إن الحمد لله نحمده, ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى-، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار, ثم أما بعد.
أسباب اختلاف العلماء
هذا البحث من المباحث العظام التي يجب على كل مشتغر بالعلم الشرعي أن يعيه ويستوعبه .. إذ أنه في مسيرته العلمية ستمر عليه آلاف المسائل التي اختلف فيها العلما ء فلا ينبغي له أن يحكم على عالم ما بأنه خالف الدليل الصريح في مسألة .. لأنه هنالك أسباب لذك فهو معذور .. وفي هذا البحث إن شاء الله سنبين تلك الأسباب بالتفصيل راجيين من الله تبارك وتعالى أن ينفع بها ..
سنتطرق في هذا البحث إلى :
1_ تعريف الخلاف
2_ ذكر أنواع الخلاف
3_ تسويد وجوه هذا الخلاف بين الأئمة
4_ الاختلاف المذموم وأسبابه
5_ مراحل ظهور الخلاف وأطوار نشأته
6_ بعض المؤلفات التي ألفت في هذا الميدان
1_ تعريف الخلاف
الخلاف في اللغة كما يقول صاحب اللسان هو المضادة .. يقال خالفه مخالفة وخلافا .. وتخالف الأمران واختلفا إذا لم يتفقا .. فصاحب اللسان كما هو واضح وكما يظهر من كلامه أنه ميز بين الخلاف والاختلاف ..
فيحين أننا نجد غيره من العلماء لم يميز بينهما فجعلوا الخلاف والاختلاف بمعنى واحد .. من هؤلاء العلماء الحافظ الأصفهاني في مفرداته ... يقول : الاختلاف والمخالفة أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حال أو قول .. فجعل الخلاف هو الخلاف ولم يميز بينهما ..
أما في الإصطلاح فقد اختلفت كلمة العلماء فيه وأقرب تعريف إلى الصواب هو قولهم :" تغاير أحكام الفقهاء المجتهدين في مسائل الفروع .. سواء كان هذا التغاير على وجه التقابل أو كان على وجه آخر "
فالمقصود بالخلاف هنا أن يكون في فروع المسائل لا في الأصول ..
والمقصود بالتقابل في التعريف التضاد .. مثال ذلك مثلا .. قول بعض الفقهاء القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء .. ويقول بعضهم القهقهة في الصلاة لا تنقض الوضوء .. فهذا تغاير على وجه التقابل وهو التضاد .
أو أن يكون هذا التغاير على وجه آخر غير التضاد .. كأن يقول بعضهم في مسألة ما مثلا : إن هذا على سبيل الوجوب .. ويقول الآخرون : هذا على سبيل الندب .
فهذا التعريف بناءا على قول الجمهور في التسوية بين الخلاف والاختلاف وعدم التمييز بينهما .. والدليل على أن هذا هو الصواب أنه لا فرق بين الخلاف والاختلاف ..التأمل في صنيع العلماء والنظر في كتبهم فمن نظر في كتبهم يجد أنهم يعبرون في مسألة واحدة في السطر الواحد مرة بالخلاف وتارة بالاختلاف .. فهم لا يرون تميزا بين اللفظتين . والله أعلم .
2_ أنواع الخلاف :
الخلاف أو الاختلاف على وجه العموم ينقسم إلى أقسام مثيرة باعتبارات متعددة :
الاعتبار الأول ينقسم الخلاف :
_ باعتبار الذم وغيره :
والخلاف باعتبار الذم وغيره ينقسم في حد ذاته إلى قسمين :
أ_ اختلاف سائغ : وهو الذي ساغت أسبابه ودواعيه ووجدت له موجبات تقتضيه ... وهذا النوع هو اختلاف الفقهاء الجتهدين في الفروع .
ب_ اختلاف مذموم : وهو الاختلاف الذي يكون في الغالب في مقابلة الدليل الصريح الصحيح .. إما عنادا او جحودا أو تعصبا أجهلا أو اتباع الهوى ..
الاعتبار الثاني
باعتبار محل الخلاف :
فباعتبار محل الخلاف ينقسم إلى قسمين أيضا :
أ_ خلاف في أصول الاعتقادات وقواعدها
ب_ خلاف في مآخذ الأحكام وفروعها .
أما الخلاف في أصول الاعتقادات وقواعدها هذا النوع يندرج تحته قسمان :
1_ الخلاف الواقع بين أهل الإسلام وغيرهم من أهل الملل والأديان .. فهذا النوع واقع في أصول الدين .. والصواب فيه قطعا مع أهل الإسلام أما باقي الأديان فهي باطلة .
2_الخلاف الواقع بين المنتسبين إلى ملة الإسلام .. كالخلاف الواقع بين أهل السنة وغيرهم من أهل البدع والمحدثات .. كالشيعة والمعتزلة والجهمية والرافضة وغيرهم ..
والصواب قطعا مع أهل السنة والجماعة أما باقي الفرق فهي باطلة وضالة .
ب _ أما الخلاف الواقع في مآخذ الأحكام والفروع فينقسم إلى قسمين أيضا :
1_ فقد يقع الخلاف في مآخذ الأحكام .. كالاختلاف الواقع بين الأئمة في الأخذ ببعض المصادر التشريعية .. كاختلافهم مثلا في الاحتجاج بالمرسل من الحديث .. واختلافهم في الاحتجاج بالاستصحاب أو الاستحسان أو اختلافهم في الاحتجاج بشرع ما قبلنا وغير ذلك ..
2_ وقد يكون في الفروع الفقهية أو جزئيات المسائل .. كالخلاف الواقع بين المذاهب المتبوعة وعلى رأسهم المذاهب الأربعة .. أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ..
الاعتبار الثالث
باعتبار أثره وينقسم إلى قسمين أيضا :
أ_ خلاف معنوي وهو الذي يسمى أيضا بالخلاف الحقيقي وهذا النوع يتنافى فيه القولان تنافيا مطلقا .. كأن يقول بعض الفقهاء مثلا : إن مس الذكر من غير حائل ناقض للوضوء ... ويقول الآخرون : لا ينقض الوضوء .. فهذ الخلاف حقيقي .
ب_ أو أن يكون ذلك الخلاف اختلافا لفظيا غير حقيقي .. وهذا النوع يتقابل فيه توارد المذهبين أو القولين على معنى واحذ .. ويكون الخلاف بينهما في الظاهر فقط .. مثال ذلك مثلا : في بعض الواجبات المخيرة يقول بعض المذاهب : إن المتعين في الواجب المخير جميع أجزاءه .. ويقول أخرون : بل المعتين هو شئ واحد غير معين ..
فهذا الخلاف لفظي .. فهذا النوع ظاهره الخلاف لكن بلا شك أن من قام بأحد تلك الأجزاء فقد برئت ذمته عند كلا الفريقين ..
الاعتبار الرابع
باعتبار التضاد وغيره .. وهو على قسمين :
أ_ اختلاف التضاد وهو الذي يقضي فيه أحد القولين ضد القول الآخر .. كالخلاف بانتقاض الوضوء بالقهقهة في الصلاة مثلا .. فهم على قولين متضادين .
ب_ اختلاف تنوع .. وهذا النوع ضابطه أنه لا يقتضي فيه أحد القولين ضد القول الآخر ..وأكثر ما يقع هذا النوع في التفسير .. ومن ذلك مثلا اختلافهم في تفسير قول الله تعالى (( والعصر )) فتارة يفسرونها بالزمن وتارة بصلاة العصر .
أو تفسيرهم لقول الله تعالى (( والعاديات ضبحا )) تارة بأنها الخيل وتارة بأنها الإبل .. فهذا كله اختلاف تنوع .
قال اسحاق بن راهوية :" وجهل قوم هذه المعاني فإذا لو توافق الكلمة قالوا هذا اختلاف "
وقد قال الحسن وذكر عنده مثل هذا الخلاف قال :" إنما أوتي القوم من العجمة "
فهذا الخلاف خلاف سائغ .
3_ تسويد وجوه الخلاف
هل الخلاف في الفروع محمود أم مذموم ؟
فهذا الخلاف الواقع بين أهله ..وأقصد بأهله أهل العلم والفضل .. هذا الخلاف الواقع بينهم محمود وليس بمذموم .. لماذا ؟؟
1_لأن هذا الخلاف هو نتيجة الاجتهاد .. هذا الجتهاد الذي أذن فيه الشارع بل توعد صاحبه بالأجر والثواب سواء وافق الصواب في المسألة أم لا لقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد "
2_ لأنه واقع في الجزئيات لا الكليات .. وهو واقع في الفروع لا في الأصول .. وواقع في الظنيات لا في القطعيات .. وقد حكم الله بحكمته أن يكون فروع هذه الشريعة كما نص على ذلك الشاطبي في الموفقات قابلة للأنظار ومجال للظنون ولهذا لا يضر هذا الاختلاف أبدا .
3_ لأنه وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المسائل لا يجهلها من عني بالعلم وأقره صلى الله عليه وسلم ولم ينكره .. ووقع في عهد الصحاب رضي الله عنهم .. ثم في عهد التابعين .. ثم أتباع التابعين وهكذا حتى دونت المذاهب وتقرر ذلك الخلاف ودون من غير نكير من أحد من أهل العلم المعتد بهم .
4_ لأنه قد أثر عن غير واحد من العلماء أنه قال في مثل هذا النوع من الخلاف أنه " اختلاف رحمة "
وقد أثر هذا عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وهو أحد الفقهاء السبعة في عهد التابعين .. ونقل ذلك أيضا عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز . وقد ذكر هذه الأثار الحافظ بن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله "
5_ أيضا لأن الكثير من أهل العلم جعلوا العلم كله معرفة الخلاف ..وقد صح هذا عن الشافعي أنه قال :" العلم هو معرفة الخلاف ".. ومقتضى هذا الكلام قبولهم لهذا النوع من الخلاف .
قال قتادة :" من لم يعرف الخلاف لم يشم بأنفه رائحة العلم "..
قال سعيد بن أبي عروبة :" من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالما " ..
قال عثمان بن عطار عن أبيه :" لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس , فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه " ..
قال أيوب السختياني :"أجسر الناس بالفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء "
جامع بيان العلم وفضله "
4_ الاختلاف المذموم وأسبابه :
الاختلاف المذموم يكون اختلافا واقعا من غير أهله في غير محله ويكون الباعث عليه إما التعصب أو الجهل أو غير ذلك من الأسباب .. ومن أمثلته : الاختلاف الواقع في الفروع الفقهية المستندة إلى دليل قطعي صحيح صريح .. كما لو أتى مثلا واحد يجادلك في عدد ركعات صلاة الظهر ويقول أنها ليست أربعة .. فهذا بلا شك اختلاف مذموم .
أو ما كان في أمر معلوم من الدين بالضرورة تحريمه .. كالزنى وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير وغير ذلك ..
أو أن يكون هذا الختلاف في المقدرات الشرع كالأنصبة في الإرث أو في الحدود أو مقادير الزكاة أو الكفارات .. فإن هذه المقدرات المحدودة شرعا لا يجوز الخلاف فيها لأنها تجري مجرى القواطع .. فهي بمثابة أسس الدين .
الغالب في الخلاف المذموم أن يكون سببه أحد ثلاثة أمور :
1_ الجهل ...2_ الهوى ...3_ التعصب .
.........يتبع بفضل الله