قصة الصياد
أبحر الزورق فى الخليج .. ومنذ اندلعت نيران الحرب "وشعبان" لايبـعد فى الليـل . كان يصطاد قريبـا من الساحل متحاشيا الموج ما أمكن ، وكانت الظلمة شـديدة ولكن الريح كانت رخـاء .. فأرسل الزورق على سننه .
وأخذ يرمى الشبكة وهو جالس فى المؤخـرة .. وكان يمنى النفس بصيد كثير قبل أن ينتصف الليل .. فلم يكن منذ نشب القتـال يتأخر عن زوجته وابنائه الصـغار . كانت صورهم لا تبعد عن ذهنه أبدا وهو فى قلب البحر .. انهم امتداد له وحياة ..
خلف مدينة السويس وراءه غارقة فى الظلام ولا يبدو من بيوتها البيضاء ومآذنها وأعمدة مصابيحها .. إلا ظلال فى العتمة الشاحبة .
وبدا شاطئا القناة من بعيد فى سواد الأبنوس .. وغابت الأشجار التى على الشط الغربى من بور توفيق فى الظلمة وانطمست معالمها ..
وأخذ شعبان يحرك الزورق بلين .. ولجة الماء دكناء ساكنة وغيـاهب الليـل تتساقط فى كل ساعة تنقضى وتصبح كريش الغراب .
وفجأة أحس أن الشبكة أمسكت بشىء .. فقد اهتزت فى يده بعنف .. وخشى أن يمزق الصيد الشبكة لضـخامته وقوته .. فأرخى الحبـل حيث جرته السمكة واتجه إلى الشرق .. تسـحب فى لين وراء السمكة الكبيرة .. التى أحس بها تنتفض فى عنـف وخشى أن تكون من صنف القرش فيذهب كل تعبه هباء وتصبح الليلة لا نفع منها ولا جدوى فيها .. تصبح ليلة من ليالى النحس .
واشتد الجذب فأرخى الحبل .. أرخى وهو يحس برجفان قلبه وظـل يطامن حتى وجـد نفسه يقترب من شط القناة الشرقى ويسير بحذائه فى هوادة ولين ، حابسا ما أمكن صوت المجاديف .
كان يعرف أن المعركة فى هذا الساحل وأن القتال يدور على اشده هناك .. وأخـذ يسمع بوضوح صوت القنـابل التى تلقيها الطائرات وصوت المدافع .
كان شعبان يعيش فى قلب المعركة بكل حسه ووجدانه .. لم تكن بعيدة عنه أبدا فقد بدأت يوم الإثنين .. واليوم هو الأربعاء ثالث أيام المعركة ، والقتال يدور فى عنف وكان يتبعها بحواسه وإذا سمع نبأ سيئا ثار وعض على نواجذه ولم تمنعه الحرب عن السعى وراء معاشه ولكنه كان يخرج فى الليل مسلحا ببندقية سريعة الطلقات يتقى بها الشر أينما كان ..
وفى اللحظة التى أحس فيها بغريزته كصياد أن الشبكة صادت شيئا ضخما لم يحدث له فى حياته .. انتابته نشوة عارمة .. وكان لايود أن يفلت منه هذا الصيد أبدا .. فلما جذبته شرقا طاوعها واتجه بالزورق إلى الشاطىء الشرقى .. كان لايريد أن يضيع منه الصيد بعد هذه المشقة .
وأخذ يسحب الشبكة بيد الصياد الماهر .. وقد خيم السكون فجأة وخيل إليه أن الحرب قد توقفت .
خيم سكون ذهل له .. وخيل إليه فى قلب الظلام أن المدينة ستتلألأ فى هذه الليلة كما كانت قبل الأيام الثلاثة .. ستتلألأ كما كانت من قبل وتزهو وترقص قناديلها كلما مايلتها الريح ..
***
وعندما اقتربت الشبكة من القارب ورأى بعينيه السمكة الكبيرة التى اصطادها شعر بفرحة .. إنها ليلة من ليالى الخير .
وأخذ وهو نشوان يخـرج السمكة من الشبكة ويضـعها فى بطن القارب .. إنها ضخمة بشكل مهول ، ومن أكبر الأسماك التى اصطادها فى حياته كصياد .
***
وفجأة سمع أزيزا عنيفا وحلقت طائرة فوق رأسه .. فاضطرب أولا ولكنه تماسك وحدق فى الظلام فبصر بأجسام طويلة تسقط من الطائرة فى مجرى القناة .
ودوت المدافع المضادة وتكهرب الجو .. واستمر القصف مدة .. ثم سكن ..
وظل الصياد يتحرك فى المياه الهادئة وهو قريب من الساحل ، وسمع فجأة اشتباكا على الأرض قريبا منه وطلقات رصاص .
فلما اقترب بالقارب من الموقع والظلام يخيم على البحر واليـابسة .. بصر بجندى مصرى من جنود السواحل مشتبك مع دورية اسرائيلية فى قتال رهيب .. ومع أنهم أكثر منه عددا ولكنه ظل صامدا وقتل منهم واحدا وجرح آخر .. وكان منبطحا وراء كثيب من الرمل .. والرصاص يتطاير حوله .
ودفع الصياد الزورق إلى الشاطىء ونزل منه سريعا واقترب من الموقع زاحفا ببندقيته حتى كمن بجانب الجندى المصرى وأخذ يشد أزره على القتال والصمود وكان الجندى قد جرح جرحا بليغا فى هذه اللحظة ولكنه ظل مع ذلك يطلق النار ثم سكتت بندقيته .
وظل الصياد يقاتل وحده حتى سكتت كل بنادق العدو .. وخيم السكون وظل فى مكمنه قابعا بجوار رفيقه مدة ثم رأى أن يغير المكان .. فنهض وتلفت حواليه ليتخير الموقع الذى سينتقل إليه .. وهنا سمع انفجارا رهيبا فى البحر وطار زورقه وتمزقت شباكه ولم يحزن كثيرا .
وتقدم حتى اقترب من جندى السواحل الجريح .. كان لايزال ينـزف دمه .. وغسل جراحه وحمله على ظهره وسار به فى الليل محاذرا متوقعـا فى كل خطوة أن يقـع فى أيدى الأعـداء الذين انتشروا فى الصحراء ، وكان الرصاص يتطاير حواليه وخلفه .
سكن الليل بعد القذف واللهب المنبعث من الأرض والسماء .. سكن الليل .. سكون الموت .. وكلما سار الصياد بالجنـدى خطوات طلب منه هذا أن يضعه على الأرض ويمضى لسبيله وإلا سيقع الإثنان فى أيدى الاعداء .. ولكن الصياد كان يرفض بإصرار ويتصبب عرقا .. وهو يسير باذلا من الجهد فوق كل طاقات البشر .
كان ينظر إلى الشاطىء الغربى والليل قارب على منتصفه والظلام يخيم ولا مغيث ..
قد تمر عليهما دوريات الأعداء وتمزقهما بالرصاص ..
وظل يسير وهو يحمل الجريح والريح تصفر فى الصحراء ..
كان شعبان يحس بثقل الجسم على عاتقه وبتعبه الشديد وانقطاع انفاسه ولكنه كان لايريد أن يضع الجريح على الأرض أو أن يستريح خشـــية أن يعـطل ذلك إسـعافه وإنقــاذ حياته .. ولأول مرة يعرف قيمة النفس البشرية والحرص على بقائها وبذل كل سبيل لإحيائها .
لكم خرج فى الليل يصطاد الحيتان ، ولكم قاسى فى الليالى الحالكة ، ولكم خاطر بحياته ليأتى بطعام أولاده .. ولكم شعر بالفرحة بعد الجهد والعرق ..
ولكنه لم يحس بمثل السعادة التى يحس بها الآن .. وهو يحمل جنديا جريحا .. قاتل ببسالة ..
ولم يكن وهو يحمله يفكر فى تعبه قدر تفكيره فى انقاذ روحه .
ولأول مرة فى حياته يحس بأنه وحدة واحدة فى عالم كبير .. وأنه جزء من كل .. وأن التعاون عضد الحياة ..
***
وطال السير فى الليل والظلام .. وبلغ المرحلة التى أحس بعدها الصياد بأنه لا يستطيع أن يتقدم خطوة أخرى .. وأنه آن له أن يلقى بالحمل على الرمال ..
ويتخفف هو من ملابسه .. وقد يجد شيئا يستعين به على أن يعبر القناة إلى بور توفيق ، أما أن يربط حياته بهذا المخلوق الميت .. فذلك فناء وسيموتان معا .. أى سلسلة ربطتـه به ، لابد من فكها ..
وتمهل جدا .. وفى ظل كومة من الرمال وسد الجريح بعناية كما يوسد الموتى تماما ، وجعل وجهه للقبلة وقرأ الفاتحة فى صوت خافت .. ثم القى عليه نظرة أخيرة وانطلق فى الرمال .
وكان الظلام يلف كل شىء فى شملته .. والريح تسفى الرمال ومياه قناة السويس ساكنة على شماله .. وغياهب الظلام تزداد كثافة ..
وسمع طلقات النار مرة أخرى
ولكنه كان مطمئنا بأنه سينجو وسيعود إلى بيته كما خرج منه .. ولكن كيف يعود .. ويترك رجلا من وطنه ينزف دما .. ولا تزال فيه الروح .. كيف يتركه هناك وحده .. أحس بأن قدميه تغوصان فى الرمال ومسح عرقه ..
ورجع الى الجريح فحمله مرة أخرى وسار به قرب الشاطىء .
***
وفى وضح الفجر .. رآه صياد آخر عن بعد ولوح له شعبان بيده فحول الصياد الزورق إليهما والتقطهما .. وظل شعبان يحكى ما جرى له للصياد الآخر ويحكى ..