وأنا من باب النصيحة أذكر هذه الرسالة التي وجهت إلى أحد الدعاة (1)، لعلها أن تجد آذاناً صاغيةً تلبي نداء كثير من البنات المسلمات اللاتي لا يجدن حيلة ولا يهتدين سبيلا.
تقول الرسالة:
فضيلة الشيخ/.......حفظه الله، وسدد خطاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد:
فقد سمعت محاضرتك "رسالة من الفقراء"، وهذه الرسالة كتبتها إليك الأخت الغيورة، بل المقهورة من ظلم واستبداد والدها، فحركت المحاضرة شجوني التي ما سكنت، وجراحي التي أبداً ما التأمت، وحزني المضني القاتل؛ فأمسكت قلمي، ومداده دم قلب ممزق، ودمع عينيَّ الباكية، وكأنّما بصيص من الأمل يتراءى لي من بعيد، وإلاّ فوالله ثم والله والله الذي لا إله إلاّ هو إنّني قد يئست من كل شيء، وكل أحد من أهل الدين والدعاة والصالحين، وأهل الخير والمروءة إلاّ من رحمة الله تعالى فهي الشيء الوحيد الذي يعزيني، فأنا واثقة موقنة مؤمنة برحمة الله {.. إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة الأعراف: 56].
ذلك أنّني يا شيخي الفاضل عشت مأساة، ومازلت أعيشها، وأسال الله الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، أن يرفع عني عذابه، إن كان هذا عذاباً أوقعه عليَّ الله، ويربط على قلبي إن كان امتحاناً وابتلاءً، ويرحم ذلي وفقري إنّه سميع مجيب.
أيّها الداعية الكريم:
إليك مأساتي وأيّامي المظلمة السوداء.
إليك الظلم والقهر الذي أعيشه.
إليك معاناتي أنا وأخواتي في الله، وإن كان لكل منّا مأساة، لكنها في النهاية تصب في قالب واحد، وهي أنّنا بلا أزواج، بلا أطفال، أحياء بلا قلوب، هياكل قتلها الألم والحزن، وسأطيل عليك، ووقتك ثمين، لكن تحمل فقد تحملت أعباء أعظم من هذه الرسالة الثقيلة الظل.
أعمل معلمة، وفي آخر كل شهر يفتح (والدي) يده، ويقول: "ادفعي جزية بنوّتك وإسلامك، فأنت ومالك لأبيك".
بل الوالد كان يعلم منذ أن كنت طالبة أنّ محصولي سوف يصب عنده، وكلما طرق بابي طارق قال: "ليس بعد" (2).
وأقنعه كثير من أهل الخير ولكن ما اقتنع، فيذهب هذا الخاطب في حال سبيله بعدما يقول له الوالد: "هي لا تريدك هي لا تقبلك"، هذا جواب الوالد. وأمّا من كان أطول نفساً من هذا الخاطب، ويستطيع الصبر والمعاودة فسوف ندخل باب المديح الحار، فيقول له والدي: "البنت حادة الطبع، وغير جميلة".
وباعتباري شابة أريد الزوج والأسرة والمنزل الهادئ السعيد، وهكذا ركّبنا الله تعالى وأريد طفلاً يمنحني الأمومة، يطغى على كل مشاعري، فأوسّط الأعمام والأجداد، ولكن الأعمام يخافون، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، والأجداد يرد عليهم برد يخرس ألسنتهم، يقول لهم أبي: "هل أشتري لها زوجاً؟"
وهم لا يدرون أنّه تقدم لي العشرات من الخطاب، ثم يقول أبي: "لا يريدها أحد من النّاس"، وهو يريد راتبي ومصروفي ودخلي.
ثم تقول:
شابة في مقتبل العمر، لا أم، ولا أخ، كلهم فروا من منزل أبي لسوء معاملته مع إخواني، وعندي زوجات أب، كالسيدات، لا يضربن إلاّ باللّي..
هذه الفتاة عمرها يضيع، وشبابها يقتل، وحتى قرشها والرزق الذي من الله يؤكل، ثم ماذا؟!
أنا في بلاد إسلامية.
معنا علماء ودعاة.
أين هم عن هذه المعاناة؟
حدثت أبي، توسلت إليه، وأخيراً هددته إن لم يزوجني.....ثم ماذا كان رده؟!
كنت أميل إلى الإلتزام، وأصارع نفسي، وأجاهد الهوى والشيطان، ونصرني الله على كثير من المعاصي.
فقد تركت الغناء انتصاراً، وداومت على السنن والرواتب والوتر، انتصرت أكبر مواطن يعلمها الله، وسوف يحفظها الله لي.
وأخيراً أحضر أحد عمومتي رجلاً من طرفه فزوجني والدي وأنا مكرهة؛ لأنّ هذا الرجل لا يخاف الله.
ولكن والدي لم يكفّ عن نفث سمومه حولي...
يقول: "لا تعطي راتبك زوجك وأعطنيه..."
تقول:
والزوج ـ هداه الله ـ فيه من القصور في الدين، وضعفه، ما الله به عليم.
وبدأت أحاول معه لعل الله يهديه، فكان يحدث بيننا ما يحدث من شجار، وخاصة عند صلاة الجماعة..
ثم هو يسافر إلى الخارج ويرتكب الكبائر.
وقد ذهب الزوج الحكيم إلى الوالد الرحوم العطوف يشكوني إليه، فوقع الفأس في الرأس، ثم قال والدي له: "هذا طبعها، لسانها طويل، بذيء، هاتها عندي أربيها، أمها ما ربتها‼"
قالت:
وأنا أصبر على الزوج، وأدعوه إلى الهداية، وأتحمل الضرب منه والأسى، لأنّه إذا أعادني إلى والدي كان أدهى أمراً (3).
قالت:
ومن ورائه من أهل بيته ورفاقه السيئين من يعبئ رأسه.
لكن أنا تركت زوجي فماذا أفعل؟ لمن أذهب؟
أخيراً بعدما كان الزوج كالعسل المصفى بالنسبة لما سوف أحصله ـ وإلاّ فهو كالزقوم، أصبح كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ـ صار يكرهني، ويرتكب المعاصي ليغضبني، ويحاول أن يضيع ما عندي من دين كي أفرّ وأهرب، فإذا قلت له اتّق الله، قال: إذا أعجبك، أو أطلبي الطلاق.
تقول: وطلبت الطلاق، فقال: ردّي إليَّ مهري، وما مهر له عندي، لقد أذهب شبابي، وصبوتي، وبيتي، وخلقي وحيائي.
وقد أسهرني وأزعجني، فجمعت من هنا، واستدنت من هناك، ورددت إليه مهره، لا حرمه الله جمره في جهنم.
فأي مهر له، وأي حق له بعد هذه الأيّام الطويلة من الأسى واللوعة؟!!
تقول:
وحملت ثيابي وهربت إلى منزل والدي، فشنّ والدي عليَّ حرباً هوجاء ضروساَ لا هوادة فيها، وسفهني، وهددني بالقتل، وبالعار، وبالشنار، فقلت: حسبي الله ونعم الوكيل.
والآن يخطبني هذا وذاك، فإمّا أن أتزوج سكيراً فاسذاً أو عجوزاً في الثمانين أو السبعين‼
فبالله أي عدل هذا؟!
أي إسلام هذا؟!
أي رحمة إنسانية هذه؟!
شكوت إلى الله، وبكيت أدبار الصلوات، ورفعت دعائي.
فهل من النّاس رحيم ينقذني من هذا الوضع المأساوي الذي أعيشه؟!
وإذا ذهب رجل إلى أبي سبني وعابني، فإن لم يقتنع الرجل بهذا الكلام أخرج له البرهان والدليل القاطع، وقال: "لا تصلح، جرّبها رجل قبلك فأفسدت عليه بيته".
أنا أفسد البيوت؟!!
نعم سيحطم مستقبلي، فأنا قد تدمرت، وقد عصيت وقلت: لا للذل، ولا للعبودية للخلق.
هربت إلى أمي مطلقة وهي مطلقة، ورفضت أن أعطيه راتبي، فجنّ جنونه (4)، ثم ذهب يشكوني إلى إدارة التعليم، ووالله ثم والله ثم والله لقد كلمني مدير التعليم في منطقتي، وقال: لقد حضر والد وتهدد وتوعد بالويل والثبو، وطلب منّا فصلك، فقال له المدير: لا صلاحية لنا بذلك، فقال: "سأذهب إلى من هو فوقكم، إلى الرياض". قالوا: واعلمي أنّه إذا ذهب إلى هناك حصل مراده، وهو إن تمكن من فصلي لم أجد دخلا أعيش به، وأساعد أمي وإخوتي، وأكف نفسي عن منّة النّاس، ودوائر الأيّام.
ثم قالت:
ماذا تقول أيّها الشيخ الفاضل؟
ماذا ترى؟ إذا تزوجت شاباً فاسداً كسابقه ضاع ديني ودنياي وآخرتي، وإن تزوجت عجوزاً فأي شرع يجيز لفتاة في الخامسة والعشرين أن تتزوج رجلاً في السبعين؟!
فماذا أفعل؟!
وما ذنبي؟!
وما جريرتي؟!
نعم شيخي الفاضل، يعلم الله، ويشهد الله أنّنا نحب الدعاة والمشايخ والعلماء والقضاة، ولكن ما موقفهم من هؤلاء الآباء الظلمة المجرمين؟
تقول:
ولكن عندما تلتزم الواحدة منّا، وتسير على طريق الهدى تجد من الضغوط، ما الله به عليم، حتى الزوج الملتزم لا تجده، بل لا تحلم به.
وأنا إن تزوجت رجلاً فاسداً فمن سيربي أبنائي؟ ومن سيكون القدوة لي؟
من سيرد عليّ آخرتي التي هي أعظم شيء عندي؟ ثم كيف سيكون حال المجتمع؟!
شباب فاسد ضائع...
قل لي بالله عليك، أين الشاب الملتزم الذي خطب فتاة فرفض والدها لطمع في راتبها، وهذا كثير عند الموظفات، أو في مهر يتاجر به، أو تتزوج عجوزا، أو فاسقاً تاركاً للصلوات، فاعلاً للسيئات، متناولاً للمخدرات.
تقول:
أين نذهب؟!
أنذهب للشيخ أو القاضي أو رئيس المحكمة، ونطلب منه أن يزوج الفتيات اللواتي في البيوت؟
لا، بل هؤلاء الشباب سينفض يده من الموضوع نفضا.
وأنتم تطلبون من الفتاة أن لا ترد خاطباً ملتزماً، لكن الآباء هم المشكلة.
وما هناك امرأة ملتزمة تخاف الله وترجو وعده إلاّ وتجيب للشاب الملتزم إذا تقدم لخطبتها.
ثم إنّ هناك شابات ملتزمات.
والله إنّ في البيت الواحد ستاً أو سبعاً أو أقل أو أكثر... ما بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين ينتظرن رجلاً ملتزماً.
إنّك قلت ـ أيّها الشيخ الفاضل ـ إنّ هناك شبابا لا يجدون مهراً يتزوجون به لغلاء المهور، فأين المهور الذي تتحدثون عنه؟! نحن نريد أزواجاً بخاتم من فضة، بمهر يسير.
ثم تقول:
أريد أحدهم، وأنا سأعطيه المهر، هذا إذا وصلتك رسالتي هذه قبل أن أكون دفنت في منزلي، ذلك المنزل البائس، المنزل الحزين الذي أعيش فيه هذه المعاناة.
إخوتي يريدون أن أتزوج.. من أتزوج؟.. لأنّهم لا يخافون الله، لا يريدون من يخاف الله، بل يريدون الفسقة.
ثم قالت:
الملتزمات الطاهرات العفيفات اللواتي ينتظرن عباد الله الصالحين، ويتشوقن إلى الأمومة ينتظرن هؤلاء.
فأين هم؟ وأين شاب صالح سيقدم على أبي ويصم أذنيه عما يقول، ويعمي عينيه عما يعرضه عليه أبي من جرح مشاعري، ومن الإساءة إليّّ، ثم يقول: "إلى منزله على الرحب والسعة!!"
أنا مستعدة أن أبني بيتاً إسلامياً على تقوى الله ورضوانه، وأهيئ الطعام والسكن، وأربي أبنائي، وأعمل لأعلّم أبنائي وبناتي الكتاب والسنة. أنا أريد أن أكون من إماء الله الصالحات.
تقول:
هذه أدمعي قد سطرتها لك.
لا أشكو إلاّ إلى الله، فشكواي إلى الله تعالى وحده، وأفوّض أمري إلى الله.
ولكن لتعلم وليعلم من أحبهم في الله من مشايخي الأفاضل، والدعاة، والقضاة ـ حفظهم الله وسدد خطاهم ـ.