عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-13-2012, 06:15 PM
ابو العتاهية ابو العتاهية غير متواجد حالياً
عضو مبتدئ
 
شكراً: 45
تم شكره 95 مرة في 37 مشاركة

ابو العتاهية عضوية تخطو طريقها








افتراضي قواعد فقه التعامل مع المخالفين ( بحث نفيس )

 


الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله؛
وبعد
فهذا تلخيص للبحث القيم الذي جمعه الشيخ الفاضل سليمان الماجد في فقه التعامل مع المخالف ، ولأهمية الموضوع رأيت تلخيصه ووضعه ها هنا في حلقات، وأرجو ألا يكون فيه إخلال بكلام الشيخ حفظه الله.



مدخل :
كان من سنن الله تعالى في خلقه أن جعلهم مختلفين في أشياء كثيرة : في ألسنتهم وألوانهم ، وفي طبائعهم وميولهم النفسي والعقلي والعاطفي ، وفي آرائهم ونظراتهم في الدين والنفس والمجتمع وما يحيط بهم :
قال تعالى : "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)" هود .
والمخالف هو كل من خالفك في أي شيء ؛ فهو الوثني والملحد والكتابي والمرتد والمنافق والمبتدع بدعة اعتقادية والمبتدع بدعة عملية ، وهو المنازع في المسائل الفقهية القطعية والظنية ، وكذلك في المناهج المختلفة ، سواء كانت دعوية أو سياسية أو عملية أو في أي صعيد . فكل من لا يرى رأيك أو عملك فهو لك مخالف .
وكل هؤلاء المخالفين ينبغي أن يعاملوا بقواعد العدل التي دلت عليه الشريعة . وإن كان الكلام في أكثره هنا إنما هو على المخالفين من أهل السنة .



الأثر المقصدي والشرعي لفقه الخلاف :
إذا تحقق فقه الخلاف كما أراده الله تعالى فإن لذلك آثاراً عظيمة في النفس والمجتمع ؛ فمنها :
تحقيق العبودية لله :
يتحقق بإحياء فقه الخلاف أشرف المعاني ، وأجل المقاصد : إنه توحيد الله ، وتمام العبودية له جل شأنه في خطرات الإنسان ، وتفكيره تجاه الآخرين ، وفي تعامله معهم .



يحصل به التمحيص والامتحان :
فالخلاف مضيق لآراء الناس ومواقفهم ، وعند المضايق يذهب اللب ، وإذا ذهب اللب فلا تسأل عن ضياع حقوق المخالف ؛ بل ضياع الحق نفسه في أحيان كثيرة .
فيحصل بفقه الاختلاف صبر النفس على الاستماع إلى الآخرين ، وإلى وجهات نظر متعددة ؛ فينظر إلى المسائل التي يعرض لها بزوايا مختلفة تكشف له محل الغموض ؛ فيحصل من التحقيق ، وكثرة الصواب ما لا يخطر له على بال .



تحقيق الألفة ، وقطع أسباب الشحناء :
إن العلاقة بالمخالف من الأهمية بمكان ؛ لأن اختلال ميزانها يؤدي إلى الاختلاف المذموم المفضي إلى فساد الأحوال في الدين والدنيا .
قال الله عز وجل : "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)" آل عمران .
ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المجتمع والدولة ـ بعد هجرته ودخوله المدينة ـ إلا بعد أن آخى بين المهاجرين والأنصار .
وحين ضاع فقه الاختلاف نهاية القرن الثالث ظهرت آثار مدمرة من الشحناء والعداوات انقشعت أغبرتها على ضياع المصالح ، وتسلط الأعداء ، وكان من أبرز مظاهر هذه العصور الضعف السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري



تحقيق المقاصد في شمول وإتقان :
فإن تضييع فقه الاختلاف ينتج عزلاً لأهل المنهج الحق وتناقصاً في قوة نفوذهم وسلطانهم .



وهذه أهم قواعد التعامل مع المخالفين :
أولا: قواعد عمل القلب :

1-الخشية :
وكان من أعظم صفات العلماء هي الخشية والعمل المخلَص ، قال جل شأنه : "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وقال الله تعالى : "أمن هو قانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب" .
وزوال الخشية أو نقصها فهي من أعظم أسباب العدوان على المخالفين وبخسهم حقوقهم ؛ حيث يحل محلها الهوى .
فليست أزمة قبول الحق والإذعان له أزمة علمية ، أو معضلة في البحث والتحقيق ، ولكن الأزمة الكبرى هي في التجرد من الهوى ، والمؤثرات المتعلقة به .
وهوى الإنسان يكون في نفسه وفي والده وولده ، وفي منصبه وجاهه ، وفي ماله ووطنه وعشيرته ، وما يراه وفاء لشيخه ، أو رعاية لتلاميذه وأتباعه ومحبيه أن يقول أو يفعل ما يخذلهم .
وصارت روابط العرق أو البلد أو الإقليم أو الحزب وعلاقة الشيخ بالتلميذ تدفع حتى بعضاً من المهتمين بالشأن الإسلامي إلى العمى عن رؤية الحق ، ومن ثم العدوان على المخالفين .
ولعل أظهر ما يدل على ذلك أن بعض المسائل الفقهية التي قوي فيها الخلاف ؛ بل ثبت فيها الأخذ بالقولين من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة والعلماء من بعدهم ترى في بعض الأزمنة أو الأمكنة عدواناً مبينا على المخالف فيها ؛ فتُساء به النيات ، وتذهب فيه الظنون كل مذهب ، ثم لا ترى وصفاً مؤثراً لهذا العدوان إلا مخالفة السائد في هذا المكان أو ذلك الزمان .
وتظهر آثار الهوى في مظاهر منها : عدم العناية بتأصيل المسائل التي قد تخالف سائداً ، وكراهة بحثها ، خشية من الوصول إلى نتائج لها تبعات . ومنها : أنك تراه إذا حط أحد على مبغض له لم يدافع عنه بطلب محاسنه ؛ بل تظهر منه علامة الإعجاب والرضا . وإن حط أحد على محبوب بدا غضبه ، وثارت ثائرته . ومنها حياؤه من عرض طروحات صحيحة يقول أو يعمل بها فريق ، أو تيار آخر




2-أن يكون مقصود المخالفة براءة الذمة بالبيان للأمة :
ينطوي قلب المؤمن على نية حسنة وسريرة صافية ؛ فهو لا يريد من مخالفته لأحد إلا تعظيم الحق والبحث عن الحقيقة ، ولا غرض له فيما سوى ذلك ؛ كتقديس النفس أو الهوية أو الانتصار لهما ، ومتى علم الله ذلك منه حصل له من القبول ومحبة الخلق وانتفاعهم به ما يرفع الله به قدره ، ويخلد به ذِكْره .
وقد تشوهت هذه المعاني السامية عند بعض الناس ؛ فحل محل الإخلاص : الرياء والتصنع ، ومحل الحرص على الهداية : محبة النفس والدوران حول الذات وتعظيم الهوية الترابية من بلد أو عرق أو حزب أو عادة ومألوف .
فأصبح النزاع والخلاف المعلن لله وهو في الحقيقة بين الذوات ، أو الهويات المختلفة ؛ فما أعظم الذنب وأكبر المصيبة إذا جعل المخالف تعظيم الله لافتة يخفي تحتها أخس المعاني الترابية .
وإذا بلغ الأمر هذا الحد فلا تسأل عن الفوضى العلمية ، ولا عن التدابر والعدوان على المخالفين من كل فريق .
قال في "الاستغاثة" (1/380) ( .. أئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العدل والإيمان والرحمة ؛ فيعلمون الحق الذين يكونون به موافقين للسنة ، سالمين من البدعة ، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم.. ويرحمون الخلق ؛ فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، لا يقصدون الشر ابتداءً ؛ بل إذا عاقبوهم وبيَّنوا خطأهم وجهلهم وظلمهم كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق



3-أن يحرص على الانتفاع من المخالف :
من أعظم أسباب تأبي الحق على القلوب الكبرُ ، وإشعار المرء نفسه أو الآخرين بأنه إنما بُعث إليهم هادياً لا يقبل مع ذلك توجيها أو تصحيحاً من أحد ، وأن على الناس الاستماع إلى قوله وتوجيهاته ونصائحه .
وأكمل الأحوال أن يوطن المرء نفسه للانتفاع من المخالف مهما كانت ديانته وجنسه ، وأن يعلم أن هذا من أظهر علامات حسن قصده من إظهار الخلاف .
وهذا يوطن لأمرين مهمين :
الأول : تهيئة النفس لقبول الحق ؛ فزوال الكبر سبب من أسباب ذلك .
والثاني : التواضع للخلق ، وهذا يبعثهم على الاستماع إليك في حال من الطمأنينة والأمان ؛ لأن المخالف قد سل سخيمة نفسه ، ورفع حالة التوتر والاحتقان التي يشعر بها بسبب مخالفتنا ، أو بسبب ما يراه من علوية البعض بأنه ما خالف أو ناظر إلا لإهداء ما عنده من الحق .
وبعض المسائل وإن كانت قطعية ظاهرة والشك فيها قد يكون كفراً إلا أن إظهار التنَزل الجدلي طريق صحيح لإزالة التوتر ؛ فالله عز سبحانه وتعالى قد قال : "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" ، ويقول تعالى : "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة" ؛ فما الذي يدعو إلى التفكر مع كون القضية قطعية إلا توطين نفس المخالف على قبول الحق .

وعن قتيلة بنت صيفي الجهنية قالت أتى حبر من الأحبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون ! قال : سبحان الله ! وما ذاك ؟ قال : تقولون إذا حلفتم : والكعبة . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : "فمن حلف فليحلف برب الكعبة" . قال : يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله ندا ! قال : سبحان الله وما ذاك ؟ قال تقولون : ما شاء الله وشئت . قالت : فأمهل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، ثم قال : "فمن قال ما شاء الله فليقل معها ثم شئت" .
فقد سمع صلى الله عليه وسلم من اليهود في أمور عقدية ، ولم يأنف أن يقول به حين وافق الحق .



4- أن يحرص على انتفاع المخالف لا ظهور القول ، أو معقد الهوية :
فيكون الباعث على المخالفة ، أو مجادلة المخالف هو انتفاعه بما تراه من الحق ؛ لا أن يكون القصد إرغامَه وإظهارَ خطئه عند الناس .



ثانيا :قواعد العلم واليقين :
ما وقع عدوان على مخالف إلا كان أكثر أسبابه جهل المعتدي فيما يتكلم فيه ، أو جهله بكيفية التعامل مع المخالف في مثل هذا الخلاف
فمن أراد أن يعرف أثر العلم في كل شيء ، ومنه التعامل مع المخالف ؛ فلينظر إلى أثر الجهل : إنه وضع الشيء في غير موضعه ، وهو الجمع بين المفترقات والتفريق بين المتماثلات ، وإعطاء الشيء حكماً مبنياً على الوهم والشك ، أو العصبية وإظهار الغلبة .



فمن قواعد العلم:
1-أن يحقق المسائل
فالاكتفاء في مثل هذه القضايا بالثقافة العامة والمطالعات السريعة ، والبناء على ذلك في نتائج نظرها إنما هو نوع من اعتبار الجهل والظن .
فلا تبرأ ذمة العالم إلا بإمعان النظر فيها ، وتحقيق القول في مآخذها وقواعدها .
والمسائل العلمية المتعلقة بالحكم على أي شيء ، ومنه الحكم على المخالف تمر بمراحل هي :
تخريج المناط ؛ وهو استخراج ما يحتمل أن يكون علة للحكم ومقصدا له ، وما يتبعه من تنقيح المناط ، وما ينتجه ذلك من حكم المجتهد في المسألة بكونها كفراً أو فسقاً أو بدعة ؛ كقوله بعد الاجتهاد : إن الحكم بغير ما أنزل الله على وجه التشريع العام كفر أكبر مخرج من الملة .
تحقيق المناط ، وهو إنزال الحكم على الواقعة الجديدة ؛ كقوله بأن قانون تشريع إباحة الربا في الحالة المعين هو هذا الكفر .
التحقق والتثبت من أن الذي نتعامل معه قد قال أو فعل ما يوجب أو يجيز عقوبته ؛ فكثير من الناس يبني على مجرد الإشاعة ، أو على ما يقال في وسائل الإعلام ، وعلى النقل الذي يتغير عند الشخص الواحد أكثر من مرة ؛ فكيف عند طول السلسلة .
التحقق من قيام الحجة التي يكفر منكرها ، ووجود الشروط وانتفاء الموانع .
وصف الفاعل بآثار فعل المخالفة ؛ بأن يقال عن شخصه : إنه كافر أو فاسق أو مبتدع .
إظهار هذه الأحكام أو إخفاؤها بالنظر إلى المصالح والمفاسد ، واختلاف الأزمنة والأمكنة ، واختلاف الأشخاص الحاكمين والمحكوم عليهم .



2-أن ينبذ التقليد :
فليس من العدل ولا من العلم أن يقلد المرء غيره في الحكم على الآخرين ، وما يترتب عليه من التعامل معهم بهجر أو تنفير أو عقوبة ، أو الحكم على أحد بكفر أو فسوق أو بدعة ؛ فما كان قطعياً فلا تقليد فيه لظهوره ، وما كان محل اجتهاد أهل العلم ، أو مشكوكاً فيه لم يجز لأحد أن يخرج من المقطوع به ، وهو حرمة عرض المسلم ، ولزوم وفائه جميع حقوقه بأمر مشكوك فيه لا يعرف وجهه ولا دليله ، والعالم المستدل فيما يختار من أقوال ، وفي مواقفه : يجد ما يُخرجه من العهدة ، ويبرئ به الذمة ، ولكن ما الذي يُخرج المقلد ؟
والتقليد إنما أُبيح على خلاف الأصل ، وهو وجوب النظر والاستدلال أُبيح لدفع حاجة أو ضرورة في عبادة أو معاملة ؛ فما هي الضرورة والحاجة في الحكم على الآخرين بحكم ، أو معاملتهم بما يُخشى معه بخس أعظم حقوقهم ؟



3-أن يتثبت ويتبين :

يقع الظلم والعدوان على المخالف بسبب العجلة وأخذ الكلام من مصادر غير معتبرة ؛ إما في ورعها ، وإما في ضبطها وحسن فهمها ، ولهذا قال الله تبارك وتعالى : "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين" .



•نماذج لأحكام لم يحقق الكلام فيها ، واعتدي فيها بسبب ذلك على المخالف :
1-التفريق في التعامل مع المخالف بين مسائل الفروع والأصول :
جعل بعضهم الفروع والأصول ، أو العقائد والفقهيات هي المفرق لما يسوغ فيه الخلاف ، وما لا يسوغ ، وبنوا على ذلك أحكاما في التكفير ، بل واستحلال عقوبته ، أو حتى قتله .
وهذا التفريق بدعة أحدثها المخالفون لأهل السنة ، وجعلوها سيفاً مصلتاً عليهم ؛ لحملهم على أن يأخذوا بقولهم ؛ فاستعدوا عليهم السلاطين ، وعزلوهم بسببها من وظائفهم ، وجردوهم من إمامة الناس في الصلاة ، والتدريس والفتوى والوعظ .



-اعتبار مسائل البدع العملية من قضايا الاعتقاد :
فلو سلمنا بالتفريق بين مسائل الفروع والأصول ، والقطعية والظنية فإن مسائل البدع العملية التي يختلف فيها الناس ، وتبنى على الاستنباط هي من مسائل الفقه والظن لا من مسائل القطع واليقين ، وتكون في أبواب الفقه ، وليست في أبواب العقائد ، وعلى التسليم بالفرق فإن محل مصنفات البدع العملية هو قسم الفقه وليس قسم العقيدة .



3-عدم التفريق بين النوع والعين :
في هذا الباب وقع ما يُعد من أعظم العدوان على المخالف ؛ فبسببه وقع التكفير والتفسيق والتبديع على المعين .
وبسببه حصل الاقتتال في هذه الأمة ، وبدت ظاهرة الغلو والعنف .
وإنما كان مقصود الشريعة في هذه الأسماء أمران :
الأول : الإعذار إلى من كان متصفا بهذه الصفة ؛ ليقلع عن فعله ، أو أن تكون الحجة قد قامت عليه ؛ فيقع مقصود الشريعة بأن لا يعاقب إلا بعد إعذاره .
قال الله تعالى : "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" .
وقال صلى الله عليه وسلم : "لا أحد أغير من الله ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله ولذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل" رواه الشيخان من حديث ابن مسعود .
الثاني : إنذار المتردد ، ومن في قلبه مرض أن لا يسلك سبيلهم .
أما تطبيق ذلك على الأعيان من أهل القبلة فليس حتماً لازماً ؛ فلو تركه المرء لم يكن مخالفاً لمقصود الشريعة في وضع هذه الأسماء .



4- معذرة المخالف :
وهذه المعذرة ينبغي أن تُعتبر في الحاكم على الناس بأي حكم ، وكذلك في المحكوم عليه ، أما في الحاكم فظاهر ؛ حيث ينتفع بذلك في اعتبار معذرته ، وأما في المحكوم عليه فينبغي أن يعذر الحاكم عليه ؛ مادام مجتهدا متحرياً للحق .
وأسباب هذه المعذرة كثيرة ؛ فمنها :
-الحسنات الماحية
-التأويل السائغ ، أو ما يسوغ من مثله
-التقليد السائغ ـ، أو ما يسوغ من مثله
-الجهل
-استقرار البدعة وشيوع المخالفة .

الحلقة الثالثة



ثالثا: قواعد العدل والإنصاف :
فإن العدل فضيلة مطلقة ؛ لا تقييد في فضله ؛ فهو ممدوح في كل زمان وكل مكان ، وكل حال ، ممدوح من كل أحد ، مع كل أحد ، بخلاف كثير من الأخلاق ؛ فإنه يلحقها الاستثناء والتقييد .
ولهذا اتفقت على فضله الشرائع والفطر والعقول ، وما من أمة أو أهل ملة إلا يرون للعدل مقامه .
وبالعدل تحصيل العبودية لله وحده ، وبه تُعطى الحقوق وتُرد المظالم ، وبه تأتلف القلوب ؛ لأن من أسباب الاختلاف الظلم والبغي والعدوان ، وبه يُقبل القول ، أو يعذر قائله ، وبه تحصل الطمأنينة والاستقرار النفسي

وإذا أراد المرء أن يمتحن نفسه في العدل ، وأن يمحص دعواه الإنصاف فليتحقق في نفسه أموراً إن وجدها كان حرياً بوصف العدل ، وإن فقدها فهو على خطر :
فمنها : تحصيل العلم الشرعي ؛ فتحقيق المسائل التي يُحكم بها على الآخرين ضروري لتحقيق العدل مع الناس ، ومن قصّر في تحصيله فليس بمعذور أن يحكم أو يتعامل مع أحد بمعاملة يكرهها .
ومنها : التأني ، وأن يجعل للزمن مجالاً قبل الكلام في حق شخص أو مؤسسة .
ومنها : العلم بواقع الحال ، من معرفة حال الشخص الذي نتعامل معه ، أو نحكم عليه من ناحية علمه وجهله بما فعله ، والأسباب والدوافع لذلك الفعل ، وأسباب المعذرة ، ومعرفة ما لديه من حسنات قد تغمر ما بدا منه من خطأ أو زلل .
فهذا حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه فعل أمراً عظيماً بتسريب خبر توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة لغزوها ؛ فتأنى النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عن الفعل أولاً بقوله : يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ ، ثم سأله عن السبب ؛ بقوله : "ما حملك على هذا" ؟ وهذا يدل أن للأسباب والدوافع تأثيراً في الحكم ، ثم أعفاه من العقوبة ؛ حين وازن بين سيئاته وحسناته فقال : "وما أدراك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
ومنها : اتهام النفس ؛ فإنه بداية تلمس أسباب العدل ، والوقوف على ما يعين عليه ، ومتى كان المرء مزرياً على نفسه متهماً لها ، يتوقع منها الخلل والزلل والهوى كان أبعد الناس عن الوقوع في الظلم والعدوان .



ومن أسباب العدل :-
- أن ينظر إلى أعماله السابقة ، وأحكامه السالفة ، وكذلك أحوال الظلمة ؛ فكثير من الناس يكون جوره وظلمه بسبب توتره واضطراره إلى علاج الحالة في ضيق من الزمان أو المكان ، أو ضغط الأحوال والأشخاص الذين يحيطون به ؛ فإذا تجرد من هذه المؤثرات فقد يلوح له وجه تعسفه.

- الشجاعة الأدبية مع من يخافهم أو يحبهم أو يرجوهم ؛ فهو قوي شجاع عند تكبير محبيه أو شماتة أعاديه ؛ فإن جرب من نفسه ضعفاً عندها وخوراً في مواجهة ذلك فهو محل للحيف والظلم ؛ فليكن على حذر .

- أن يجعل نفسه مكان من يتعامل معه أو يحكم عليه ؛ فإذا كان في مكانه أراد منه في معاملته أو حكمه أن يكون قائماً بالقسط مستكملاً أسباب العدل ؛ فإذا استشعر ذلك كان هو معه كذلك .



ومن قواعد العدل:

1-أن يحمل كلام المخالف على أحسنه :
1- الكلام ملك لصاحبه المخالف ، وهو أولى الناس بتفسيره ، وما دام أنه حمَّال أوجه لم يجز أن نختار منها ما نشاء للحكم عليه ؛ لا سيما والمرء في سعة من الحكم عليه ؛ فليس التعامل معه بالدرهم والدينار ، ولا في مصاهرته ، وإنما هو حكم أو وصف لا يحتاج إلى أن يتكلم بهما .
وأما الرد والبيان فلا يمنع منه كون الكلام محتملاً ؛ فلو خشي أحد من تأثير كلامه فلينكر ذلك مع الاحتراز له بأن يقول : إن كان المعنى المقصود كذا فهو حق وإلا فهو باطل ، ونحو ذلك .



2-أن لا يفجر في خصومته :
فمهما بلغ المخالف في مخالفته فلا يجوز أن يظلم أو يجار عليه ، أو أن يُكذب عليه ، أو أن يُزاد في حديثه ما لم يقله .



3-أن يقارن خطأه بخطأ غيره ممن عذره :
فإن كان خطؤه مثله أو قريبا منه ، وكان في ظروف مماثلة ، وقد عذرنا غيره ؛ فلتسعه المعذرة أيضاً ، ولا تكن المعاصرة ، أو كون المخالف مقدما عند طائفة حاضرة سبباً للكيل بمكيالين .



4- أن يعتبر حسناته ، ويوازنها بسيئاته :
فمن قواعد التعامل مع المخالفين أن يُنسب الفعل الذي خالف فيه إلى بقية أعماله الأخرى ؛ فإن غلب خير الشخص على شره كان الحكم للغالب ، وكان الحكم الجملي عليه بذلك .
إن لبعض الناس قابلية شديدة لعلوق الأشياء القذرة في قلبه فيما لا تقبل علوق الأشياء الخيرة ؛ فتخرج النتيجة المرة البئيسة : أنه لا يراه إلا من خلال أخطائه ، فيسقط اعتباره بالكلية ، ويتولد في قلبه من الحقد والكراهية ما يحمله على العدوان عليه وبخسه حقوقه .
ويزين له الشيطان أنه إنما فعل ذلك نصرة لدينه وغيرة على عقيدته .
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسيره إلى قريش في سراً ؛ ليجعل من عنصر المفاجأة سببا لحسم المعركة ؛ فقام حاطب بن أبي بلتعة بعمل خطير آثاره مدمرة حيث سعى لتبليغ المشركين بذلك .
فماذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لقد جعل من حسناته سببا للعفو عنه .
وإذا رجعت إلى الواقع وجدت أن أكثر الخلاف وأكثر العدوان على المخالفين راجع إلى ترك هذه القاعدة أو التفريط فيها .
فكثير ممن فوقت لهم سهام العدوان ، وتمزقت الأمة بسببه هو ضياع هذا الأصل .



5-أن لا يخضع في تعامله معه لتصنيف :
صار عسيرا على كثير من الناس أن يرى إنسانا آخر ، أو يسمع به فضلاً عن يدخل معه في حديث أو علاقة بله أن يختلف معه إلا رأيته في سر أو علن يبحث عمن يكون هذا الشخص ؟ .. في توجهه .. في تاريخه .. في جغرافيته ؛ ليجعل من هذه التصنيفات أساساً للحكم عليه والتعامل معه .
ليس ذلك لفهم النفسيات ومحاولة الوصول إلى حلول لمشاكله ؛ وإنما لأسباب غير مفهومة ؛ حتى صارت هذه التصنيفات قيوداً في حركة المصنِّف عن الانطلاق مع الآخرين ، وعشىً في الرؤية ؛ بما ينتهي ظلما في التعامل ، وجوراً في الأحكام .
ولهذا لا يتحقق تمام العدل مع المخالف إلا بالتخلص من هذه العادة النفسية البئيسة ؛ وذلك لننتفع من الخلق وننفعهم بعيدا عن أي صوارف أو مؤثرات.
وليحذر المرء أن يذهب لبه وديانته حين يرى حمى التصنيف ، وفوضى التهم ، والالتفاف حول الهويات المتنوعة ؛ فيحمله ذلك على خوض هذا الغمار ، والدخول تحت ذلك الغبار ؛ فصاحب اللب والديانة أكرم على الله من ذلك
ومن الجور في التعامل مع المخالف أن يخضع المرء في تعامله معه لتصنيف بحيث ينظر إلى الآخرين من زاوية مذهبه وحزبه وإقليمه ؛ حتى لو لم يصنف هو أحداً ؛ فلن يكون عادلاً منصفاً إلا إذا جعل ميزان الحكم على الآخرين والتعامل معهم بناء على ما يقولون ويفعلون مجرداً من أي تأثيرات أخرى ، وبحسب الأدلة والقواعد ، وإلا سلك طريق الظلم والعدوان دون أن يدري ، وإن كان ديناً صالحاً.





الحلقة الرابعة:

رابعا: قواعد السياسة الشرعية
:
تُسن الأحكام في هذه الشريعة لتؤدي مقاصدها ، وكان من سعتها وشمولها أن جاء في قواعدها العامة ما يعالج بعض الحالات الخاصة بصورة استثنائية ، وكانت هذه الأحكامُ الاستثنائيةُ موافقةً لهذه المقاصد ، متسقة مع تلك الأهداف .وذلك مثل قواعد تعارض المصالح والمفاسد .



فمن قواعد السياسة الشرعية:

1-أن يعتبر اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص :
فلا يظهر في مكان عملاً في مسألة قد استقر الناس على خلافها بحجة أن الخلاف فيها سائغ ؛ فإن هذا مما يزيد الخلاف ويوسع الشقة بين المسلمين ؛ كإظهار المولد في مكان أطبق الناس فيه على عدم شرعيته ، لكن معرفة درجة الخلاف ينفع في معذرة المتأولين في مكان آخر .
ومن ذلك أن يؤخر في بعض الأمكنة محاربة بعض البدع العملية الجلية ؛ كتأخير إنكار صلاة الرغائب من أجل معالجة شرك أكبر في الربوبية والإلهية



2-أن لا يمتحن المخالف في معتقده :
كان السلف يرون امتحان المرء لإخراج مكنونات معتقداته من البدع .
وإظهار المعتقدات المستترة بامتحان الناس فيها وإن كان يُعتبر ـ بادي الرأي ـ من حرب الآراء المخالفة في وكرها ، ومن كبتها قبل أن تخرج إلى الناس ، أو ما يسمى بالحرب الاستباقية إلا إنها تنطوي على مفاسد أعظم من ذلك ؛ فمنها :
-دفع صاحبها إلى إظهارها والمنافحة عنها ؛ فإن الرأي حين يكون حبيس الأضلاع فإنه لا يُنسب إلى معتقدِه ، لكنه إن ظهر صار منسوباً إليه ، وأصبح أكثر استعدادا لتبنيه ، والدفاع عنه . كما أنه يدفعه إلى مراغمة مخالفيه وممتحنيه بالصدع بمعتقده .
-أن الممتحِن بإظهاره قول المبتدع يُكوِّن أتباعاً ، أو مستمعين لصاحب البدعة ؛ بل ومعجبين بطريقته ؛ فكان رضاه هو بعدم إعلان خواطره خيراً من امتحانه ، وإظهارها للناس .
وقد دل هدي النبي صلى الله عليه وسلم على الإعراض عما ظهر فيما أعلنه المنافقون من كلمات الكفر ، وجُعلت أسماء المنافقين سراً عند بعض أصحابه ، وما نعموا به من مزايا المجتمع المسلم بقبولهم أعضاء فيه تجري عليهم به أحكام الإسلام الظاهر ، رغم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أعيانهم ، ولم يوجه هذا إلا بأنه صلى الله عليه وسلم اعتبر السياسة ووازن بين المصالح والمفاسد .
فإذا كان هذا هديه فيما ظهر من الكفر فما الظن به فيما أخفاه الناس من المعتقدات ؟
وهذا يختلف عن البحوث العلمية والكتب التي تتخصص في عقيدة عالم معين ؛ إذْ إن هذا عمل علمي يراد منه جمع آرائه وتنسيقها وموازنة القواعد الجامعة لكلامه .



3-أن توجه التعرية والإسقاط للقول المخالف لا لقائله :
إذا كانت المخالفة في قضية علمية أو منهجية وقد أعلن صاحبها قوله أو منهجه فلا إشكال هنا في ذكر القول والقائل ، وقد درج العلماء على ذلك حتى في المسائل الفقهية التي يقوى فيها الخلاف دون تجريح أو اتهام للنيات ؛ فما الظن في القضايا المنهجية ؟
وكذلك لو كان النقض على كتاب معين ؛ فلا تثريب في ذكر الكتاب والكاتب .
وهذا كله لأن كاتبه رضي بإظهار رأيه وقرن اسمه به ؛ فلم يعد بذلك ملكاً له ؛ بل صار مشاعاً لجميع الأمة .



ولكن تقع صورة أخرى تزيد على ما ذُكر وهي توجيه الجهود لإسقاط شخص معين بسبب مخالفة منهجية معينة ، وذلك بطريقين :
الأولى : التجريح الشخصي ، وتسخير قواميس الهجاء لتشويه صورته عند الناس ؛ وذلك بتكفيره أو جعل وصف المبتدع قرينا لاسمه ، تنفيراً للناس من الاستماع إليه ، والتأثر به ، وربما أدخلوا مع ذلك بعض السلوك الشخصي ؛ كسيرته الأخلاقية أو المالية أو العائلية .



الثانية : جمع أخطائه ومخالفاته حتى في المسائل الاجتهادية ؛
لتكون في موضع واحد ، وذلك لتتجمع أجزاء الصورة التي تجمعت في ذهن مخالفه لتكون مجتمعة واضحة عند بقية الناس ، وذلك ليحذروا ما قاله أو ما سيقوله .
وصارت هذه الطريقة تُسمى في الوقت الحاضر بـ "منهج الإسقاط والتعرية" أي أن يُسقط الشخص من أعين الناس ، ويعرى على حقيقته أمامهم .

وإذا أردنا محاكمة هذه الطريقة إلى منهج الكتاب والسنة ، ومقتضى السياسة الشرعية ، وقواعد المصالح والمفاسد فإن الناظر في هديه صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستخرج قاعدة كلية وهي أن الأصل في نشر العلم ، والنقض على المخالفين هو البيان العام ، وأن الاستثناء أو النادر هو ترك بيان بعض العلم في أحوال خاصة رعاية لمصالح أعظم ، أو درءاً لمفاسد أكبر .
كما أن الأصل في التعامل مع الأفراد المخالفين هو ترك بيان اسمه ، والإعراض عن الدوران حول ذاته ، وإذا وقعت التسمية فإنما هي على وجه الندرة والاستثناء .
وهذا ظاهر بيِّن في منهج القرآن حين لم يذكر أسماء المشركين في مكة ، ولا أسماء المنافقين في المدينة ؛ كما جعل صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين سراً عند بعض أصحابه رغم شدة خطرهم .
ولكن حين كان الأمر يتعلق ببيان العلم والرد على الأقوال الباطلة وفضح شبه المشركين وطرائق المنافقين فإن منهج القرآن والسنة كان قوياً حاسما لا مواربة فيه ، وما ذلك إلا لأن الإعذار والإنذار الذي لأجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل ، وأخذ الله به الميثاق على الذين أوتوا العلم لا يتحقق إلا بهذه الطريقة الواضحة من العرض والبيان ، وإذا تحقق مقصود البيان فلا يبقى أثر وفائدة تذكران لتسمية الأفراد في ظل تحقق هذه المقاصد العظيمة .
ولهذا كان بعض الناس في هذه المسألة طرفي نقيض فمنهم من كرس حياته للدوران حول ذوات أشخاص المخالفين لحربهم ، وأهمل ما هو أهم من ذلك وهو المنهجية العامة في البناء العلمي والتربوي سواء كان ذلك بنشر العلم أو بالنقض على المخالفين ورد شبههم دون جعل الشخص محوراً لذلك .
ومنهم من أهمل البيان العلمي والتربوي وحتى الرد المنهجي الذي لا يستهدف الأشخاص تغليبا لمراعاة شعور الأفراد بالامتعاض حين تُنقض مناهجهم ، وتُبيَّن أخطاؤهم .

وكلا الطرفين قد قلب المنهج الشرعي الصحيح ؛ فالأولون جعلوا الأشخاص محورا للرد ؛ ولو بالعدوان عليهم ، وارتكاب مفاسد أعظم بحجة رعاية المنهج ، والآخرون جعلوا الأشخاص محورا للرعاية أو المجاملة ؛ ولو على حساب المنهج .
فصار الأصل ـ عند كلا الطرفين ـ استثناء والاستثناء صار أصلاً ؟
والمنهج الصحيح ما ذكرناه من العناية ببيان العلم ، والقيام بمهام التربية ، وأن يكون الأصل مع المخالفين الرد على أفكارهم ونقض أقوالهم دون مواربة ، مع عدم التعرض لأشخاصهم إلا في استثناءات نادرة ، شرطها أن لا تعود على الأصل بالإبطال .

وأعظم شبهة للمبالغين في منهج إسقاط المخالف وتعريته هي ما يرونه من خطر تغريره بالناس ، وتأثرهم بمنهجه ؛ فلا سبيل إلى رد باطله إلا بهذا المنهج .
وانتهاج هذه الطريقة يعكس عند صاحبها إحباطاً ، أو قلةً في الثقة في حجته ، أو ضعفاً في قدرته على إقناع الناس بصحتها .
وإلا فإن أعظم حصار لفكرة المخالف إنما تكون في بيان العلم بالحجة والبرهان ، ولهذا كانت الغالبة في الكتاب والسنة ؛ فكان المنهج الظاهر الأكثر : هو تعرية المنهج ؛ دون اعتبار للأشخاص .

ثم إن خطر التغرير وإضفاء الشرعية كان موجوداً في عهد النبي صلى عليه وسلم في المنافقين الذي يسعون إلى تقويض الدولة المسلمة ، وكانت لهم كثرة عددية ، وامتدادات اجتماعية في أمة تعظم شأن القبيلة ، ولهم علاقات منتظمة مع اليهود ؛ لتحقيق أغراض الطرفين بإلقاء الشبه والإرجاف والتخذيل ، ولا أدل على هذا التأثير والحضور من نزول سورة بكاملها جاءت لتبين طرائقهم وتعري مناهجهم ؛ حتى سُميت بالفاضحة ، ومع هذا كله ظلت الأسماء سراً ، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يجري على المنافقين أحكام الإسلام الظاهرة .
نعم قد نُهي عن الاستغفار لهم ، وعن الصلاة على من مات منهم ، ولكن هذا المنهج العام في التعامل مع المنافقين لم ينسخ ، ولم ينه عنه .
فإن قيل : كان البيان العام من الكتاب والسنة ببيان العلم ورد الشبهة والنقض على المخالف في عهده صلى الله عليه وسلم كافياً عن إسقاط الأشخاص ، وهذا لا يتحقق في زماننا بسبب ضعف البيان العام !
فيقال : قد أقررنا بكفاية البيان العام عن التعرية ، وأما تقصيرنا في البيان فلا يجوز أن نجمع إليه خطأ منهجياً آخر باتباع سياسات تخالف منهج الكتاب والسنة .



وإذا أردت أن تقرر أصلاً من الشريعة في التعامل مع أصحاب المناهج المنحرفة فإنها لم تأت بدليل قاطع بترك التعرية الشخصية مطلقاً ، ولا باعتبارها مطلقاً ، وحين ظن المختلفون وجود أحد الدليلين وقع الخلاف ، والتحقيق في هذا أن القضية منوطة بمقتضى أحكام السياسة الشرعية ، وقواعد المصالح والمفاسد ، وهذه الأحكام ونلك القواعد تقتضي أن يكون الأصل هو ما ذكرناه ، وما عداه استثناء قد يوجد سببه وقد لا يوجد .

وفهم هذا الأصل واعتباره يجعل خلاف الناس بعد ذلك إنما هو في تحقيق المناط لا في تخريجه ؛أي : هل وجدت مصلحة تعريته أولا ؛ فإذا سُلِّم هذا فالخلاف في تحقيقه مسألة يسيرة جداً ؛ لأنها مبنية على تحقق المصلحة أو عدمها ، وإمكان الوصول إلى هذا سهل قريب من خلال استجلاء العبر من التاريخ القديم والمعاصر وإجراء الدراسات الكاشفة .
أما إذا فُهم أنها دلالة نصية من الشريعة لا تختلف بها الأحوال ولا الأشخاص ولا الأمكنة ولا نتائج دراسة المصالح والمفاسد فهنا قد يصل المرء إلى تعطيل مقاصد الشريعة في العلاقة مع المخالف : من احتوائه أو تقليل شره ، أو تحقيق مصالح أكبر من مفسدة ترك الكلام في شخصه ؛ فيحتاج الباحث إلى أن يعيد النظر في تأصيل المسألة .



ولا يشكل على هذا عند البعض إلا شدة نكير السلف من التابعين ومن بعدهم على أهل البدع ، وهجرهم إياهم والتحذير منهم ، وهذا غير مشكل ؛ فإذا قررنا هنا أن هذه المسألة مبناها على اعتبار المصالح والمفاسد التي تُبنى على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال ، وأن الهجر والتضييق والتسمية كانت نافعة في ذلك الوقت ؛ لكثرة أهل السنة وقوتهم ، وضعف أهل البدع ؛ فليس لأحد أن يدعي أن السلف جعلوا ذلك قاعدة لا تنخرم .



ومن مفاسد التعرية ـ التي لا تعتبر القواعد ـ :
-قطعُ الطريق على أهل المنهج الحق لإصلاح المتبوع والتابع من أهل البدع ، أو تقليل شرهما .
-أن ذلك يحول أنظار المدعوين من تأمل الفكرة إلى تأمل حال الشخص ، وهل ما يقوله عنه صحيح أم لا ؟ وهنا تضيع الفكرة نفسها ، ولا يحصل مقصود الشريعة في إظهار الحق وإزهاق الباطل .

وليس للمسائل المستثناة التي يكون التنفير من المخالف فيها جائزاً ، أو ممنوعاً ضابط محدد ينتظم جميع الأحوال ؛ إلا قواعد المصالح والمفاسد التي يُنظر فيها إلى اعتبارات كثيرة ؛ كدرجة الخلاف قوة وضعفاً والزمان والمكان والأشخاص وحال المُنْكِر نفسه ، وحال المخالف وأتباعه ، وأثر تعريته على الناس سلباً أو إيجاباً ، وقوة أهل الحق وضعفهم .
ومما يضبط هذه المسألة أن يوكل هذا إلى علماء السنة الراسخين ، وأن لا يتصدى لها غيرهم إلا بمشورة أولئك العلماء ؛ لا أن يستبد الواحد من طلاب العلم بذلك ، لما له من أثر خطير في شق الصف، وتمزيق الأمة ، وتضييع المصالح والحقوق .

والمعنى المرفوض هنا هو أن يغير المرء معتقده لأجله ، أو أن يسكت عن الحق مع قدرته على بيانه ؛ دون قدح في شخص أو مؤسسة .
أما الثبات على الأمر والتبيين بالحسنى مع الاحتفاظ بحقوق الآخرين فهو المنهج الذي قادت الأدلة إلى صحته واعتباره.د



4-أن لا يهجره إلا في موضعه :
يقال في الهجر ما قيل في التنفير والتعرية بأنه لا يُشرع إلا لمصلحة ، أو درء مفسدة ، يكونان أعظم من فسدة قطيعة مسلم .
وذلك مبني على أصل عظيم ، وهو بقاء حقوق الإسلام حتى يخرجنا منها يقين مصلحة الهجر ، أو يقين مفسدة التواصل .
أما قول المخالف وفعله سواء كانا مبنيين على اجتهاد سائغ ، أو تقليد جائز ، أو على غير ذلك من المخالفة للقطعيات ؛ فإن بيان دين الله وتعليم العلم والدعوة إليه من أعظم القرب وأحسن الأعمال ؛ فكيف إذا كان هذا البيان دعوةً إلى أصل ، أو توضيحاً لضروري ؛ فإنه من أفضل الأعمال وأوجبها ، وإنما قد يُراعى تأخير بيان بعض الأمور رعاية لمصلحة أعظم ، أو مفسدة أشد ؛ لمعنى في المخالف أو في غيره .

وهذا هو الذي تميز به أهل السنة والجماعة وهو أنهم جمعوا بين طرح منهجهم بجلاء لا يجاملون فيه أحداً من بيان مسائل الدين الكبار ، ومحاربة البدع قولاً وفعلاً ، وبين معاملة أشخاص المخالفين بما تقضيه الشريعة ، ويحقق مقاصدها بقواعد المصالح والمفاسد وأسس العدل والإنصاف ، والرحمة الإحسان ، وعلى ذلك مضى الأئمة



5-أن يتعاون معه على وجوه البر إذا غلبت مصلحة ذلك :

حيث تقرر أن العلاقة مع المخالفين ـ بما فيهم المبتدعة ـ مبناها على قواعد المصالح والمفاسد فإن هذا لا يقتصر على العلاقة السلبية وهي الهجر أو عدمه ، وإنما يتجاوزه إلى العلاقة الإيجابية البناءة ، وهي التعاون معه على وجوه البر ؛ بما لا يؤثر على القاعدة الكلية في اعتبار الموازنة بين المصالح والمفاسد ، وهذه ليست خاصة بالمبتدع ، وإنما تنتظم كل مخالف .

وأخطأ قوم فجعلوا مسألة التعاون مع المبتدع ممنوعة في كل حال على كل شخص ، بناء على اعتقادهم أن سبب المنع نص يحرم ذلك ؛ كنص تحريم الكذب والغيبة ، والصحيح ما تقرر في هذه الورقة من أن ذلك مبني على السياسة الشرعية وقاعدة المصالح والمفاسد ؛ فما أنتجه إعمالها وجب العمل به والمصير إليه ، ولا يختص التعامل مع المبتدع بذلك ؛ بل هو شامل لكل ما لم يرد فيه نص بالمنع أو الإباحة ، وحصل فيه التعارض بين المصالح والمفاسد عند العمل به.

وأكثر ما يشتبه هنا ما يراه البعض من أن في التعاون مع المخالف تزكية له ، وإضفاء للشرعية على أعماله ؛ مما ينتج دعما لبدعته وتكثيرا لسواده . وهذا قد يكون حقا في بعض الأحيان ، ولكن لنحذر هنا أعظم الحذر من الأوهام التي تغذيها المعاني الترابية من حزبية أو إقليمية أو تاريخية رسخها ترك النظر والاستدلال ؛ فهو أعظم ما يحجب عن رؤية الحقيقة في هذه المسائل ؛ لاسيما وأنها مسائل تقديرية .

ومن الأدلة على مشروعية التعاون معه ودعمه في ضوء تلك القاعدة :-دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين إلى القتال مع المؤمنين ، حيث خلدها القرآن على لسان عبدالله بن حرام رضي الله عنه حين قال : " تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ".
-رواية المحدثين عن أهل البدع ، وقد كان الأئمة ؛ كالبخاري ومسلم وغيرهما يروون عنهم دون أن يجعل وصف المبتدع قرينا لاسمه . وكذلك ما قرره العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية والأحكام السلطانية من جواز شهادة أهل البدع في الحقوق .
-ومن ذلك ترجمة علماء أهل السنة لكثير ممن وقع في بدعة تحريف ، مع ثنائهم على أكثرهم ، وفي هذا تقديم لهم إلى الناس .
-ومن ذلك شرح كتبهم وفي هذا أعظم التقديم والتزكية ؛ كشرح العلامة ابن القيم لكتاب الإمام أبي عبدالله الهروي ، وثناؤه عليه وتسميته له بشيخ الإسلام ،
-ومن ذلك تتلمذ علماء السنة على أمثال أولئك العلماء وعدهم في شيوخهم ، وقبول طلاب المدارس والاتجاهات الأخرى في حلقهم ، وعدهم في تلاميذهم .
-ومن ذلك تداول كتبهم بيعا وشراء وإهداء ونسخا رغم ما فيها من الأخطاء في أبواب كثيرة ، ومنها أبواب الأسماء والصفات ، وغيرها .
-وقد جاهد العلماء جهاد الطلب مع أئمة البدع المغلظة ؛ كالجهمية.



خامسا: قواعد الأخلاق :

1-أن لا يظهر به شماتة ، أو تأل على الله
2-أن يتواضع للحق والخلق وأن يزري على نفسه
3-أن يصبر على أذاه
4-أن يعامله برفق ولين
5-أن ينصره على من بغى عليه

فلا يعني كونه مخالفاً أو مبتدعاً أن يخذل في الموقع الذي تجب فيه نصرته ، وهو كل أمر عدا عونه المباشر في بدعته .



6-أن يثنى على ما أحسن فيه ، ولا يلزم من ذلك ذكر مثالبه :
إن من تمام العدل أن يقل للمحسن في إحسانه أحسنت ، وفي إساءته أسئت ، فإن اجتمع فيه
الأمر : ذُم بقد ما فيه من إساءه ، وأُثني عليه بقدر ما فيه من إحسان .

7-أن لا يسميه إلا بما يرتضيه من الأسماء

وهذا مثال على طهارة القلم وعفة اللسان :
ألف الإمام ابن تيمية كتابه العظيم "درء تعارض العقل والنقل" وهو مخصص للرد على الأشاعرة ، وعلى رأسهم أبو عبد الله فخر الدين الرزاي رحمه الله ، وقد ذكره في 261 موضعا لم يصفه فيها بلفظ شائن ، ولا عبارة مقذعة ، ولا سماه بالمبتدع .
وذكر ابن تيمية في هذا الكتاب كلمتي المبتدع والمبتدعة في ثلاثة وأربعين موضعاً ، وكلها دون استثناء وصف للاتجاهات والأفكار ، وليس الأشخاص أو الجماعات المعينة .

والحمد لله رب العامين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.





مصدر الموضوع

-:مواضيع أخرى تفيدك:-

Share

رد مع اقتباس
3 أعضاء قالوا شكراً لـ ابو العتاهية على المشاركة المفيدة: