الحمد لله المتفرِّد بالكمال والجلال ، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ، والصلاة والسلام على النبي المعصوم وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
لما كان الخطأ صفة ملازمة للبشر لا يسلم منه إلا من عصم ، أحببت أن أضع بين يدي طلبة العلم خاصة والمسلمين عامة قواعد وضوابط للتعامل مع الأخطاء والعثرات مستقاة من هدي خير القرون والتابعين لهم بإحسان ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ..." الحديث .
وقال الإمام مالك رحمه الله : "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"
والذي دعاني للكتابة في هذا الموضوع أمور عدة :
أولها : عدم التفريق بين الإثم والخطأ عند بعض الناس ، ربما كانا متلازمين عند بعضهم ، وهذا مخالف لمنهج أهل السنة والجماعة ، بل هو مذهب ضلال المعتزلة ومن وافقهم .
قال شيخ الإسلام : "وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين" . وقال في موضع آخر : "أما الذين يقولون بأن المجتهد المخطئ آثم فهم أتباع بشر المريسي وكثير من المعتزلة البغداديين والقدرية ؛ لأن الخطأ والإثم عندهم متلازمة" .
وقد رفع الله الإثم عن الأمة فيما أخطأوا فيه كما جاء في الحديث : "إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" .
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : "لما نزلت هذه الآية {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}[البقرة: 284] قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال : فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} (قال: قد فعلت) {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (قال : قد فعلت) {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا} (قال : قد فعلت) .
الثاني: المنهج النشاز الذي ظهر في هذه الأعصار من تتبع الأخطاء والعثرات للبراء والفرح بها مع نسيان الفضائل والحسنات .
الثالث : إني لم أجد دراسة علمية متخصصة في هذا الموضوع مع شدة الحاجة لذلك ، صحيح أن ثمة دراسات طرقت الموضوع من بعض جوانبه كدراسات في أدب الخلاف ، وأخرى في منهج أهل السنة في النقد والتقويم ، وثالثة في الرد على المخالف وفقه التعامل معه ، إلى غير ذلك ، وهذه الدراسات مع جودتها وقيمتها العلمية ليست متخصصة في موضوع البحث ، وأقرب رسالة وقفت عليها في هذا الموضوع للشيخ محمد المنجد حفظه الله بعنوان "الأساليب النبوية في التعامل مع أخطاء الناس" وكدت لما وقفت عليها أترك المواصلة فيما بدأته ، إلا أني لما تصفحتها وجدت أنه عالج الموضوع من جانب ذكره لأساليب النبي صلى الله عليه وسلم في معالجة الخطأ ، والقضية تحتاج إلى بحث أوسع من حيث وجوب التثبت في إيقاع الخطأ والتعالم معه بعد وقوعه ، وبعد استحكامه والإصرار عليه ، كل ذلك على ضوء منهج السلف الصالح رحمهم الله ، ولا أنكر أني أفدت من رسالته فجزاه الله خيراً .
وقد أسميت هذه الورقات :
"فقه التعامل مع الأخطاء على ضوء منهج السلف"
وأردت بالفقه اللغوي لا الاصطلاحي ، وقد جعلت هذا البحث في تمهيد وثلاثة فصول وخاتمة .
التمهيد : وأفردته لثلاث مقدمات :
الأولى : تعريف الخطأ لغة واصطلاحاً والألفاظ ذات الصلة .
الثانية : كل بني آدم خطاء إلى من عصم .
الثالثة : درجات الأخطاء والمخطئين .
الفصل الأول : قبل إثبات الخطأ والحكم به :
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : التثبت والتبين قبل الحكم بالخطأ:
وفيه أربعة مطالب :
المطلب الأول : طلب الإسناد عند سماع المنقول .
المطلب الثاني : العلم بحال الناقل .
المطلب الثالث : العلم بحال المنقول فيه .
المطلب الرابع : العلم بطبيعة الخطأ المنقول .
المبحث الثاني : إحسان الظن وحمل الكلام على المحمل الحسن .
الفصل الثاني : عند ثبوت الخطأ ،
وفيه ثلاث مباحث :
المبحث الأول : النصح والتوجيه :
وفيه خمسة مطالب :
المطلب الأول : إخلاص النية والقصد عند النصح .
المطلب الثاني : الهدوء في التعامل مع المخطئ .
المطلب الثالث : إرشاد المخطئ وإعانته .
المطلب الرابع : تقديم البدائل الصحيحة .
المطلب الخامس : تأديب المخطئ إذا استلزم ذلك .
المبحث الثاني : الآداب الشرعية عند النصح والتوجيه :
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : الحكمة في معالجة الخطأ .
المطلب الثاني : مقارنة النفس بالغير عند صدور الخطأ .
المطلب الثالث : الرجوع عن الخطأ إذا ظهر الحق والصواب .
المبحث الثالث : الستر وعدم الإشاعة :
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : بيان الأخطاء دون التعرض للأشخاص ما أمكن ذلك .
المطلب الثاني : التحذير من إشاعة الفاحشة .
المطلب الثالث : التحذير من التعيير والتوبيخ .
الفصل الثالث : بعد استحكام الخطأ والإصرار عليه :
وفيه ستة مباحث :
المبحث الأول : المخطئ المجتهد مأجور غير موزور .
المبحث الثاني : الخطأ اليسير مغتفر في جانب الخير الكثير .
المبحث الثالث : خطأ الشخص لا يسري إلى غيره إلا وافقه وأقره .
المبحث الرابع : الورع عند نقل الخطأ وعدم التحامل .
المبحث الخامس : عدم تتبع الأخطاء والعثرات .
المبحث السادس : الأثر المترتب على الخطأ بالنسبة للحقوق .
الخاتمة : ولخصت فيها نتائج البحث .
الفهارس .
وقد حاولت عرض الموضوع وفق منهج علمي ، وأكثرت من الاستشهاد بالنصوص الشرعية وكلام أهل العلم في جلّ القضايا المطروحة ؛ لأنها منطلق البناء وأساسه ، وعزوت هذه النقول إلى مصادرها الأصلية قدر الاستطاعة ، وأما الأحاديث النبوية فقد خرجتها من مصادرها فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت به لكونهما محلاً للقبول عند جمهور أهل العلم ، وما كان في غيرهما فقد خرجته من مصادره ، قدر الاستطاعة مع محاولة الحكم عليه صحة وضعفاً من قبل أهل الاختصاص ، ولا أدعي أني جئت بمبتكرات جديدة في هذا البحث ، ولكنه الجمع والترتيب ، وهما من جملة مراتب التأليف فلعله يكون مفتاحاً لدراسات أكثر وأوسع استيعاباً .
وبعد ، فهذا ما كنت أروم إيضاحه ، فإن وجدت أخي القارئ حسناً فدعوة بظهر الغيب ، وإن تكن الأخرى فشأن الكرام ستر العيب ، والله الهادي إلى سواء السبيل فبه أستعين .
كتبه
عبد الرحمن بن أحمد علوش المدخلي
ص.ب 86 صامطة
يتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــبع>>>>>>>>>