● ● ● ● . 7- حقوقهم المادية: أما عن الناحية المادية فقد كان للولاة حقوق وعلى رأسها مرتباتهم التي يعيشون عليها، ولا شك أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون قد أحسوا بأهمية الأرزاق بالنسبة للعمال، وأنها حق من حقوقهم إضافة إلىاستغنائهم بها عن الناس وبالتالي عدم التأثير عليهم أو محاولة رشوتهم([131])، وقد كان عمر بن الخطاب حريصاً على نزاهة عماله وعفتهم عن أموال الرعية، واستغنائهم بأموالهم عن أموال الغير، ولعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أحس بهذه القضية الخطيرة، وأحس أنه لكي يضمن نزاهة عماله فلا بد له أن يغنيهم عن الحاجة إلى أموال الناس وقد دار حوار بينه وبين أبي عبيدة مفهومه أن أبا عبيدة قال لعمر بن الخطاب: دنّست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني باستعمالهم فقال له عمر: يا أبا عبيدة إذا لم أستعن بأهل الدين على سلامة ديني فبمن أستعين؟ قال أبو عبيدة: أما إن فعلت فاغنهم بالعمالة عن الخيانة([132])، يعني إذا استعملتهم في شيء فأجزل لهم في العطاء والرزق، حتى لا يحتاجون إلى الخيانة أو إلى الناس وقد كان عمر يصرف لأمراء الجيش والقرى وجميع العمال من العطاء ما يكفيهم بالمعروف نظير عملهم ( على قدر ما يصلحهم من الطعام ما يقومون به من الأمور) ([133])، وكان عمر يحرص على نزاهة العمال عما بأيديهم من الأموال العامة فيقول لعماله: قد أنزلتكم من هذا المال ونفسي منزلة وصي اليتيم من كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف([134])، وقد فرض عمر لجميع عماله تقريباً مرتبات محددة وثابتة سواء يومية أو شهرية أو سنوية وقد ورد ذكر بعضها في المصادر التاريخية منها ما كان طعاماً ومنها ما كان نقوداً محددة([135])، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات وعمّار بن ياسر على الصلاة والجند ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لعمار بن ياسر، لأنه كان في الصلاة والجند، وجعل ربعها لعبد الله بن مسعود والربع الآخر لعثمان بن حنيف كما ورد أن عمر بن الخطاب فرض لعمرو بن العاص أثناء ولايته على مصر مائتي دينار([136])، وكان عطاء سلمان الفارسي رضي الله عنه وهو على ثلاثين ألفاً من الناس في المدائن خمسة آلاف درهم، ولزهده كان يأكل من عمل يده من الخوص ويتصدق بعطائه([137])،وقد وردت روايات أخرى متفاوتة في أرزاق عمر لولاته، ولا شك أن هذا الاختلاف في الروايات مرده إلى تطور الأحوال وتغيرها خلال عهد عمر، فلا يعقل أن تبقى الأرزاق والمرتبات على ماهي عليه من أول عهده إلى نهايته، نظراً لتغير الظروف والأحوال واختلاف الأسعار وتطور الحاجات نتيجة اتساع الفتوح وزيادة الدخل في بيت المال([138])، وقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رزق معاوية على عمله بالشام عشرة آلاف دينار في كل سنة، كما ذكر أن عمر كان يفرض لأمراء الجيوش والقرى في العطاء ما بين تسعة آلاف وثمانية آلاف وسبعة آلاف على قدر ما يصلهم من الطعام وما يقومون به من الأمور([139]). وقد كره بعض العمال أخذ الأرزاق نتيجة قيامه بأعمال الإمارة والولاية للمسلمين إلا أن الفاروق كان يوجههم إلى أخذها، فقد قال عمر رضي الله عنه لأحد ولاته: ألم أحدثك أنك تلي من أعمال المسلمين أعمالاً فإذا أعطيت العمالة كرهتها؟ فقال: بلى، فقال عمر: ما تريد إلى ذلك؟ قال إني لي أفراساً وأعبداً وأنا بخير، وأريد أن تكون عمالتي صدقة على المسلمين فقال عمر: لا تفعل فإني كنت أردت الذي أردت، وكان رسول الله يعطيني العطاء فأقول أعطه أفقر إليه مني فقال النبي صلى الله عليه وسلم : خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه، ومالاً فلا تتبعه نفسك([140])، وعلى كل حال فإن مبدأ إعطاء الأرزاق للعمال وإغنائهم عن الناس كان مبدأ إسلامياً فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسار عليه الخلفاء الراشدون من بعده، حتى أغنوا العمال عن أموال الناس، وفرّغوهم للعمل ولمصلحة الدولة الإسلامية([141]). ● ● ● ● . 8- معالجة العمال إذا مرضوا: مرض معيقيب، وكان خازن عمر على بيت المال، فكان يطلب له الطب من كل من يسمع عنده بطب، حتى قدم عليه رجلان من أهل اليمن، فقال: هل عندكم من طب لهذا الرجل الصالح، فإن هذا الوجع قد أسرع فيه. قالا: أما شيء يذهبه فإنا لا نقدر عليه ولكنا نداويه بدواء يقفه فلا يزيد. قال عمر: عافية عظيمة أن يقف فلا يزيد قال: هل ينبت في أرضك هذا الحنظل. قال: نعم: قالا: فاجمع لنا فيه فأمر عمر فجمع له منه مكتلان عظيمان، فعمدا إلى كل حنظلة، قطعاها باثنين، ثم أضجعا معيقيباً فأخذ كل واحد منهما بإحدى قدميه ثم جعلا يدلكان بطون قدميه بالحنظل، حتى إذا امّحقت أخذ أخرى. ثم أرسلاه فقال عمر: لا يزيد وجعه هذا أبداً. قال الراوي: فوالله ما زال معيقيب بعدها متمسكاً ما يزيد وجعه حتى مات([142]). ● ● ● ● . رابعاً: واجبات الولاة: إن الولاة بما بوأهم الله من مكانة، قد ألقى على كاهلهم أعباءً ثقالاً، وواجبات جساماً، أثر منها عن عمر بن الخطاب ما يلي: 1- إقامة أمور الدين: كنشر الدين الإسلامي بين الناس، وإقامة الصلاة، وحفظ الدين وأصوله، وبناء المساجد وتيسير أمور الحج، وإقامة الحدود الشرعية: ● ● ● ● . · نشر الدين الإسلامي: حيث اختص ذلك العصر بفتوحات عظيمة اقتضت من الولاة العمل على نشر الدين في البلاد المفتوحة مستعينين بمن معهم من الصحابة([143])، وفي زمن عمر كتب إليه يزيد بن أبي سفيان وكان والياً على الشام: إن أهل الشام قد كثروا وملؤوا المدائن واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم فأعني برجال يعلمونهم، فأرسل إليه عمر خمسة من فقهاء الصحابة([144])، وقد اشتهر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يردد: ألا إنني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم أمر دينكم وسنة نبيكم([145])، وكان عمر يقول لولاته إنا لا نوليكم على أشعار المسلمين ولا على أبشارهم وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم القرآن([146])، وقد أرسل عمر رضي الله عنه مجموعة من المعلمين إلى الأمصار الإسلامية، حيث أسسوا المدارس العلمية المشهورة كما مرّ معنا. ● ● ● ● . · إقامة الصلاة: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب لولاته: إن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أشد إضاعة([147])، كما كان عمر يؤكد لولاته أهمية إقامة الصلاة في الناس بقوله: وإنما نوليكم لتقيموا الصلاة وتعلموهم العلم والقرآن([148])، وكان عمر رضي الله عنه ينص في قرار التعيين أن فلاناً أمير الصلاة والحرب كالقرار الذي عين فيه عمار بن ياسر على الصلاة والحرب وعبد الله بن مسعود على القضاء وبيت المال([149])، وقد تحدث الفقهاء الذين كتبوا في السياسة الشرعية عن أهمية الصلاة بالنسبة للأمير وما يتضمنه ذلك الأمر من معان عظيمة دنيوية وأخروية([150]). ● ● ● ● . · حفظ الدين وأصوله: حرص الفاروق على حفظ الدين على أصوله الصحيحة التي نزلت على رسول الله، وكان يعمل جاهداً على إحياء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم والقضاء على البدع والعمل على احترام دين الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أمر بطرد رجل وتغريبه نتيجة كثرة إثارته لمواضيع من المتشابه من القرآن([151]) كما مر معنا، وأمر رضي الله عنه بالقيام في رمضان وتعميم ذلك على الأمصار([152])، وقد كتب إلى أبي موسى الأشعري: إنه بلغني أن ناساً من قبلك قد دعوا بدعوى الجاهلية يا آل ضبة فإذا أتاك كتابي هذا فانهكهم عقوبة في أموالهم وأجسامهم حتى يفرقوا إذا لم يفقهوا([153]). ● ● ● ● . · تخطيط وبناء المساجد: وتذكر بعض الإحصاءات أنه أنشئ في عهد عمر 4000 مسجد في بلاد العرب وحدها وقد اشتهر الولاة بنشر المساجد وتأسيسها في مختلف مناطق حكمهم مثل عياض بن غنم الذي أنشأ مجموعة من المساجد في النواحي المختلفة من الجزيرة([154]). ● ● ● ● . · تيسير أمور الحج: كان الولاة في عهد الخلافة الراشدة مسؤولين عن تيسير أمور الحج في ولاياتهم وتأمين سلامة الحجاج منها، فقد كان الولاة يعينون الأمراء على قوافل الحج، ويحددون لهم أوقات السفر حيث لا يغادر الحجاج بلدانهم إلا بإذن الوالي وقد أكد الفقهاء بعد ذلك على أن تسيير الحجاج عمل من مهام الوالي على بلده يقول الماوردي: أما تسيير الحجيج من عمله فداخلة في أحكام إمارته لأنه من جملة المعونات التي تنسب لها([155]). ● ● ● ● . · إقامة الحدود الشرعية: أقام عمرو بن العاص الحد على أحد أبناء عمر بن الخطاب في مصر ثم عاقبه عمر نفسه بالجلد، وقيل أنه توفي بعد ذلك في أثر هذا الجلد([156])، وقد كان الولاة يقومون بالقصاص في القتل دون إذن الخليفة إلى أن كتب إليهم عمر: أن لا تقتلوا أحداً إلا بإذني([157])، فأصبحوا يستأذنون عمر في القتل قبل تنفيذه، فإقامة الحدود من الأمور الدينية والدنيوية التي كان ينظر إليها الخلفاء وولاتهم نظرة جادة ويهتمون بها كما يهتمون بشعائر الدين المختلفة([158]). ● ● ● ● . 2- تأمين الناس في بلادهم: إن المحافظة على الأمن في الولاية من أعظم الأمور الموكلة إلى الوالي، وفي سبيل تحقيق ذلك فإنه يقوم بالعديد من الأمور أهمها إقامة الحدود على العصاة والفساق، مما يجد من الجرائم التي تهدد حياة الناس وممتلكاتهم([159]) وقد كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أخيفوا الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً([160])، كما أن إقامة فريضة الجهاد ضد الأعداء كان له دور كبير في تأمين البلاد الإسلامية وأمصارها([161]). ● ● ● ● . 3- الجهاد في سبيل الله: إذا استعرضنا أسماء الأمراء منذ بداية خلافة أبي بكر إلى خلافة عمر لوجدنا لهم باعاً طويلاً في الفتوحات، بل إنهم كانوا يتوجهون أمراء إلى بلدان لم تفتح بعد فيعملون على فتحها ومن ثم تنظيمها كأمراء الشام أبي عبيدة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وأمراء العراق كالمثنى بن حارثة وخالد بن الوليد وعيّاض بن غنم وغيرهم([162])، وقد كان الولاة في عهد الخلفاء الراشدين مع إدارتهم لبلادهم مجاهدين لنواحي العدو، ولم يمنعهم ذلك من القيام بأعمالهم الموكلة إليهم، وقد تحدثت المصادر التاريخية عن أهم أعمال الولاة في دعم حركة الجهاد والتي من أهمها: ● ● ● ● . - إرسال المتطوعين إلى الجهاد. - الدفاع عن الولاية ضد الأعداء: فقد قال عمر: ولكم علي أن أسد ثغوركم. - تحصين البلاد: فقد أمر الفاروق ببناء حصون لمن نزل الجيزة في مصر من قبائل الفتح، خوفاً عليهم من الإغارات المفاجئة([163]). - تتبع أخبار الأعداء: فقد اشتهر عن أبي عبيدة رضي الله عنه متابعته الدقيقة لتجمعات الروم في بلاد الشام، فكان يقوم ببعض العمليات الانسحابية التمويهية بناء على هذه الأخبار([164]). - إمداد الأمصار بالخيل: وضع عمر رضي الله عنه سياسة عامة في الدولة لتوفير الخيل اللازمة للجهاد في الأمصار الإسلامية حسب حاجتها فأقطع أناساً من البصرة أراضي كي يعملوا فيها على إنتاج الخيل وتربيتها([165])، كما أعطى عمر أناساً من المسلمين في دمشق أرضاً للعناية بالخيل فزرعوها فانتزعها منهم وأغرمهم لمخالفتهم الهدف من إعطائهم الأراضي وهو المساعدة في إنتاج الخيل، وقد كان لعمر أربعة آلاف فرس في الكوفة وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلي في نفر من أهل الكوفة يصنّع سوابقها ويجريها في كل عام، وبالبصرة نحوٌ منها، وأيضاً في كل مصر من الأمصار الثمانية عدد قريب من العدد السابق([166]) وكانت هذه الخيول مجهزة للدفاع الفوري عن الدولة الإسلامية([167]). ● ● ● ● . - تعليم الغلمان وإعدادهم للجهاد: فقد كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى أهل الأمصار يأمرهم بتعليم أولادهم الفروسية والسباحة والرمي، وقد أصيب أحد الغلمان أثناء التعليم في الشام ومات، فكتبوا إلى عمر في ذلك فلم يثنه عن أمره بتعليم الأولاد الرمي([168]). - متابعة دواوين الجند: اهتم الفاروق رضي الله عنه اهتماماً خاصاً بدواوين الأمصار نظراً لاعتقاده أن أهل الأمصار أحوج الناس للضبط خصوصاً القريبة من الأعداء وهي الأمصار التي تحتاج إلى الجنود باستمرار([169])، وقد كان الولاة على البلدان مسؤولين مباشرة عن دواوين الجند رغم وجود بعض الموظفين الآخرين الذين يتولون مهمتها، ولكن باعتبار أن هؤلاء الولاة هم أمراء الحرب فقد كانت مسؤوليتهم عن الدواوين في بلدانهم كمسؤولية الخليفة باعتبارهم نواباً([170]). ● ● ● ● . - تنفيذ المعاهدات: وقد جرت بعض المعاهدات بين أبي عبيدة بن الجراح وبعض مدن الشام، وكذلك الحال بالنسبة لأمراء العراق كسعد بن أبي وقاص وأبي موسى الأشعري وغيرهم من الولاة، وقد كان الولاة إضافة إلى ذلك يحرصون على حماية حقوق الذميين والمعاهدات الشخصية والعامة، وينفذون المعاهدات انطلاقاً من الأوامر الشرعية برعاية العهد([171])، وقد أوصى الفاروق بأهل الذمة فقال: أوصيكم بذمة الله وذمة رسوله خيراً، أن يقاتل مَنْ وراءهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم([172]). . ● ● ● ●