● ● ● ● . ثامناً: نفقات الخليفة، والبدء بالتاريخ الهجري ولقب أمير المؤمنين: 1- نفقات الخليفة: لما كانت الخلافة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله تعالى، فإن من يتولاها ويحسن فيها فإنه يرجى له مثوبته، وجزاؤه عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجازي المحسن، بإحسانه، والمسيء بإساءته([208])، قال تعالى: } فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94) { (الأنبياء،آية:94) ذلك بالنسبة للجزاء الأخروي، وأما بالنسبة للجزاء الدنيوي فإن الخليفة الذي يحجز منافعه الصالحة للأمة، ويعمل على أداء الواجب نحوها يستحق عوضاً على ذلك، إذ أن المنافع إذا حجزت قوبلت بعوضين([209])، فالقاعدة الفقهية أن كل محبوس لمنفعة غيره يلزمه نفقته، كمفت وقاض ووال([210])، وأخذ العوض على تولي الأعمال مشروع بإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم العمال([211]) لمن ولاه عملاً([212]) ولما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زماناً، لا يأكل من بيت المال شيئاً حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، لم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل([213])، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف([214])، وجاء في رواية أن عمر خرج على جماعة من الصحابة فسألهم ما ترونه يحل لي من مال الله؟ أو قال: من هذا المال؟ فقالوا: أمير المؤمنين أعلم بذلك منا، قال إن شئتم أخبرتكم ما أستحل منه، ما أحج وأعتمر عليه من الظهر، وحلتي في الشتاء وحلتي في الصيف، وقوت عيالي شبعهم، وسهمي في المسلمين، فإنما أنا رجل من المسلمين، قال معمر: وإنما كان الذي يحج عليه ويعتمر بعيراً واحداً([215])، وقد ضرب الخليفة الراشد الفاروق للحكام أروع الأمثلة في أداء الأمانة فيما تحت أيديهم، فقد روى أبو داود عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن الخطاب يوماً الفيء فقال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسول الله r فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته([216])، وعن الربيع بن زياد الحارثي أنه وفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأعجبته هيئته ونحوه، فقال: يا أمير المؤمنين إن أحق الناس بطعام لين، ومركب لين، وملبس لين لأنت -وكان أكل طعاماً غليظاً- فرفع عمر جريدة كانت معه فضرب بها رأسه، ثم قال: أما والله ما أراك أردت بها الله، ما أردت بها إلا مقاربتي، وإن كنت لعلّها: لأحسب أن فيك خيراً، ويحك هل تدري مثلي ومثل هؤلاء؟ قال: وما مثلك ومثلهم، قال مثل قوم سافروا فدفعوا نفقاتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل يحل له أن يستأثر منها بشيء؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال فذلك مثلي ومثلهم([217])، وقد استنبط الفقهاء من خلال الهدى النبوي والعهد الراشدي مجموعة من الأحكام تتعلق بنفقات الخليفة منها: ● ● ● ● . أ- أنه يجوز للخليفة أن يأخذ عوضاً عن عمله، وقد نص النووي([218])، وابن العربي([219])، والبهوتي([220])، وابن مفلح([221]) على جواز ذلك. ● ● ● ● . ب- وأن الخليفتين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد أخذا رزقاً على ذلك. ● ● ● ● . ث- وأن أخذ الرزق هو مقابل انشغالهما في أمور المسلمين كما قاله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ● ● ● ● . ت- وأن الخليفة له أن يأخذ ذلك سواء كان بحاجة إليه أولا، ويرى ابن المنير([222])، أن الأفضل له أن يأخذ، لأنه لو أخذ كان أعون في عمله مما لو ترك، لأنه بذلك يكون مستشعراً بأن العمل واجب عليه([223]). ● ● ● ● . 2- بدء التاريخ: يعد التاريخ بالهجرة تطوراً له خطره في النواحي الحضارية، وكان أول من وضع التاريخ بالهجرة عمر، ويحكى في سبب ذلك عدة روايات، فقد جاء عن ميمون بن مهران أنه قال: دُفع إلى عمر رضي الله عنه صَكٌ محله في شعبان، فقال عمر: شعبان هذا الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه، ثم جمع أصحاب رسول الله r فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال قائل: اكتبوا على تاريخ الروم فقيل: إنه يطول وإنهم يكتبون من عند ذي القرنين، فقال قائل: اكتبوا تاريخ الفرس قالوا: كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة فوجدوه أقام عشرة سنين فكتب أو كتب التاريخ على هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ([224])، وعن عثمان بن عبيد الله([225])، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: جمع عمر بن الخطاب المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم فقال: متى نكتب التاريخ؟ فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منذ خرج النبي صلى الله عليه وسلم من أرض الشرك، يعني من يوم هاجر، قال: فكتب ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه([226])، وعن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسنتين ونصف من خلافته، فكتب لست عشرة من المحرم بمشورة على بن أبي طالب رضي الله عنه([227])، وقال أبو الزناد([228]): استشار عمر في التاريخ فأجمعوا على الهجرة([229])، وروى ابن حجر في سبب جعلهم بداية التاريخ في شهر محرم وليس في ربيع الأول الشهر الذي تمت فيه هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الصحابة الذين أشاروا على عمر وجدوا أن الأمور التي يمكن أن يؤرخ بها أربعة، هي مولده ومبعثه وهجرته ووفاته، ووجدوا أن المولد والمبعث لا يخلو من النزاع في تعيين سنة حدوثه، وأعرضوا عن التأريخ بوفاته لما يثيره من الحزن والأسى عند المسلمين، فلم يبق إلا الهجرة، وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان من المحرم، إذ وقعت بيعة العقبة الثانية في ذي الحجة، وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هو هلال محرم، فناسب أن يُجعل مبتدأ.. ثم قال ابن حجر: وهذا أنسب ما وقعت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم([230]). وبهذا الحدث الإداري المتميز أسهم الفاروق في إحداث وحدة شاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى في شبه الجزيرة، حيث ظهرت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الأمة بإزالة الفوارق، ووحدة الاتجاه باتخاذ تاريخ واحد، فاستطاع أن يواجه عدوه وهو واثق من النصر([231]). ● ● ● ● . 3- لقب أمير المؤمنين: لما مات أبو بكر رضي الله عنه وكان يدعى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المسلمون: من جاء بعد عمر قيل له: خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطول هذا، ولكن أجمعوا على اسم تدعون به الخليفة، يُدْعى به من بعده من الخلفاء، فقال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن المؤمنون وعمر أميرنا، فدعي عمر أمير المؤمنين فهو أول من سمي بذلك([232])، وعن ابن شهاب: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه سأل أبا بكر ابن سليمان بن أبي خيثمة([233])، لم كان أبو بكر رضي الله عنه يكتب من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ثم كان عمر رضي الله عنه يكتب بعده: من عمر بن الخطاب خليفة أبي بكر ومن أول من كتب أمير المؤمنين فقال: حدثتني جدتي الشفاء([234])، وكانت من المهاجرات الأول، وكان عمر إذا دخل السوق دخل عليها قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عامل بالعراق([235])، أن ابعث إلي برجلين جلدين نبيلين، أسألهما عن العراق وأهله، فبعث إليه صاحب العراقين بلبيد بن ربيعة، وعدي بن حاتم، فقدما المدينة فأناخا راحلتيهما بفناء المسجد، ثم دخلا المسجد فوجدا عمرو بن العاص، فقالا له: (ياعمرو استأذن لنا على أمير المؤمنين، فدخل عمرو فقال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له عمر: ما بدا لك في هذا الاسم يا بن العاص؟ لتخرجن مما قلت: قال: نعم، قدم لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم فقالا: استأذن لنا على أمير المؤمنين فقلت: أنتما والله أصبتما اسمه، إنه أمير ونحن المؤمنون، فجرى الكتاب من ذلك اليوم([236])، وفي رواية: أن عمر رضي الله عنه قال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم فهو سمى نفسه([237])، وبذاك يكون عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أول من سمي بأمير المؤمنين وأنه لم يسبق إليه، وإذا نظر الباحث في كلام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأى أن جميعهم قد اتفقوا على تسميته بهذا الاسم وسار له في جميع الأقطار في حال ولايته([238]). المبحث الثاني: صفات الفاروق، وحياته مع أسرته، واحترامه لأهل البيت: ● ● ● ● . أولاً: أهم صفات الفاروق: إن مفتاح شخصية الفاروق إيمانه بالله تعالى والاستعداد لليوم الآخر وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولذلك لم تطغ قوته على عدالته، وسلطانه على رحمته، ولا غناه على تواضعه وأصبح مستحقاً لتأييد الله وعونه، فقد حقق شروط كلمة التوحيد، من العلم واليقين، والقبول، والانقياد، والإخلاص والمحبة وكان على فهم صحيح لحقيقة الإيمان وكلمة التوحيد فظهرت آثار إيمانه العميق في حياته والتي من أهمها: . ● ● ● ● ● ● ● ● . 1- شدة خوفه من الله تعالى بمحاسبته لنفسه: كان رضي الله عنه يقول: أكثروا من ذكر النار، فإن حرّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامها حديد([239])، وجاء ذات يوم أعرابي، فوقف عنده وقال: يا عمر الخير جزيت الجنة جهِّز بُنيَّاتي وأمهنَّه أقسـم باللـه لتـفعـلـنه قال: فإن لم أفعل ماذا يكون يا أعرابي؟ قال: أقسـم أنـي سـوف أمضـينه قال: فإن مضيت ماذا يكون يا أعرابي؟ قال: والله عن حالي لتسألنه والواقف المسئول بينهنّه ثمّ تكون المسألات ثمّه إما إلى نار وإما جنة فبكى عمر حتى اخضلت لحيته بدموعه، ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم، لا لشعره، والله ما أملك قميصاً غيره([240])، وهكذا بكى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بكاءً شديداً تأثراً بشعر ذلك الأعرابي الذي ذكّره بموقف الحساب يوم القيامة، مع أنه لا يذكر أنه ظلم أحداً من الناس، ولكنه لعظيم خشيته وشدة خوفه من الله تعالى تنهمر دموعه أمام كل من يذكّره بيوم القيامة([241])، وكان رضي الله عنه من شدة خوفه من الله تعالى يحاسب نفسه حساباً عسيراً، فإذا خيل إليه أنه أخطأ في حق أحد طلبه، وأمره بأن يقتص منه، فكان يقبل على الناس يسألهم عن حاجاتهم، فإذا أفضوا إليه بها قضاها، ولكنه ينهاهم عن أن يشغلوه بالشكاوى الخاصة إذا تفرغ لأمر عام، فذات يوم كان مشغولاً ببعض الأمور العامة([242])، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، انطلق معي فأعني على فلان، فإنه ظلمني، فرفع عمر الدرة، فخفق بها رأس الرجل، وقال: تتركون عمر وهو مقبل عليكم، حتى إذا اشتغل بأمور المسلمين أتيتموه، فانصرف الرجل متذمراً، فقال عمر علَيَّ بالرجل: فلما أعادوه ألقى عمر بالدرة إليه، وقال، أمسك الدرة، واخفقني كما خفقتك قال الرجل: لا يا أمير المؤمنين، أدعها لله ولك قال عمر: ليس كذلك: إما أن تدعها لله وإرادة ما عنده من الثواب، أو تردها عليّ، فأعلم ذلك، فقال الرجل: أدعها لله يا أمير المؤمنين، وانصرف الرجل، أما عمر فقد مشى حتى دخل بيته([243]) ومعه بعض الناس منهم الأحنف بن قيس الذي حدثنا عمّا رأى: ... فافتتح الصلاة فصلى ركعتين ثم جلس، فقال: يا ابن الخطاب كنت وضيعاً فرفعك الله، وكنت ضالاً فهداك الله، وكنت ذليلاً فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاء رجل يستعديك، فضربته، ما تقول لربك غداً إذا أتيته؟ فجعل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه خير أهل الأرض([244])، وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: مر عمر رضي الله عنه وأنا في السوق، وهو مار في حاجة، ومعه الدرة، فقال: هكذا أمِطْ([245]) عن الطريق يا سلمة، قال: ثم خفقني بها خفقة فما أصاب إلا طرف ثوبي، فأمطت عن الطريق، فسكت عني حتى كان في العام المقبل، فلقيني في السوق، فقال: يا سلمة أردت الحج العام؟ قلت نعم يا أمير المؤمنين، فأخذ بيدي، فما فارقت يدي يده حتى دخل بيته، فأخرج كيساً في ست مائة درهم فقال: يا سلمة استعن بهذه واعلم أنها من الخفقة التي خفقتك عام أول، قلت والله يا أمير المؤمنين، ما ذكرتها حتى ذكرتنيها قال: والله ما نسيتها بعد([246])، وكان رضي الله عنه يقول في محاسبة النفس ومراقبتها: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر } يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ(18) { ([247])، وكان من شدة خشيته لله ومحاسبته لنفسه يقول: لو مات جدْي بطف([248]) الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر([249])، وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قتب يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين أين تذهب؟ قال: بعير ندَّ([250]) من إبل الصدقة أطلبه فقلت: أذللت الخلفاء بعدك، فقال يا أبا الحسن لا تلمني فوالذي بعث محمداً بالنبوة لو أن عناقاً([251]) أخذت بشاطئ الفرات لأخذ بها عمر يوم القيامة([252])، وعن أبي سلامة قال: انتهيت إلى عمر وهو يضرب رجالاً ونساء في الحرم على حوض يتوضئون منه، حتى فرق بينهم، ثم قال: يا فلان، قلت: لبيك، قال لا لبيك ولا سعديك، ألم آمرك أن تتخذ حياضاً للرجال وحياضاً للنساء، قال: ثم اندفع فلقيه علي رضي الله عنه فقال: أخاف أن أكون هلكت قال: وما أهلكك؟ قال ضربت رجالاً ونساءً في حرم الله –عز وجل- قال: يا أمير المؤمنين أنت راع من الرعاة، فإن كنت على نصح وإصلاح فلن يعاقبك الله، وإن كنت ضربتهم على غش فأنت الظالم([253])، وعن الحسن البصري أنه قال: بينما عمر رضي الله عنه يجول في سكك المدينة إذ عرضت له هذه الآية } وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ { فانطلق إلى أبي بن كعب فدخل عليه بيته وهو جالس على وسادة فانتزعها أبي من تحته وقال: دونكها يا أمير المؤمنين قال: فنبذها برجله وجلس، فقرأ عليه هذه الآية وقال: أخشى أن أكون أنا صاحب الآية، أوذي المؤمنين، قال: لا تستطيع إلا أن تعاهد رعيتك، فتأمر وتنهى فقال عمر: قد قلت والله أعلم([254])، وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد النار ثم يدلي يده فيها، ثم يقول: ابن الخطاب هل لك على هذا صبر([255]). وعندما بعث سعد بن أبي وقاص أيام القادسية إلى عمر رضي الله عنه بقباء كسرى، وسيفه ومنطقته، وسراويله، وقميصه، وتاجه، وخفيه، نظر عمر في وجوه القوم فكان أجسمهم وأمدهم قامة سراقة بن جعثم المدلجي، فقال: يا سراقة قم فالبس فقام فلبس وطمع فيه، فقال له عمر: أدبر فأدبر ثم قال: أقبل فأقبل ثم قال: بخ بخ، أعرابي من بني مدلج عليه قباء كسرى، وسراويله، وسيفه، ومنطقته، وتاجه، وخفاه، رب يوم يا سراقة بن مالك لو كان عليك فيه من متاع كسرى كان شرفاً لك ولقومك انزع فنزع سراقة، فقال عمر، إنك منعت هذا رسولك ونبيك وكان أحب إليك مني وأكرم عليك مني، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني، وأكرم عليك مني، ثم أعطيتنيه فأعوذ بك أن تكون أعطيتنيه لتمكر بي ثم بكى حتى رحمه من عنده ثم قال لعبد الرحمن: أقسمت عليك لما بعته ثم قسمته قبل أن تمسي([256]) ومواقفه في هذا الباب كثيرة جداً. ● ● ● ● . 1- زهده: فهم عمر رضي الله عنه من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق: أ- اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل([257]). ب- وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله -تبارك وتعالى- إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء([258])، (الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً، أو متعلماً) ([259]). ج- وأن عمرها قد قارب على الانتهاء، إذ يقول بعثتُ أنا والساعة كهاتين بالسبّابة والوسطى([260]). د- وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون:} يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الأخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40) { (غافر،آية:39، 40) ([261])، كانت الحقائق قد استقرت في قلب عمر فترفع رضي الله عنه عن الدنيا وحطامها وزهد فيها وإليك شيئاً من مواقفه التي تدل على زهده في هذه الفانية، فعن أبي الأشهب([262]) قال: مرّ عمر رضي الله عنه على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها([263]). وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلذات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط([264]) لنا، ونأمر بلباب([265]) الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان([266]) حتى إذا صار مثل عين اليعقوب([267])، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقي طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول: } أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمْ الدُّنْيَا { (الأحقاف،آية:20)، وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنا ندعه ليوم } يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا { (الحج،آية:2)، وقد قال عمر رضي الله عنه: نظرت في هذا الأمر، فجعلت إن أردت الدنيا أضرّ بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضر بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضر بالفانية([268])، وقد خطب رضي الله عنه الناس، وهو خليفة، وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة([269])، وطاف ببيت الله الحرام وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة، إحداهن بأدم أحمر([270])، وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في احتباسه، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يغسل، ولم يكن لي ثوب غيره([271])، وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه حاجاً من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطاً([272])، ولا خباء، كان يلقى الكساء([273]) والنطع([274])، على الشجرة فيستظل تحته([275])، هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحته رداءٌ كأنه أدنى الرعية، أو من عامّة الناس، ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعاماً أطيب من ذلك، ولبست ثياباً ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك([276])، فذكر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يُذكرها ما كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقاً، فإن سلكت الشديد، لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرخي([277]). لقد بسطت الدنيا بين يدي عمر رضي الله عنه وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته، في إعزاز دين الله، وخضد شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق([278])، يقول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: والله ما كان عمر بن الخطاب بأقدامنا هجرة، وقد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا([279]). ● ● ● ● . 2- ورعه: ومما يدل على ورعه رضي الله عنه ما أخرجه أبو زيد عمر بن شبة من خبر معدان بن أبي طلحة اليعمري أنه قدم على عمر رضي الله عنه بقطائف وطعام، فأمر به فقسم، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني لم أرزقهم ولن أستأثر عليهم إلا أن أضع يدي في طعامهم، وقد خفت أن تجعله ناراً في بطن عمر، قال معدان: ثم لم أبرح حتى رأيته اتخذ صحفة من خالص ماله فجعلها بينه وبين جفان العامة، فأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يرغب في أن يأكل مع عامة المسلمين لما في ذلك من المصالح الاجتماعية، ولكنه يتحرج من أن يأكل من طعام صنع من مال المسلمين العام، فيأمر بإحضار طعام خاص له من خالص ماله، وهذا مثال رفيع في العفة والورع إذ أن الأكل من مال المسلمين العام معهم ليس فيه شبهة تحريم لأنه منهم ولكنه قد أعف نفسه من ذلك ابتغاء مما عند الله تعالى، ولشدة خوفه من الله تعالى خشي أن يكون ذلك من الشبهات فحمى نفسه منه([280])، وعن عبد الرحمن بن نجيح قال: نزلت على عمر رضي الله عنه، فكانت له ناقة يحلبها، فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره، فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها، فخليت لك ناقة من مال الله، فقال ويحك تسقيني ناراً، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس، فقيل هو لك حلال يا أمير المؤمنين ولحمها([281])، فهذا مثل من ورع أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، حيث خشي من عذاب الله جل وعلا لما شرب ذلك اللبن مع أنه لم يتعمد ذلك، ولم تطمئن نفسه إلا بعد أن استحل ذلك من بعض كبار الصحابة رضي الله عنهم الذي يمثلون المسلمين في ذلك الأمر، وهذا الخبر وأمثاله يدل على أن ذكر الآخرة بما فيها من حساب ونعيم أو شقاء أخذ بمجامع عمر وملأ عليه تفكيره، حتى أصبح ذلك موجهاً لسلوكه في هذه الحياة([282])، لقد كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع فيما يحق له ولا يحق، أنه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداو عمر بالعسل كما نصحة الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن الناس: إن أذنتم لي، وإلا فهو علي حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك([283]). ● ● ● ● . 3- تواضعه: عن عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان فلما وافى الميزاب صُبّ ماء بدم الفرخين فأصاب عمر، فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثياباً غير ثيابه، ثم جاء فصلى بالناس فأتاه العباس فقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعل ذلك العباس([284])، وعن الحسن البصري قال: خرج عمر رضي الله عنه في يوم حارّ واضعاً رداءه على رأسه، فمرَّ به غلام على حمار، فقال: يا غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار، وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأركب أنا خلفك، تريد تحملني على المكان الوطئ، وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام، فدخل المدينة، وهو خلفه والناس ينظرون إليه([285])، وعن سنان بن سلمة الهذلي قال: خرجت مع الغلمان ونحن نلتقط البلح، فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعه الدِّرَّة، فلما رآه الغلمان تفرقوا في النخل، قال: وقمت وفي إزاري شيء قد لقطته، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا ما تلقي الريح، قال: فنظر إليه في إزاري فلم يضربني، فقلت: يا أمير المؤمنين، الغلمان الآن بين يديَّ، وسيأخذون ما معي، قال كلا، امش قال فجاء معي إلى أهلي([286]). وقدم على عمر بن الخطاب وفد من العراق فيهم الأحنف بن قيس في يوم صائف شديد الحر، وعمر معتجر (معمم) بعباءة يهنأ بعيراً من إبل الصدقة (أي يطليه بالقطران) فقال: يا أحنف ضع ثيابك، وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير فإنه إبل الصدقة، فيه حق اليتيم، والأرملة، والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني، ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم ما يجب على العبد لسيده في النصيحة، وأداء الأمانة([287])، وعن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها([288])، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول: وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ، والله بنيّ الخطاب، لتتقين الله، أو ليعذبنك([289])، وعن جبير بن نفير: أن نفراً قالوا لعمر بن الخطاب: ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقول للحق ولا أشدَّ على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله، فقال عوف بن مالك([290]) : كذبتم – والله – لقد رأينا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من هو؟ فقال: أبو بكر فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم، والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي – يعني قبل أن يسلم – لأن أبا بكر أسلم قبله بست سنين([291]). وهذا يدل على تواضع عمر وتقديره للفضلاء ولا يقتصر على الأحياء منهم، ولكنه يعم منهم الموتى كذلك، فلا يرضى أن ينكر فضلهم أو يغفل ذكراهم، ويظل يذكرهم بالخير في كل موقف، ويحمل الناس على احترام هذا المعنى النبيل وعدم نسيان ما قدموه من جلائل الأعمال، فيبقى العمل النافع متواصل الحلقات يحمله رجال من رجال إلى رجال، فلا ينسى العمل الطيب بغياب صاحبه أو وفاته وفي هذا وفاء وفيه إيمان([292]). إن عمر رضي الله عنه لا يقر إغفال فضل من سبقه في هذا المقام ولا يرضى أن تذهب أفضال السابقين أدراج النسيان. إن الأمة التي تنسى أو تغفل ذكر من خدموها، أمة مقضي عليها بالتبار، أليس من الخير أن يربي الناس على هذه الخلال السامية؟ لقد تربى عمر على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فعلّماه ما تعجز عنه كتب التربية والأخلاق قديمها وحديثها، وما يزال كتاب الله بين أيدينا وما تزال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوظة لدينا وفيها علم وتربية وأخلاق بما لا يقاس عليه([293]). . ● ● ● ●