عرض مشاركة واحدة
قديم 05-14-2012, 11:17 PM   رقم المشاركة : 5
Arsalan
عضو نشيط






 

الحالة
Arsalan غير متواجد حالياً

 
Arsalan عضوية ستكون لها صيت عما قريبArsalan عضوية ستكون لها صيت عما قريب

شكراً: 192
تم شكره 741 مرة في 171 مشاركة

 
افتراضي رد: ●● الخليفةُ الثانيّ ، عُمَر بن الخَطاب رضيَ الله عنهُ || الجزءُ الثالث || ~




.
ثالثاً: صفات القاضي وما يجب عليه:

- صفات القاضي: من خلال سيرة عمر رضي الله عنه استنبط العلماء أهم صفات القاضي المراد تعيينه:

1- العلم بالأحكام الشرعية: لأنه سيطبقها على الحوادث، ويستحيل عليه تطبيقها مع الجهل بها.

2- التقوى: فقد كتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة بن الجراح أن انظرا رجالاً من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء([191]).

3- الترفع عما في أيدي الناس: فقد قال عمر رضي الله عنه: لا يقيم أمر الله إلا من لا يصانع، ولا يضارع([192])، ولا يتبع المطامع([193]).

4- الفطنة والذكاء: ويشترط في القاضي أن يكوناً فطناً ذكياً ينتبه إلى دقائق الأمور، فعن الشعبي أن كعب بن سوار كان جالساً عند عمر فجاءته امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً قط أفضل من زوجي، والله إنه ليبيت ليله قائماً، ويظل نهاره صائماً في اليوم الحر ما يفطر، فاستغفر لها وأثنى عليها وقال: مثلُك أثنى بالخير، قال: فاستحيت المرأة فقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها. قال: وما شكَت؟ قال: شكت زوجها أشد الشكاية، قال: أَوَ ذاك أرادت؟ قال: نعم، قال: ردُّوا عليَّ المرأة فقال: لا بأس بالحق أن تقوليه، إن هذا زعم أنك تشكين زوجك إنه يَجْنَبُ فراشك، قالت: أجل، إني امرأة شابة وإني لأبتغي ما تبغي النساء، فأرسل إلى زوجها فجاء، فقال لكعب: اقض بينهما، قال: أمير المؤمنين أحق أن يقضي بينهما، قال: عزمت عليك لتقضين بينهما فإنك فهمت من أمرهما ما لم أفهمه، قال: إني أرى كأنها عليها ثلاثة نسوة هي رابعتهم فأقضي له بثلاثة أيام بلياليهن يتعبد فيهن، ولها يوم وليلة فقال عمر: والله ما رأيك الأول أعجب إليّ من الآخر، إذهب فأنت قاض على البصرة([194]).


.


5- الشدة في غير عنف واللين من غير ضعف: قال عمر: لا ينبغي أن يلي هذا الأمر إلا رجل فيه أربع خصال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف([195])، وقال: لا يقيم أمر الله إلا رجل يتكلم بلسانه كلمة لا يُنقصُ غرْبُه، ولا يطمع في الحق على حدته([196]).

6- قوة الشخصية: قال عمر: لأعزلن أبا مريم وأولين رجلاً إذا رآه الفاجر فرِقَه، فعزله عن قضاء البصرة وولّى كعب بن سور مكانه([197]).

7- أن يكون ذا مال وحسب: فقد كتب عمر إلى بعض عماله لا تستقضين إلا ذا مال وذا حسب؛ فإن ذا المال لا يرغب في أموال الناس، وإن ذا الحسب لا يخشى العواقب بين الناس([198]).


.


- ما يجب على القاضي:

هناك أمور بينها الفاروق لابد للقاضي من مراعاتها لإقامة صرح العدالة منها:

1- الإخلاص لله في العمل: فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: إن القضاء في مواطن الحق يوجب الله له الأجر ويحسن به الذخر، فمن خلصت نيته في الحق ولو كان على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس في قلبه شانه الله، فإن الله تبارك وتعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً وما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته([199]).

2- فهم القضية فهماً دقيقاً: ودراستها دراسة واعية قبل النطق بالحكم ولا يجوز له النطق بالحكم قبل أن يتبين له الحق، فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: افهم إذا أدلى إليك، وقال أبو موسى مرة: لا ينبغي لقاضٍ أن يقضي حتى يتبين له الحق كما يتبين له الليل والنهار، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: صدق
أبو موسى([200]).

3- الحكم بالشريعة الإسلامية: سواء كان الخُصوم من المسلمين أم من غير المسلمين، فعن زيد بن أسلم أن يهودية جاءت إلى عمر بن الخطاب فقالت: إن ابني هلك، فزعمت اليهود أنه لا حق لي في ميراثه فدعاهم، عمر فقال: ألا تعطون هذه حقها، فقالوا: لا نجد لها حقاً في كتابنا، فقال: أفي التوراة؟ قالوا بل في المشناة، قال: وما المشناة؟ قالوا: كتاب كتبه أقوام علماء وحكماء، فسبهم عمر وقال: اذهبوا فأعطوها حقها([201]).

4- الاستشارة فيما أشكل عليه من الأمور: فقد كتب عمر إلى أحد القضاة: واستشر في دينك الذين يخشون الله عز وجل([202])، وكتب إلى شريح: وإن شئت أن تآمرني ولا أرى مآمرتك إياي إلا أسلم لك([203])، وكان عمر كثير الاستشارة حتى قال الشعبي: من سره أن يأخذ بالوثيقة من القضاء فليأخذ بقضاء عمر فإنه كان يستشير([204]).

5- المساواة بين المتخاصمين: وقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: سوِّ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وكتب أيضاً اجعلوا الناس عندكم في الحق سواء قريبهم كبعيدهم، وبعيدهم كقريبهم، وعندما ادّعى أبيّ بن كعب على عمر دعوى -في حائط- فلم يعرفها عمر فجعلا بينهما زيداً بن ثابت فأتياه في منزله فلما دخلا عليه قال له عمر: جئناك لتقضي بيننا -وفي بيته يُؤتى الحَكَم- قال: فتنحى له عن صدر فراشه -وفي رواية فأخرج له زيد وسادة فألقاها إليه- وقال: هاهنا
يا أمير المؤمنين، فقال عمر: جُرْتَ يا زيد في أول قضائك، ولكن أجلسني مع خصْمي، فجلسا بين يديه([205]).


.

6- تشجيع الضعيف: حتى يذهب عنه الخوف ويجترئ على الكلام، فقد كتب عمر إلى معاوية: أدنِ الضعيف حتى يجترئ قلبه وينبسط لسانه([206]).

7- سرعة البت في دعوى الغريب أو تعهده بالرعاية والنفقة: وقد كتب عمر إلى
أبي عبيدة: تعاهد الغريب فإنه إن طال حبسه -أي طالت إقامته وبعده عن أهله من أجل هذه الدعوى- ترك حقه وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقّه من لم يرفع به رأساً([207]).

8- سعة الصدر: فقد كتب عمر إلى أبي موسى: إياك والضجر، والغضب والقلق والتأذي بالناس عند الخصومة، فإذا رأى القاضي من نفسه شيئاً من هذا، فلا يجوز له النطق بالحكم حتى يذهب عنه ذلك، لئلا يكون الدافع إلى الحكم حالة نفسية معينة، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا تحكم وأنت غضبان([208]) وعن شريح قال: شرط عليّ عمر حين ولاني القضاء أن لا أقضي وأنا غضبان([209])، ومما يؤدي إلى ضيق الصدر ويدفع أحياناً إلى الاستعجال المخل في البت في بعض القضايا الجوع والعطش ونحو ذلك، ولذلك قال عمر: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريّان([210]).

9- تجنب كل ما من شأنه التأثير على القاضي: كالرشوة، وتساهل التجار معه في البيع والشراء والهدايا ونحو ذلك، ولذلك منع عمر القضاة من العمل بالتجارة، والصفق بالأسواق، وقبول الهدايا والرشاوي، فكتب إلى أبي موسى الأشعري:
لا تبيعن ولا تبتاعن ولا تضاربن ولا ترتش في الحكم، وقال شريح: شرط علي عمر حين ولاّني القضاء أن لا أبيع ولا أبتاع ولا أرشي وقال عمر: إياكم والرشا، والحكم بالهوى([211]).

10- الأخذ بالأدلة الظاهرة: دون البحث عن النوايا، فقد خطب عمر بالناس فكان مما قال: إنا كنا نعرفكم ورسول الله فينا، والوحي ينزل وينبئنا بأخباركم، وأما اليوم فإننا نعرفكم بأقوالكم، فمن أعلن لنا خيراً ظننا به خيراً وأحببناه عليه ومن أعلن لنا شراً ظننا به شراً وأبغضناه عليه وسرائركم فيما بينكم وبين الله([212]).


.

11- الحرص على الصلح بين المتخاصمين: قال عمر: ردّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بين الناس، فإن عادوا بصلح يتفق مع شرع الله أمضاه القاضي وإن كان صلحهم لا يتفق مع أحكام الشريعة نقضه القاضي: قال عمر: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرّم حلالاً([213])، وعلى القاضي أن يحرص على الصلح خاصة بين المتخاصمين إذا لم يتبين له الحق، فقد كتب عمر إلى معاوية: احرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، أو كانت بينهم قرابة، فإن فصل القضاء يورث الشنآن([214]).

12- العودة إلى الحق: إذا أصدر القاضي حكماً في قضية من القضايا ثم تغير اجتهاده في الحكم فيها، فلا يجوز له أن يجعل للاجتهاد الجديد أثراً رجعياً، فينقض به الحكم الذي أصدره قبل تغير اجتهاده، كما لا يجوز لقاضٍ بعده أن ينقض الحكم الصادر، فعن سالم بن أبي الجعد قال: لو كان علي طاعناً على عمر يوماً من الدهر لطعن عليه يوم أتاه أهل نجران، وكان علي كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فكثروا على عهد عمر حتى خافهم على الناس، فوقع بينهم الاختلاف، فأتوا عمر فسألوه البدل، فأبدلهم، ثم ندموا، ووقع بينهم شيء فأتوه فاستقالوه، فأبى أن يقيلهم، فلما ولي عليّ أتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين شفاعتك بلسانك وخطك بيمينك، فقال علي: ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر([215])، فعمر رضي الله عنه رفض نقض القضاء الأول الذي قضاه فيهم، ورفض علي – من بعد عمر – نقض القضاء الذي قضاه عمر فيهم([216])، وقد حدث كثير من التغير في اجتهاد عمر في قضايا كثيرة، منها الحكم في الجد مع الإخوة، وإشتراك الإخوة لأب وأم مع الاخوة لأم في الثلث عندما لم يبق للإخوة لأب وأم من الميراث شيء، ولم ينقل أنه عاد إلى قضائه الأول فنقضه، ولكنه يعمل باجتهاده الجديد في القضايا المستقبلة، ولا يمنعه حكمه القديم من اتباع الحق إذا لاح له، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: ولا يمنعك قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه رأيك وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل([217])، وبناء على ذلك فقد قضى عمر بن الخطاب في الجد بقضايا مختلفة، وقضى في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وأخويها لأبيها وأخويها لأمها، فأشرك عمر بين الأخوة للأم والأب والأخوة لأم في الثلث فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا. قال عمر: تلك على ما قضينا يومئذ وهذه على ما قضينا اليوم([218]).

13- تقرير البراءة للمتهم حتى تثبت إدانته: فعن عبد الله بن عامر قال: انطلقت في ركب حتى إذا جئنا ذا المروة سُرقت عيبة لي، ومعنا رجل منهم، فقال له أصحابي: يا فلان اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتها، فرجعت إلى
عمر بن الخطاب فأخبرته. فقال: من أنتم؟ فعددتهم، فقال: أظنه صاحبها
– للذي اتُّهم – فقلت: لقد أردت يا أمير المؤمنين أتي به مصفوداً، قال عمر: أتأتي به مصفوداً بغير بينة([219]).

14- لا اجتهاد في مورد النص: قال عمر: ثم الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور([220])، هذا أهم ما يجب على القاضي أن يلتزم به.

15- إخضاع القضاة أنفسهم لأحكام القضاة:


.

16- كان عمر رضي الله عنه أول من يخضع للقضاة وهو في ذروة الخلافة خضوعاً يزينه الرضى القلبي بالحكم، ويتوجه بالإعجاب الواضح إذا ما أصاب، والثناء الصادق على القاضي حتى ولو صدر الحكم ضده([221])، وهذا مثال على ذلك، فقد ساوم عمر أعرابياً على فرس، فركبه ليجربه، فعطب الفرس، فقال عمر: خذ فرسك. قال الرجل: لا. قال عمر: فاجعل بيني وبينك حكماً، قال الرجل: شريح. فتحاكما إليه، فلما سمع قال: يا أمير المؤمنين خذ ما اشتريت، أو رد كما أخذت. فقال عمر: وهل القضاء إلا هكذا؟ فبعثه إلى الكوفة قاضياً([222]).



.

رابعاً: مصادر الأحكام القضائية:

اعتمد القضاة في العهد الراشدي على نفس المصادر التي اعتمدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضاته، وهي الكتاب والسنة والاجتهاد ولكن ظهر في العهد الراشدي أمران:

- تطور معنى الاجتهاد والعمل به، وما نتج عنه من مقدمات ووسائل وغايات، فظهرت المشاورة والشورى، والإجماع، والرأي والقياس.

- ظهور مصادر جديدة لم تكن في العهد النبوي، وهي السوابق القضائية التي صدرت عن الصحابة من عهد خليفة إلى خليفة آخر، فصارت مصادر القضاء في العهد الراشدي هي؛ الكتاب، والسنة، والاجتهاد والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية ويظلل ذلك كله الشورى والمشاورة في المسائل والقضايا والأحكام وقد وردت نصوص كثيرة، وروايات عديدة تؤكد هذه المصادر السابقة ونقتطف جانباً منها([223]):


.

1- قال الشعبي عن شريح: قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله، فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضى به أئمة المهتدين، فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح([224]).

2- وعن ابن شهاب الزهري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، وهو على المنبر، يا أيها الناس، إنّ الرأي إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً، أن الله كان يُريه، وإنما هو منا الظن والتكلف([225])، وروي عنه أنه قال: هذا رأي عمر فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمن عمر([226]).

3- قال ابن القيم: فلما استخلف عمر قال: إني لأستحي من الله أن أردّ شيئاً قاله
أبو بكر([227])، وأكد ذلك عمر أيضاً في كتاب آخر إلى شريح قال فيه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله، فإن لم يكن في سنة رسول الله فاقض بما قضى به الصالحون([228]).


.

4- وأما الإجماع: فإن لم يجد القاضي نصاً في القرآن والسنة، رجع إلى العلماء واستشار الصحابة والفقهاء، وعرض عليهم المسألة، وبحثوا فيها، واجتهدوا، فإن وصل اجتهادهم إلى رأي واحد، فهو الإجماع، وهو اتفاق مجتهدي عصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر شرعي، وهو المصدر الثالث من مصادر التشريع الإسلامي باتفاق العلماء وظهر لأول مرة في العهد الراشدي، ووردت فيه نصوص كثيرة، وبحوث طويلة في كتب الفقه، وأصول الفقه، وتاريخ التشريع، ولكن القضايا والمسائل التي حصل فيها الإجماع قليلة، وإن إمكانيته محصورة في المدينة المنورة عاصمة الخلافة، ومجمع الصحابة والعلماء والفقهاء، وهذا يندر في الأمصار الأخرى([229])، فمن ذلك ما روي أن ابن عباس قال لعثمان رضي الله عنهم: الأخوان في لسان قومك ليسا إخوة، فلم تحجب بهما الأم؟؟ من الثلث إلى السدس في قوله تعالى:} فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ { (النساء،آية:11) فقال: لا أستطيع أن أنقض ما كان قبلي ومضى في البلدان وتوارث به الناس، وهذا معناه أنه إجماع تم قبل مخالفة ابن عباس، ولا يعتد بمخالفته، والإجماع يتضمن ثلاثة عناصر رئيسة: المشاورة، والاجتهاد، والاتفاق فإن فقد عنصر منها لجأ القاضي إلى المصدر التالي.

5- السوابق القضائية: التي قضى بها السابقون من الخلفاء والصالحين وكبار الصحابة رضي الله عنهم، وهذا ما عبر عنه صراحة عمر رضي الله عنه في سوابق أبي بكر، وما أمر به قضاته وولاته كما سبق([230])، وهذا ما بينه صراحة ابن القيم تحت عنوان (رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا) وقال: وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيراً من رأينا لأنفسنا وكيف لا؟ وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نوراً وإيماناً، وعلماً، ومعرفة وفهماً عن الله ورسوله، ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضَّاً طرياً، لم يَشُبه إشكال، ولم يشُبه خلاف، ولم تدنسه معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس([231]).

6- القياس: لكن السوابق القضائية قليلة أيضاً، فإن لم يجد القاضي نصاً ولا إجماعاً، ولا سابقة قضائية اعتمد على الاجتهاد، كما جاء في حديث معاذ، ويأتي في أوليات الاجتهاد قياس مسألة لم يرد فيها نص بمسألة ورد فيها نص، وهو المصدر الرابع للتشريع والفقه والأحكام، وهذا ما جاء في رسالة عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري، قال: ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق([232]).


.

8- الرأي: فإن لم يكن للمسألة والقضية أصل من النصوص لتقاس عليها، اعتمد القاضي على الاجتهاد بالرأي فيما هو أقرب إلى الحق والعدل والصواب وقواعد الشرع ومقاصد الشريعة وهو ما تكرر في النقول السابقة، في رسائل عمر لشريح وغيره([233]) وكانت المشاورة والشورى من أهم الوسائل التي يستعين بها القضاة، كما ورد في الروايات والكتب والرسائل السابقة، وهو ما أكده عمر رضي الله عنه قولاً وفعلاً، لكثرة محبته للشورى مع فقهه، وقلما يقدم على أمر إلا بعد استشارة كبار الصحابة وفقهائهم([234])، وعن الشعبي قال: كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه، فربما يتأمل في ذلك شهراً، ويستشير أصحابه([235]).


.

خامساً: الأدلة التي يعتمد عليها القاضي:


.

إن الأدلة التي يعتمد عليها القاضي في إصدار الحكم هي:

1- الإقرار وتعتبر الكتابة نوعاً من الإقرار.

2- الشهادة: وعلى القاضي أن يتحقق من صلاحية الشهود لأداء الشهادة، فإن لم يعرفهم هو، طلب منهم أن يأتوا بمن يعرفهم، فقد شهد رجل عند عمر بشهادة فقال له: لست أعرفك، ولا يضرك أن لا أعرفك، إئت بمن يعرفك فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، فقال: بأي شيء تعرفه؟ قال بالعدالة والفضل، قال: فهو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا، قال: فهل عاملك بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل بهما على الورع؟ قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا، قال: لست تعرفه([236])، والشهادة مقدمة على اليمين سواء أقامها صاحبها قبل أن يحلف خصمه اليمين أو بعد أن يحلف اليمين، فإذا استحلف المدعي المدعى عليه على دعواه، فحلفه القاضي على ذلك، ثم أتى المدعي بالبينة بعد ذلك على تلك الدعوى، قبلت بينته، وردت اليمين، قال عمر: اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة([237])،والمطالب بالشهادة هو المدعي، فقد كتب عمر إلى أبي موسى فيما كتب: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر([238])، فإن لم يتوفر عند المدعي إلا شاهد واحد اعتبر بشهادته وحلف معها المدعي اليمين، فقد كان عمر يقضي في المال باليمين مع الشاهد الواحد([239]).

3- اليمين: ولا يلجأ القاضي إلى تحليف اليمين إلا عند عجز المدعي عن إقامة البينة ومطالبة المدعي باليمين، فإن حلف قضى بيمينه وقد قضى عمر على وادعة بالقسامة فحلفوا، فأبرأهم من الدم، وقد تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت في نخل ادّعاه أبيّ، فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد: اعف أمير المؤمنين، قال عمر: ولم يعف أمير المؤمنين؟ إن عرفت شيئاً استحققته بيميني، وإلا تركته، والذي لا إله إلا هو إن النخل لنخلي وما لأبيّ فيه حق فلما خرجا وهب النخل لأبيّ، فقيل له: يا أمير المؤمنين هلا كان هذا قبل اليمين؟ فقال: خفت أن لا أحلف فلا يحلف الناس على حقوقهم بعدي فتكون سنة([240])،
ولا يجوز لمن استحقت عليه اليمين أن يمتنع عنها ورعاً، وقد رأينا فيما تقدم كيف أن عمر حلف فلما استحق الحق تنازل عنه.

وكان عمر رضي الله عنه يغلظ الأيمان على بعض المتخاصمين بتحليفهم إياها في مكان يوقع الرهبة في نفوسهم فلا يجرأون على الكذب فيها، فقد حلّف جماعة مرة في الحجر، واستحلف آخر بين الركن والمقام([241]).

4- القيافة في قضايا إثبات النسب: وهي من القرائن القوية التي يُحكم بمقتضاها، دلّ على ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل الخلفاء الراشدين والصحابة، وقد أثبت الحكم بالقيافة عمر بن الخطاب، وابن عباس وغيرهم([242]).


.

5- القرائن: والقرائن باب واسع يتفنن القضاة في استنباطها ويعتبر من القرائن القوية قرينة الحبل للمرأة التي لم يسبق لها زواج فهو يعتبر دليلاً على الزنا، ومثله الولادة لمدة أقل من مدة الحمل، ومنها وجود ميتين أحدهما فوق الآخر، فإن هذا الوضع قرينة قوية على أن الذي مات أولاً هو الأسفل، وأن الذي مات آخراً هو الأعلى، ولذلك فقد كان عمر في طاعون عمواس إن كانت يد أحد الميتين أو رجله على الآخر ورَّث الأعلى من الأسفل ولم يورث الأسفل من الأعلى، ومن القرائن القوية على شرب الخمر وجودها في القيء، وقد أقام عمر حد الشرب على من وجدها في قيئه([243]).

6- علم القاضي: لا يعتبر علم القاضي في الحدود دليلاً يخوّل له إصدارَ الحكمِ على المتهم، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن لا يأخذ الإمامُ بعلمه ولا ظنه ولا بشبهته([244])، وقال لعبد الرحمن بن عوف أرأيتَ لو رأيتُ رجلاً قتل أو سرق أو زنى، قال: أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال عمر: أصبت([245])، وأما في غير الحدود؛ فقد اختلفت الرواية عن عمر في اعتبار علم القاضي حجة تخول القاضي الاعتماد عليها في الحكم إن لم يتوفر من الأدلة غيرها([246]) هذا وقد كان عمر رضي الله عنه حريصاً على عدم تشجيع الناس على الاعتراف بخطاياهم، بل يريد لهم الستر والتوبة فيما بينهم وبين الله تعالى، فلما خطب شرحبيل بن السمط الكندي وكان يتولى مسلحة([247]) دون المدائن، فقال: أيها الناس، إنكم في أرض الشراب فيها فاشٍ، والنساء فيها كثير، فمن أصاب منكم حداً، فليأتنا فلنقم عليه الحد، فإنه طهوره، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه: (( لا أحل لك أن تأمر الناس أن يهتكوا ستر الله الذي سترهم ))([248])، ولكن إذا رفع الناس الأمر إلى القضاء، فإن الدولة كانت تقيم الحدود دون هوادة([249])، وكان رضي الله عنه عندما يريد أن يحكم بين خصمين يدعو بهذا الدعاء: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان علي من كان الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين([250]).


.

سادساً: من أحكام الفاروق وعقوباته في بعض الجرائم والجنايات:

1- تزوير الخاتم الرسمي للدولة:

حدث في عهد الفاروق رضي الله عنه أمر خطير لم يحدث من قبل، ذلك أن معن بن زائدة استطاع أن يزور خاتم الدولة بنقشه مثله وأخذ به مالاً من بيت مال المسلمين ورفع أمره إلى عمر رضي الله عنه، فضربه عمر مائة وحبسه، فكلم فيه فضربه مائة أخرى، فكلم فيه من بعد فضربه مائة ونفاه([251]).



2- رجل سرق من بيت المال بالكوفة:

لم يقطع عمر من سرق من بيت المال، فقد سأل ابن مسعود عمر عمن سرق من بيت المال فقال: أرسله فما من أحد إلا وله في هذا المال حق([252])، وجلده تعزيراً([253]).



3- السرقة في عام الرمادة:

سرق غلمان حاطب بن أبي بلتعة في عام الرمادة ناقة لرجل مزني فنحروها وأكلوها ورفع الأمر إلى الفاروق، فطلب الغلمان فاعترفوا أنهم سرقوها من حرز والذين سرقوا عقلاء مكلفون ولم يدعوا ضرورة ملجئة للسرقة، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم – ولكنه – وهو يعيش عام الرمادة ويرى حال الناس التمس لهم عذراً فقال لمولاهم: إني أراك تجيعهم؟ واكتفى بذلك وأوقف القطع وأمر للمزني بثمن ناقته مضاعفة([254]) (800 درهم)، فقد درء الحد عنهم للضرورة([255]).

.


رد مع اقتباس
6 أعضاء قالوا شكراً لـ Arsalan على المشاركة المفيدة: