الدعوة إلى الله تحتاج إلى علم أولاً.
قال تعالى:
{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي }
يوسف108
ثم تحتاج إلى حكمة ؛ وهي وضع الأمور في مكانها ـ الشدة مكان الشدة واللين مكان اللين ـ قال تعالى:
{يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }البقرة269
فعلى المؤمن أن يلين في الوقت المناسب للين ، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة ، لأن اللين في محل الشدة ضعف ، وخور ، والشدة في محل اللين حمق ، وخرق.
وتحتاج إلى اللين والرفق، قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}النحل125
يُلاحظ في هذه الآية ثلاثة أمور: الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالحسنى، وليس في واحدة من هذه الثلاثة الشدة و الغلظة، بل كلها تدل على اللين و الرفق و المداراة و الرحمة.
ونجد أيضاً:
_____________
أن الناس ثلاثة أصناف: العلماء العقلاء الذين تكون دعوتهم بالحكمة و العلم و تبليغ الحجة .
و الصنف الثاني: أصحاب القلوب الطيبة المتذكرة، الذين أبعدهم الجهل أو الغفلة عن طريق الله، فهؤلاء يتم دعوتهم بالموعظة الحسنة التي هي التذكير بالترغيب و الترهيب و الوعظ.
و الصنف الثالث: وهو؛ من عنده شبهة و نوع علم أو جهل مركب، فهؤلاء يتم دعوتهم بالمجادلة بالتي هي أحسن، بنقض قواعدهم، و بيان عوار مذهبهم، و قرع الحجة بالحجة.
*فلا الناس كلهم يحتاجون إلى الحكمة، و لا الناس كلهم يحتاجون إلى الموعظة، ولا الناس كلهم يحتاجون إلى الجدال بالتي هي أحسن، و إن كان الغالب منهم بحاجة إلى الوعظ لأن الغالب هم العوام.
وقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بلين الجانب للمؤمنين ، في قوله تعالى: { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] ،
وقوله عز وجل: { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 215 ] .
وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِك }
[ آل عمران : 159 ] الآية.
وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين ، والشدة على الكافرين ، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم ، بقوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُم } [ الفتح : 29 ] .
ومن صفات المؤمنين: الذل للمؤمنين ، والتواضع لهم ولين الجانب ، والقسوة والشدة على الكافرين ، وهذا من كمال صفات المؤمنين،
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }المائدة54
ودعوة الناس وخاصة العوام؛ تحتاج العلم، واللين، والحكمة، وانبساط الوجه، والنزول معهم لمستوياتهم العقلية والذهنية والعلمية؛ المختلفة.
فباللين والكلمة الطيبة وبشاشة الوجه يستطيع الداعية أن يستقطب الناس ويشدهم إليه، واستماع ما عنده.
قال القرطبي في" تفسيره" (2/16): "فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ووجه منبسطا طلقا مع البر والفاجر و السني و المبتدع، مداهنة أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه،
لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً }طه44، فالقائل ليس بأفضل من موسى و هارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، و قد أمرهما الله تعالى باللين معه.
وقال طلحة بن عمر قلت لعطاء:" إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة و أنا رجل فيّ حدة فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل،
يقول الله تعالى:{ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}البقرة83 ،
فدخل في هذه الآية اليهود و النصارى فكيف بالحنيفي؟". اهـ.
و الأمر بالرفق و اللين ورد في كثير من آيات القرآن مما يدل على أنه الأصل في معاملة الناس، ـ و أن الشدة و الغلظة استثناء له موضعه وشروطه الدقيقة ـ، فمنها ـ أي: أن الرفق هو الأصل في المعاملة:
قوله تعالى:{ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}"الفرقان".
قال ابن القيم في "مدارج السالكين"{2/327}:" أي سكينة ووقارا متواضعين غير أشرين ولا مرحين ولا متكبرين، قال الحسن: علماء رحماء، وقال محمد بن الحنفية: أصحاب و قار و عفة لا يسفهون و إن سفه عليهم حلموا، والهَون بالفتح في اللغة: الرفق و اللين، و الهُون بالضم:الهوان، فالمفتوح منه صفة أهل الإيمان، و المضموم صفة أهل الكفران، وجزاؤهم من الله النيران". اهـ.