالإخلاص لله تعالى واحتساب الأجر عنده، ويبين أن نصر الله مترتب على ذلك، ويحذره من التفريط في المسؤولية التي تحملها وما يستقبله من الفتوح، ويذكرهم بوجوب ارتباطهم بالله تعالى وأن قوتهم من قوته ويوصي قائد المسلمين بأن يكون بين مقام الخوف من الله تعالى والرجاء لما عنده، وهو مقام عظيم من مقامات التوحيد وينهاه عن الإدلال على الله بشيء من العمل أو ثناء الناس ويذكره بما سبق من وعد الله تعالى بانتصار الإسلام وزوال ممالك الكفر، ويحذره من التهاون في تحقيق شيء من أسباب النصر، فيتخلف النصر عنهم ليتم على يد غيرهم ممن يختارهم الله تعالى([120]).
● ● ● ●
.
9- سعد رضي الله عنه يصف موقع القادسية لعمر رضي الله عنه ورد عمر عليه:
كتب سعد إلى عمر رضي الله عنهما: يصف له البلدان التي يتوقع أن تكون ميداناً للمعركة الفاصلة، إلى أن قال: وأن جميع من صالح المسلمين من أهل السواد قبلي إلبٌ لأهل فارس قد خضعوا لهم واستعدوا لنا، وإن الذي أعدوا لمصادمتنا رستم في أمثال له منهم، فهم يحاولون إنغاضنا وإقحامنا، ونحن نحاول إنغاضهم وإبرازهم، وأمر الله بعد ماض، وقضاؤه مسلّم إلى ما قدر لنا وعلينا، فنسأل الله خير القضاء وخير القدر في عافية([121])، فكتب إليه عمر: قد جاءني كتابك وفهمته، فأقم بمكانك حتى ينغض الله لك عدوك، واعلم أن لها ما بعدها، فإن منحك الله أدبارهم فلا تنزع حتى تقحم عليهم المدائن فإنه خرابها إن شاء الله([122])، ومن خلال رسالة عمر يتبين أنه اتخذ القرار المناسب وهو:
- أن يثبت سعد في مواقعه فلا يبارحها.
- أن لا يبادر العدو بالقتال بل يترك له أمر هذه المبادرة.
- أن يعمد إلى استثمار النصر ويطارد العدو حتى المدائن، فيفتحها عليه([123])، ومع الأخذ بالأسباب المادية التي لا بد منها في إحراز النصر لم يترك الفاروق الجوانب المعنوية وشن حرب نفسية على الخصوم في عقر دراهم، وعز ملكهم، وقوة سطوتهم، فأرسل إلى سعد: إني ألقي في روعي: أنكم إذا لقيتم العدو غلبتموهم، فمتى لاعب أحد منكم أحداً من العجم بأمان وإشارة أو لسان كان عندهم أماناً، فأجروا له ذلك مجرى الأمان والوفاء فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم وقوة عدوكم([124]).
لقد كان عمر رضي الله عنه يعيش مع الجيش الإسلامي بكل مشاعره وأحاسيسه، ولقد تكاثفت عليه الهموم حتى أصبح لا يهنأ بعيش ولا يقر له قرار حتى يسمع أخبارهم، وإن في مثل هذا الإلهام من الله تعالى تخفيفاً من هذا العبء الكبير الذي تحمله عمر وتثبيتاً للمسلمين وتقوية لقلوبهم، ونلاحظ أن الفاروق رضي الله عنه ذكّر المسلمين بشيء من عوامل النصر المعنوية حيث حثهم على الالتزام بشرف الكلمة والصدق في القول والوفاء بالعهود، ولو كان من التزم بذلك أحد أفراد المسلمين، أو كان هناك خطأ في الفهم فلم يقصد المسلم الأمان وفهمه
العدو أماناً([125]).
● ● ● ●
.
ثانياً: الفاروق يطلب من سعد أن يرسل وفداً لمناظرة ملك الفرس:
وقال عمر لسعد في رسائله: لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به واستعن بالله، وتوكل عليه وابعث إليه رجالاً من أهل النظر والرأي والجلد يدعونه إلى الله فإن الله جاعل دعاءهم توهيناً لهم وفلجاً عليهم وطلب الفاروق من سعد أن يكتب له كل يوم([126]) ، وشرع في جمع رجال من أهل النظر والرأي والجلد، فكان الذين وقع عليهم الاختيار من أهل الاجتهاد والآراء والأحساب.
1- النعمان بن مقرن المزني.
2- بسر بن أبي رهم الجهني.
3- حملة بن جويه الكناني.
4- حنظلة بن الربيع التميمي.
5- فرات بن حيان العجلي.
6- عدي بن سهيل.
7- المغيرة بن زرارة بن النباش بن حبيب([127]).
● ● ● ●
.
واختار سعد نفراً عليهم مهابة ولهم منظر لأجسامهم ولهم آراء نافذة.
1- عطارد بن حاجب التميمي.
2- الأشعث بن قيس الكندي.
3- الحارث بن حسان الذهلي.
4- عاصم بن عمرو التميمي.
5- عمرو بن معدي كرب الزبيدي.
6- المغيرة بن شعبة الثقفي.
7- المعنى بن حارثة الشيباني([128]).
فهم أربعة عشر داعية بعثهم سعد دعاة إلى ملك الفرس بأمر عمر رضي الله عنه وهم من سادات القوم كما أرادهم عمر رضي الله عنه، كي يستطيعوا دعوة يزدجرد بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولعل الله يهديه هو وجنده للإيمان وتحقن دماء الطرفين. لقد كان هذا الوفد المنتقى على درجة عالية من الكفاية والقدرة لما أوفد له، فالإضافة إلى ما يتمتعون به من جسامة وقوة ومهابة وحسن رأي، فلهم أيضاً سبق معرفة بالفرس، فقد كان منهم من عاركهم وعركهم ومارس معهم الحروب في حملات سابقة، ومنهم من وفد في الجاهلية على ملوك الفرس، ومنهم من يعرف اللغة الفارسية، فكأن سعد اختارهم لهذه الوفادة بعد أن اجتاز كل منهم كشفاً فنياً من حيث كفاءته وحسن رأيه، وكشفاً طبياً من حيث قوته وضعفه وكشف هيئة من حيث لياقته وجسامته([129]). لقد كان الوفد يتمتع بميزتي الرغبة والرهبة التي تتوفر في جسامتهم ومهابتم وجلدهم وشدة ذكائهم([130]).
وتحرك هذا الوفد الميمون بقيادة النعمان بن مقرن، فوصلوا المدائن وأدخلوا على ملك الفرس يزدجرد، فسألهم بواسطة ترجمانه: ما جاء بكم ودعاكم إلى غزونا والولوغ ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا؟
فتكلم عنهم النعمان بن مقرن، فقال: (إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً يأمرنا بالخير وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خيري الدنيا والآخرة، فلم يدع قبيلة قاربه منها فرقة، وتباعد عنه منها فرقة، ثم أمر أن نبتدئ بمن خالفه من العرب، فبدأنا بهم، فدخلوا معه على وجهين مكره عليه فاغتبط([131])، وطائع فازداد، فعرفنا جميعاً فضل
ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق ثم أمر أن نبتدئ بمن جاورنا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف. فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسن الحسن، وقبح القبيح كله، فإن أبيتم فأمر من الشر أهون من آخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمنا على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم وشأنكم وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء قبلنا منكم ومنعناكم وإلا قاتلناكم).
فقال ملك الفرس يزدجرد : إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى ولا أقل عدداً
ولا أسوأ ذات بين منكم، فقد كنا نوكل لكم قرى الضواحي فيكفونا أمركم:
ولا تطمعون أن تقوموا لفارس، فإن كان غرور لحقكم فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد([132])، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم.
فقام المغيرة بن زرارة، فقال: أما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت وأشد وذكر من سوء عيش العرب ورحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه وسلم .. مثل مقالة النعمان .. ثم قال: ((اختر إما الجزية عن يدٍ وأنت صاغر، أو السيف، وإلا فنج نفسك بالإسلام)).
فقال يزدجرد: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، لا شيء لكم عندي، ثم استدعى بوقر([133])، من تراب، وقال لقومه: احملوه على أشرف هؤلاء، ثم سوقوه حتى يخرج من باب المدائن فقام عاصم بن عمرو وقال: أنا أشرفهم وأخذ التراب فحمله وخرج إلى راحلته فركبها، ولما وصل إلى سعد قال له (أبشر: فوالله لقد أعطانا الله أقاليد([134])، ملكهم)) ([135]) .
ثم إن رستم خرج بجيشه الهائل، مائة ألف أو يزيدون، من ساباط، فلما مر على كوش – قرية بين المدائن وبابل – لقيه رجل من العرب فقال له رستم: ما جاء بكم، وماذا تطلبون منا؟ قال: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا قال رستم: قد وضعنا إذا في أيديكم: قال العربي: أعمالكم وضعتكم، فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك، فإنك لست تجادل([136])، الإنس وإنما تجادل القدر!
فغضب منه رستم وقتله: فلما مرّ بجيشه على البرس – قرية بين الكوفة والحلة غصبوا أبناء أهله وأموالهم، وشربوا الخمور، ووقعوا على النساء! فشكى أهل البرس إلى رستم فقال لقومه: ((والله لقد صدق العربي! والله ما أسلمنا إلا أعمالنا، والله إن العرب مع هؤلاء وهم حرب أحسن سيرة منكم)) ([137]).
ولما علم سعد أمير جيش المسلمين خبر رستم، أرسل عمرو بن معد يكرب الزبيدي، وطليحة بن خوليد الأسدي يستكشفان خبر الجيش مع عشرة رجال، فلم يسيروا إلا قليلاً حتى رأوا سرح العدو منتشراً على الطفوف([138])، فرجعوا إلا طليحة، فإنه ظل سائراً حتى دخل جيش العدو وعلم ما فيه، فرجع إلى سعد وأخبره خبره وكان طليحة هذا من زعماء الردة.
وقد سمح الفاروق لمن ارتد وتاب من العرب بالاشتراك في الجهاد وكان الصديق رضي الله عنه يمنع ذلك، وكان الفاروق يمنع من خرج من زعماء أهل الرد بعد توبته إلى الجهاد أن يتولى إمارة ولم يولِّ منهم أحداً وحرص على أن يتربوا على معاني الإيمان والتقوى وأتاح لهم فرصة ثمينة ليعبروا فيها عن صدق إيمانهم وتقواهم وكان لطليحة الأسدي وعمرو الزبيدي مواقف مشهودة في حروب العراق والفرس.
● ● ● ●
.
ثالثاً: سعد بن أبي وقاص يرسل وفوداً لدعوة رستم:
وسار رستم بجيشه من الحيرة حتى نزل القادسية على العتيق – جسر القادسية – أمام عسكر المسلمين، يحول بينهم النهر، ومع الفرس ثلاثة وثلاثون فيلاً، ولما نزل أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه.
فأرسل إليه: ربعيَّ بن عامر فجاءه وقد جلس على سرير من ذهب: وبُسُط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب! فأقبل ربعيُّ على فرسه، وسيفه في خِرْقة([139]) ورمحه مشدود بعِصَب([140])، فلما انتهى إلى البساط وطأه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما: وجعل الحبل فيهما، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، فأشاروا عليه بوضع سلاحه؛ فقال: لو أتيتك فعلت ذلك بأمركم، وإنما دعوتموني، ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويُقارب خطوه حتى أفسد ما مرّ عليه من البُسط، ثم دنا من رستم، وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنّا لا نقعد على زينتكم. فقال له رستم: ما جاء بكم؟ قال: الله جاء بنا، وهو بَعَثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومنْ ضيق الدُّنيا إلى سغنها، ومن جور الأدْيَان إلى عدل الإسلام، فأرسل لنا رسوله بدينه إلى خَلْقِهِ، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه، وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نُفضي إلى الجنة، أو الظَّفر([141]).
فقال رستم قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ فقال: نعم، وإنَّ مما سَنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاّ نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثاً، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء فنقبل ونكف عنك، وإن احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة([142]) في اليوم الرابع إلا أن تبدأ بنا، وأنا كفيل عن أصحابي.
فقال رستم أسيِّدهم أنت؟ قال: لا ولكنّ المسلمين كالجسد الواحد بعضهم من بعض، يُجِيزُ أدناهم أعلاهم.
ثم انصرف، فخلا رستم بأصحابه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟ فأروه الاستخفاف بشأنه:
فقال رستم: ويلكم وإنما أنظر إلي الرأي والكلام والسيرة، والعربُ تستخف اللباس وتصون الأحساب.
فلما كان اليوم الثاني من نزوله، أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا هذا الرجل. فأرسل إليه حذيفة بن مِحْصَن الغلفاني، فلم يختلف عن ربعي في العمل والإجابة، ولا غرابة، فهما مستقيان من إناء واحد، وهو دين الإسلام.
فقال له رستم: ما قَعَد بالأول عنا؟ قال: (أميرُنا يَعْدل بيننا في الشدة والرّخاء، وهذه نوبتي). فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟ قال: إلى ثلاث، من أمس.
وفي اليوم الثالث أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً. فأرسل إليه المغيرة بن شعبة فتوجه إليه، ولما كان بحضرته جلس معه على سريره، فأقبلت إليه الأعوان يجذبونه! فقال لهم: قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوماً أسفه منكم، إنا معشر العرب لا يستعبد بعضنا بعضاً، إلا أن يكون محارباً لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني: أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم، وأن مُلكاً لا يقوم على هذه السِّيرة ولا على هذه العقول.
فقالت السوقة: صدق والله العربي، وقالت الدَّهاقين -زعماء الفلاحين- لقدر من بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه، قاتل الله سابقينا حيث كانوا يُصَغِّرون أمر هذه الأمة.
ثمّ تكلم رستم بكلام صَغَّر فيه شأن العرب، وضخَّم أمر الفرس، وذكر ما كانوا عليه من سوء الحال وضيق العيش([143]).
فقال المغيرة: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف، فنعرفه
ولا ننكره، والدنيا دُول، والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما أتاكم الله لكان شُكركم قليلاً على ما أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشُّكر إلى تغير الحال وإن الله بعث فينا رسولاً، ثم ذكر مثل ما تقدم، وختم كلامه بالتخيير بين الإسلام أو الجزية أو المنابذة([144]).
فخلا رستم بأهل فارس، وقال: أين هؤلاء منكم؟ ألم يأتكم الأوَّلان فجسراكم([145]) واستخرجاكم([146])، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا، وسلكوا طريقاً واحداً، ولزموا أمراً واحداً، هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين والله لئن بلغ من أدبهم وصونهم لسرّهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم، لئن كانوا صادقين فما يقوم لهؤلاء شيء، فَلَجُّوا([147]).
● ● ● ●
.
رابعاً: الاستعداد للمعركة:
لم ينتفع الفرس بدعوة الوفود، وتمادوا في غيهم ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأجمع الفرس على القتال واستعد المسلمون لذلك وعبر الفرس نهر العتيق وعيّن رستم جيشه العرمرم على الشكل التالي:
- في القلب: ذو الحاجب (ومعه 18 فيلاً) عليها الصناديق والرجال.
- في الميمنة: مما يلي القلب: الجالينوس.
- في الميمنة: الهرمزان (ومعه 7 أو 8 أفيال ) عليها الصناديق والرجال.
- في الميسرة مما يلي القلب: البيرزان.
- في الميسرة: مهران (ومعه 7 أو 8 أفيال) عليها الصناديق والرجال، وأرسل رستم فرقة من خيالته إلى القنطرة لتمنع المسلمين من عبورها نحو جيشه، فأصبحت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين وخيول المشركين وكان ترتيب الصفوف على الشكل التالي:
- الخيالة في الصفوف الأولى، يليها الفيلة، ثم المشاة، ونصب لرستم مظلة كبيرة استظل بها على سريره وجلس يراقب سير المعركة([148])، وكان المسلمون على أهبة الاستعداد وعلى أحسن تعبئة للقتال، فقد عبأ سعد بن أبي وقاص جيشه مبكراً، وأمّر الأمراء، وعرّف على كل عشرة عريفاً، وجعل على الرايات رجالاً من أهل السابقة أيضاً ورتّب المقدمة والساقة والمُجنِّبات والطلائع، وقد وصل القادسية على تعبئة، وقد عبأ جيشه على الشكل التالي:
1- على المقدمة: زُهرة بن الحَويَّة.
2- وعلى الميمنة: عبد الله بن المُعْتمِّ.
3- وعلى الميسرة: شرحبيل بن السمط الكندي، وخليفته خالد بن عُرْفُطة.
4- وعلى الساقة: عاصم بن عمرو.
5- وعلى الطلائع: سواد بن مالك.
6- وعلى المجرّدة: سلمان بن ربيعة الباهلي.
7- وعلى الرَّجَّالة: حَمَّال بن مالك الأسدي.
8- وعلى الركبان: عبد الله بن ذي السهمين الحنفي.
9- وعلى القضاء بينهم: عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي.
10- وكاتب الجيش: زياد بن أبي سفيان.
11- ورائده وداعيه: سلمان الفارسي وكل ذلك بأمر من عمر([149]) هذا وقد خطب سعد بن أبي وقاص في الناس وتلا قول الله تعالى: } وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105) { (الأنبياء،آية:105). وأمر القرّاء أن يشرعوا في سورة الأنفال، فقرئت ولما أتموا قراءتها هشت([150]) قلوب الناس وعيونهم، ونزلت السكينة وصلى الناس الظهر وأمر سعد جيشه أن يزحفوا بعد التكبيرة الرابعة وأن يقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله واستمرت المعركة أربعة أيام.
وقد كان سعد رضي الله عنه مريضاً بعرق النسأ، وبه دمامل لا يستطيع الركوب ولا الجلوس فكان مكبِّا على صدره وتحته وسادة ويشرف على الميدان من قصر قُدَيْس الذي كان في القادسية وقد أناب عنه في تبليغ أوامره خالد بن عرفطة، وقد أمر بأن ينادي في الجيش: ألا إن الحسد لا يحل إلا على الجهاد في أمر الله، أيها الناس فتحاسدوا وتغايروا على الجهاد([151])، وقبل بدء القتال حصل اختلاف على خالد بن عرفطة نائب سعد فقال سعد: احملوني وأشرفوا بي على الناس، فارتقوا به، فأكبّ مطَّلعاً عليهم والصف في أسفل حائط قصر قُدَيْس يأمر خالداً فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب عليه بعض وجوه الناس فهمَّ بهم سعد وشتمهم، وقال: أما والله لولا أن عدوكم بحضرتكم لجعلتكم نكالاً لغيركم، فحبسهم، ومنهم أبو محجن الثقفي وقيدهم في القصر، وقال جرير بن عبد الله ? مؤيداً طاعة الأمير ? أما أني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبداً حبشياً. وقال سعد: والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويشاغلهم وهم بإزائهم إلا سننتُ فيه سنة يؤخذ بها من بعدي([152])، وقد قام فيهم سعد بن
أبي وقاص بعد هذه الحادثة خطيباً، فقال بعد أن حمد لله وأثنى عليه: إن الله هو الحق لا شريك له في الملك، وليس لقوله خُلف، قال الله جل ثناؤه:} وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي
الصَّالِحُونَ(105) { (الأنبياء،آية:105) إن هذا ميراثكم وموعود ربكم، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج فأنتم تطعمون منها وتأكلون، وتقتلون أهلها وتجبرنهم وتسبونهم إلى هذا اليوم بما نال منهم أصحاب الأيام منكم وقد جاءكم منهم هذا الجمع، وأنتم وجوه العرب وأعيانهم وخيار كل قبيلة، عِزَّ من وراءكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة، ولا يقرِّب ذلك أحداً إلى أجله، وإن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم تُوبقوا آخرتكم([153]).
وكتب سعد إلى الرايات: إني قد استخلفت فيكم خالد بن عرفطة، وليس يمنعني أن أكون مكانه إلا وجعي الذي يعودني وما بي من الحبوب([154])، فإني مُكبُّ على وجهي وشخصي لكم باد فاسمعوا له وأطيعوا فإنه إنما يأمركم بأمري ويعمل برأيي، فقُرئ على الناس فزادهم خيراً، وانتهوا إلى رأيه وقبلوا منه وتحاثُّوا على السمع والطاعة، وأجمعوا على عذر سعد والرِّضى بما صنع([155])، وقد بقي سعد بن أبي وقاص فوق القصر وأصبح مشرفاً على ساحة المعركة ولم يكن القصر محصناً وهذا يدل على شجاعة سعد رضي الله عنه، فعن عثمان بن رجاء السعدي قال: كان سعد بن مالك أجرأ الناس وأشجعهم، إنه نزل قصراً غير حصين بين الصفين، فأشرف منه على الناس ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذ برُمَّته([156])، فوالله ما أكرثه هول تلك الأيام ولا أقلقه([157]).
.
● ● ● ●
آخر تعديل همسات مسلمة يوم 06-08-2012 في 03:21 AM.
|