رد: فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف
المبحث الثالث
الستر وعدم الإشاعة
الأصل في هذا قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : "هذا تأديب لمن سمع شيئاً من الكلام السيئ فقام بذهنه شيء منه وتكلم به فلا يشيعه ولا يذيعه"
وقال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي : "فإذا كان هذا الوعيد لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة واستحلاء ذلك بالقلب فكيف بما هو أعظم من ذلك من إظهاره ونقله ، وسواء كانت الفاحشة صادرة أو غير صادرة" .
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على الستر فقال : "ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة" .
وإن من لوازم الستر :
1- بيان الأخطاء دون التعرف للأشخاص ما أمكن ذلك .
فإن الهدف من بيان الأخطاء هو إعلاء كلمة الله وزوال المفاسد ، وهذا يتحقق في الغالب دون ذكر للأسماء .
والمتأمل في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التنبيه على الأخطاء يجد أنه عليه الصلاة والسلام في معظم أحواله يكتفي بالبيان العالم كقوله : "ما بال أقوام ، أو ما بال رجال" ونحو ذلك ، ومن ذلك ما ورد في قصة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم ليسألوا عن عبادته فقال أحدهم : أما أنا فأصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ، وقال الثالث : أما أنا فلا أتزوج النساء ، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ما بال أقوام يقولون كذا وكذا" .
ومن ذلك حديث القبرين اللذين مر عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير" .
فلم يذكر اسمي الرجلين ، بل أشار إلى ما وقعا فيه من الخطأ محذراً من ذلك ، فحصل المقصود والغرض .
قال الحافظ ابن حجر تعليقاً على هذا الحديث : "لم يعرف اسم المقبورين ولا أحدهما ، والظاهر أن ذلك كان على عمد من الرواة لقصد الستر عليهما ، وهو عمل مستحسن ، وينبغي أن لا يبالغ في الفحص عن تسمية من وقع في حقه ما يذم به" .
ولما أرادت عائشة رضي الله عنها شراء جارية اسمها بريرة رفض أهلها بيعها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم ، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : "ما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق ، وإنما الولاء لمن أعتق" .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخَّص فيه فتنزَّه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فحمد الله ، ثم قال : "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية" .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في قبالة المسجد فأقبل على الناس ، فقال : "ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه فيتنخّعُ أمامه؟ أيحب أحدكم أن يُستَقبَل فيُتنخع في وجهه؟ فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره أو تحت قدمه ، فإن لم يجد فليقل هكذا" ووصف القاسم فتفل في ثوبه ثم مسح بعضه على بعض .
وروى النسائي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة الصبح فقرأ الروم ، فالتبَسَ عليه ، فلما صلى قال : "ما بال أقوام يصلون معنا لا يحسنون الطهور ، فإنما يَلبِسُ علينا القرآن أولئك" .
والأمثلة في هذا الباب كثيرة يجمعها استخدام أسلوب التعريض ، وعدم فضح صاحب الخطأ .
وعلى هذا النهج سار الصحابة فمن بعدهم ، ففي قصة الخلاف الذي وقع بين الزبير ورجل من الأنصار في السقي، وفيه أنهما تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للزبير : "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري : "أن كان ابن عمتك" .
وهذا خطأ في حقه صلى الله عليه وسلم ، ولكن لم ترد رواية صحيحة معتمدة في تعيين اسم هذا الأنصاري ، وفي هذا يقول القاسمي رحمه الله : "لله در أصحاب الصحاح حيث أبهموا في قصة الزبير اسم خصمه ستراً عليه ، كي لا يغضي من مقامه ، وهكذا فليكن الأدب ، وكفانا في هذا الباب إيهام التنزيل في كثير من قصصه الكريمة .
2- التحذير من إشاعة الفاحشة:
ومن هذا الباب تحذير الصحابة والتابعين لهم بإحسان من إشاعة الفاحشة والعيوب ، ومن ذلك قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : "الذي يعمل الفاحشة والذي يشيعها بمنزلة واحدة" .
وقال : "قائل الفاحشة والذي يشيع بها في الإثم سواء" .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : "إيما رجل أشاع على امرئ مسلم كلمة هو منها بريء ليشينه بها كان حقاً على الله أن يعذبه بها يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفادِ ما قال" . وقال شبيل بن عوف : "من سمع بفاحشة فأفشاها فهو فيها كالذي أبداها" .
وقال الفضيل بن عياض : "من سمع بفاحشة فأفشاها كان كمن أتاها ، فإن الفاحشة لتشيع في الذين آمنوا حتى إذا بلغت إلى الصالحين كانوا خزَّانها" .
وقال الحافظ ابن رجب : "... أما الإشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ..} الآيتين ، والأحاديث في فضل السر كثيرة جداً .
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف : "واجتهد أن تستر العصاة ؛ فإن ظهور عورتهم وهنٌ في الإسلام ، أحق شيء بالستر العورة .
فلهذا كانت إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير ، وهما من خصال الفجار ؛ لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب ، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه ، فهو يعيد ذلك ويبديه ، ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليدخل عليه الضرر في الدنيا ..." .
وإن من يتعمد إشاعة السوء على أخيه المسلم ويتتبع عيوبه يخشى عليه أن يقع في الوعيد الشديد الوارد في حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا تظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" .
ومما يعين على تجنب هذا الخلق الذميم التعود على التناصح في السر كما قال الإمام الشافعي رحمه الله :
تعمَّدني بنصحك في انفرادٍ *** وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ *** من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تجزع إذا لم تلق طاعة
وكان السلف رحمهم الله يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه – أي في الملأ – ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور ، فإن هذا من علامات النصح ، فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له ، وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها ...
فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ، ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة .
كما ينبغي التنبيه على أن تعمد النصيحة في العلن للمستتر بذنبه فيه إغلاق لباب العودة والتوبة عليه ، إذ تأخذه العزة بالإثم بعد أن شهر به في المنتديات والمجامع ، وفي ذلك إعانة للشيطان عليه .
وقد ذكر الدكتور عبد الله الطريقي أن هذا الأصل مأخوذ من القواعد الشرعية الآتية :
1- أن الهدف الأسمى من المحاورات والمناظرات والردود ونحوها هو إعلاء كلمة الله وكشف الزيغ والانحراف ، وذلك يتحقق في الغالب دون ذكر للأسماء .
2- أن الستر مطلب شرعي في حق المسلم الذي يظهر منه الصلاح ، ولم يجاهر بالمعصية .
3- الأصل تحريم أعراض المسلمين وعدم التعرض لهم بنقد أو جرح سواء كان غيبة أو سخرية ، إلا ما أبيح من ذلك مما له سبب شرعي .
4- أن الإسلام يؤكد على أهمية الاجتماع والاتفاق ويحذر من الفرقة والشذوذ والتنازع ، ومعلوم أن نقد الشخص أو الفرقة بعينها لا بد أن يوجد النفرة والوحشة ، ومن ثم قد يترتب عليه نزاع أو شقاق إلى آخر ما ذكر .
ولكن الملاحظ أن بعض المنتقدين لا يفرق بني نقد الرأي وصاحب الرأي ، فتجده يحمل على صاحب الرأي ويوجه له العبارات الجارحة والكلمات النابية مثل عبارة إنه قليل الفهم أو جاهل أو إن فيه غباوة أو يستشهد بقول الشاعر:
لو كل كلب عوى ألقمته حجراً *** لأصبح الصخر مثقالاً بدينار
وهذا فيه تعدٍّ على الأشخاص ، وليس هذا من النقد الموضوعي ، لأن النقد الموضوعي هو الذي يتجه إلى الموضوع ذاته لا إلى قائله ، وبعضهم يدعو على مخالفه بقوله : أهلكه الله ، أراح المسلمين منه .
وقال اللكنوي : ومن عاداتهم الخبيثة : أنهم كلما ناظروا أحداً من الأفاضل في مسألة من المسائل ، توجهوا إلى جرحه بأفعاله الذاتية ، وبحثوا عن أعماله العَرَضية ، وخلطوا ألف كذباتٍ بصدق واحد ، وفتحوا لسان الطعن عليه بحيث يتعجَّب منه كل ساجد ، وغرضهم منه إسكات مخاصمهم بالسب والشتم ، والنجاةُ من تعقب مقابلهم بالتعدي والظلم ، بجعل المناظرة مشاتمة ، والمباحثة مخاصمة .
هذا هو الأصل ، إلا أنه قد تكون هناك مصلحة راجحة من التشهير كأن يشيع المنكر ويذيع بين العام والخاص فلا يجدي عندئذ إنكاره في السر ويتعين المصير إلى العلن قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "فإذا أظهر الرجل المنكرات وجب الإنكار عليه علانية ولم يبق له غيبة" .
وقال الدكتور بكر أبو زيد : "الأصل هو الستر والعمل على دفع دواعي الفرقة والوحشة وعدم الموافقة ، فالرد ينصب على المقالة المخالفة المذمومة لا على قائلها".
ثم يبين أنه إذا كانت المقالة فاحشة جداً كبدعة الخوارج ، أو كان المخطئ أو المبتدع يدعو إلى خطئه وبدعته ويزينها في قلوب العوام فهنا يجوز ذكر وتعيين الأسماء ، بل قد يجب ذلك .
والتناصح بهذه الصورة هو نهاية الكمال ؛ فإن الكمال أن يكون الشخص كاملاً في نفسه مكملاً لغيره .
3- التحذير من التعيير والتوبيخ :
فلا يعني وجوب التشهير بالمجاهر ، جواز تعبيره وتوبيخه بالذنب ، فشتان بين الأمرين ، وقد توافرت النصوص عن السلف في التحذير من هذا الخلق الذميم .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : "المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويُعَيِّر" .
فالتعيير بالذنب مذموم ، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثرَّب الأمة الزانية مع أمره بجلدها ، فتجلد حداً ولا تعيَّر بالذنب ولا توبَّخ به .
ومن ارتضى هذا المنهج يخشى عليه من الوعيد الشديد الوارد عن السلف في عقوبة من عيَّر أخاه بذنب ، قال الحسن البصري : "من عير أخاه بذنب تاب منه لم يمت حتى يبتليه الله به" .
ولما ركب ابن سيرين الدَّين وحبس به قال : "إني أعرف الذنب الذي أصابني هذا ، عيرت رجلاً منذ أربعين سنة فقلت له : يا مفلس" .
ومن أظْهرِ التعيير إظهار السوء وإشاعته في قالب النصح ، وزعم أنه إنما يحمله على ذلك العيوب ، إما عاماً وإما خاصاً . وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى فهذا من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع ، فإن الله ذم من أظهر فعلاً وقولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصد في الباطن ، وعد ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} الآية .
* * *
يتبـــــــــــــــــــــع>>>>>>>>>
آخر تعديل همسات مسلمة يوم 12-15-2011 في 02:12 AM.
|