حكم العلم الشرعي
وهو علم الكتاب والسنة، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، لأن الوسائل لها أحكام الغايات، فالأصل المطلوب من المسلم الاهتمام بالأصلين الكتاب والسنة، قد يقول قائل: لماذا يُعنى أهل العلم بالعربية، بأصول الفقه، بقواعد التحديث، بعلوم القرآن، وهي روافد؟ نقول: هذه دراستها وإن كانت وسائل إلا أنها خير ما يعين على فهم الكتاب والسنة، ولا يستطيع أحد أن يتعامل مع نصوص الوحيين إلا بعد معرفة هذه الوسائل.
العلم الشرعي أهل العلم يطلقون في حكمه الوجوب الكفائي، بمعنى أنه فرض كفاية، وعنوان المحاضرة كأنه يفيد الوجوب العيني، والعلم والتعلم تنتابه الأحكام من الوجوب العيني والوجوب الكفائي، والسنية والاستحباب، وقد ينتابه بسبب ما يقترن به بقية الأحكام من الكراهة والتحريم، فيجب وجوباً عينياً على من تأهل له بحيث لا يوجد غيره في البلد، لأن وجود أهل العلم والعلماء الذين ينيرون الطريق، ويوضحون للناس ما يحققون به الهدف الشرعي من وجودهم، وهو العبودية لله -جل وعلا- أمر واجب على الأمة، ويتعين بالنسبة لبعض الأشخاص الذين لا يمكن أن يقوم إلا بهم، فهو من هذه الحيثية بالنسبة لأولئك الأفراد الذين تأهلوا له بحيث لو تركوه لما وجد غيرهم ممن يقوم به، هذا وجوب عيني يأثمون بتركه، وأما بنسبة لحكمه على العموم فهو فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، يقوم به من يكفي ويسقط الإثم على الباقين، ويصير في حكم الباقين سنة.
وجوب العلم الشرعي والمراد به
وجوب العلم الشرعي، وجوب العلم،
أولاً
العلم المراد به في النصوص هو العلم الشرعي، هو العلم الشرعي المبني على الكتاب والسنة، هذا هو الذي جاءت النصوص بمدحه والحث عليه، وهو المورث للخشية لله -جل وعلا-، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] قد يقول قائل، الناس يقولون الأقسام العلمية، والقسم العلمي والنظري، هذا التقسيم الاصطلاحي الحادث، يجعل علوم الدنيا من طب وهندسة وغيرها من هذه العلوم يسمونها علمي، وما عدا ذلك يسمونه نظري، علمي ونظري، أو علمي وأدبي، فيجعلون العلوم الشرعية التي جاءت النصوص بمدحها علوم نظرية،
أو علوم أدبية، ويخرجونها من مسمى العلم العرفي، العلم العرفي، لكن النصوص التي جاءت في مدح العلم والعلماء المراد به العلم الشرعي المورث للخشية، قد يقول قائل: أن الخشية قد توجد عند طبيب وعند مهندس وعند مزارع وعند راعي غنم، أكثر مما يوجد عند بعض أهل العلم أما ما يجده الإنسان من نفسه من غير أهل العلم الشرعي، مما يورث الخشية سببه التفكر والنظر، وللأطباء من هذا النصيب الأوفر، التفكر والنظر الذي يورثه ما يورثه من خشية الله -جل وعلا-، ومعرفة آلائه هذا سببه التفكر.
الأمور التي ينال بها فضل العلم
لا يستطيع أحدٌ أن ينال فضل العلم إلا بأمور، إذا حصلها العبد كملت له فضيلة العلم:
الإخلاص في طلب العلم
أولها وأعظمها: إخلاص العمل لله جل جلاله، العلم لله، ويُراد به ما عند الله، ولا يزال العبد بخيرٍ إذا قال: قال لله، وإذا عمل: عمل لله، اصطفى الله العلم للآخرة، واصطفى أهله للآخرة، فهم معنا في الدنيا بأجسادهم، وهم في الآخرة فيما هم فيه من علومها النافعة، وأجورها الباقية.
إنه العلم الذي لا يمكن أن يجد أحدٌ حلاوته إلا بالإخلاص: (ومن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) أهل العلم أغنى الناس بالله، وطالب العلم والعالم الذي ملأ الله قلبه بالآخرة تنصرف همته لله خالصة، أما طالب العلم الذي يريد وجه الله، مباركٌ له في علمه، وفيما يقوله ويسمعه ويكتبه، ومباركٌ له في كل خطوةٍ يخطوها، وفي كل كلمة يسمعها ويكتبها ويفهمها ويلقنها العباد، فالإخلاص مدار الأعمال كلها عليه، وما بقيت كتب السلف رحمهم الله، وكأنها كتبت بالأمس القريب إلا بالله جل جلاله ثم بإخلاصهم، نظر الله إلى قلوبهم فوجد فيها الإخلاص لوجهه وإرادة ما عنده سبحانه وتعالى، فبارك فيما قالوا وما عملوا وما علموا رحمهم الله برحمته الواسعة.
فإذا أخلص العبد لله سبحانه سهل الله له طريق العلم، فجعله محبوباً عند العالم الذي يعلمه، موضوعاً له بالقبول حيثما كان وحيثما تكلم وحيثما سمع، ووضع الله له البركة في جميع ما يكون من أمره.
الله أكبر إذا أخلص طالب العلم فخرج من بيته وليس في قلبه إلا الله، فكتب الله له الخطوات والحركات والنفس وما يكون من جميع حاله وشأنه.
القيام بحقوق العلم
أما الأمر الثاني فإن الله سبحانه وتعالى جعل للعلم حقوقاً عظيمة، من وفاها فإن الله سبحانه يبارك له في ذلك العلم.
ولن يستطيع طالب العلم أن ينال العلم؛ من وجهه إلا إذا أدى حقوق العلم؛ ولن يستطيع العالم أن يجد لذة علمه فيكون علماً نافعاً مباركاً فيه إلا إذا أدى الحقوق التي عليه، فالحق الذي على العالم هو أن ينصح للأمة، وأن يكون صادقاً مع الله جل جلاله، مشفقاً على الخلق،
فإن رسول الأمة صلى الله عليه وسلم ملأ الله قلبه بالرحمة فكان صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رءوفاً رحيماً صلى الله عليه وسلم، كان عليه الصلاة والسلام رحمة للناس، فإذا كان العالم قد سكنت الرحمة في قلبه، وعرف حقوق الناس عليه، بذل لهم هذا العلم، وضحى وقدم الغالي والرخيص، والمهجة والنفس والنفيس؛ من أجل مرضاة الله سبحانه وتعالى، إن العالم عليه حقٌ وهو أن يعلِّم الجاهل، وإذا وقف الجاهل على بابه وجب عليه أن يعلِّمه،
وأن يرشده، وأن يدله، وأن يأخذ بمجامع قلبه إلى الله سبحانه وتعالى، فإن كان مذنباً رغبه في التوبة والإنابة إلى الله، وإن كان مسيئاً رغبه في الإحسان وعمل أهل الإيمان حتى يفوز بالرحمة والجنان، وإن كان مخطئاً سدده وأرشده، ودله على ما فيه مرضاة الله جل جلاله.
تعليم الأمة الأفضل والأحسن
من الحقوق التي ينبغي للعالم أن يراعيها في علمه تجاه الناس وتجاه الخلق: أن يختار لهم أفضل ما يجده، وأحسن ما يجده، لكي يقدمه من العلوم النافعة، فكما أنه واجبٌ عليه أن يتقن العلوم، كذلك يختار أهمها وأولاها وأحقها، وهو: توحيد الله سبحانه وتعالى، وبيان ما لله من حقوقٍ في إخلاص العمل لوجهه، وصدق المعاملة معه سبحانه وتعالى، فيأخذ بمجامع القلوب لله بإخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، فأفضل العلوم وأحبها إليه سبحانه وتعالى هو التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله).
ترسّم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأخلاق
أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خُلقه وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، من الإلف والقرب من الناس، كان الصغير يحس كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الفقير يشعر كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وكان الحقير من الناس وغيرهم من عامتهم الذين لا جاه لهم ولا قوة يحسون بقربه صلوات الله وسلامه عليه، كان موطأ الكنف، وكان صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وشمائله يجذب الناس إلى علمه،
وما قذف الله في قلبه من النبوة والرسالة، يقول جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه واصفاً النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من طلاقة الوجه، وديمومة السرور قال رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي) فإذا تبسم العالم فإن هذه الابتسامة كريمة وثقيلة في قلوب الناس؛ لأنها تدل على التواضع والكمال والفضل، وتدل على أنه قريبٌ من الناس، فالعالم يحمل هموماً لا يعلمها إلا الله جل جلاله، ولكنه إذا تبسم تبسمَ الواثق بما عند الله سبحانه، يتبسم كتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ليشتري بها رحمة الله ومرضاته،
لا يتبسم للدنيا، ولا يتبسم للجاه ولا للسمعة ولا للرياء، ولكن لله وفي الله وابتغاء ما عند الله جل جلاله: كان صلى الله عليه وسلم يأتيه الرجل -بطيشه وخفته وحمقه- فيجذبه من ردائه صلوات الله وسلامه عليه، فما هو إلا أن يصرف وجهه إليه فيتبسم -ولا يلقى العنف بالعنف، ولا يرد السيئة- بالسيئة صلوات الله وسلامه عليه إذا كملت فضائل العالم وكملت أخلاقه، طابت أقواله وأحس من كان قريباً منه بفضله ونبله، قال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وهو يبين لنا هديه عليه الصلاة والسلام، وخلقه الكامل الفاضل: [لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي يوماً قط أف] صلى الله عليه وسلم.
إذا كمل العالم كملت أخلاقه وآدابه، وشمائله وفضائله، فقد أوصى العلماء وأهل العلم أن يكونوا كذلك، فإذا تواضع العلماء ملكوا قلوب الناس، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي تعين على حب الدين والقرب منه وإلف العلماء والقرب منهم يعين على خيرٍ كثير.
إن كريم الأصل كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى وينبغي على العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خلقه، سواءً كان مع العدو أو الصديق، مع الصغير أو الكبير، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع بكاء الصبي في الصلاة أشفق على أمه فخفف في صلاته، ولما تكلم معاوية بن الحكم رضي الله عنه في الصلاة، قال معاوية: (فبأبي وأمي ما رأيت معلماً كرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما كهرني ولا شتمني ولكن قال: من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقلت: أنا يا رسول الله قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ... ) الحديث
فكان صلى الله عليه وسلم يتعاطى أسباب التأثير في الناس، فالتواضع خلق لا بد للعالم أن يتخلق به، وإذا تواضع العالم استطاع المهموم والمغموم والمحزون والمكروب أن يبث حزنه، وأن يبدي ما عنده من الهم والغم، فإذا وجد العالم موطأ الكنف أحس أنه كوالده، وأنه سيشفق عليه ويرحمه أكثر من رحمة الأم بولدها؛ لأن رحمة العالم نابعةٌ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي نابعة من الدين، وأما حنان الأم وعطفها فنابعٌ من الدنيا، وشتان ما بينهما، ولذلك كان بعض أهل العلم يقول: أستحب للعالم ألا يبالغ في لباسه، فلا يبالغ في التجمل؛ لأنه إذا بالغ في التجمل والزينة ولبس غالي الثياب، احتقر الفقير نفسه إذا جلس بين يديه، وأستحب له أن لا يتبذل في ثيابه، فإذا جاء الغني ترفع عن سؤاله، ولكن يكون بينهما واسطة، حتى إذا رآه الفقير ألفه، وإذا رآه الغني ألفه فالوسط خيرٌ ومحمودٌ في الأمور كلها.
.......يتبع بفضل الله