السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________________
إن الحمد لله نحمده, ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله -صلى الله عليه وسلم-
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله – تعالى-، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار, ثم أما بعد.
فإن العلم هو أساس كل شيء، ولذلك فضل الله العلم وأهله، وامتن به على أنبيائه، ولم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزداد من شيء إلا من العلم..فقال تعالى ((وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)) [طه:114].
وما نعلم أن الله عز وجل أمر نبيه أن يزداد من شيء إلا من العلم، فدل على أنه أفضل شيءٍ؛ لأن الله عز وجل لا يختار لنبيه إلا الأكمل والأفضل؛ بينما المال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمدٍ قوتاً) والنبي عليه الصلاة والسلام لا يدعو لنفسه إلا بالأكمل والأفضل، (قوتاً) أي: إذا وجد العشاء ربما لا يجد الإفطار، وإذا وجد الإفطار ربما لا يجد الغداء، فكأنه قال: اللهم اعطني غدائي فقط، فإذا جاء وقت العشاء دعوتك، أو إذا جاء وقت الإفطار دعوتك، يفعل هذا ليتعلق قلبه بالله..
ولشرف العلم فإنه القاضي على كل شيء في الدنيا، وهو سلطان القلوب، ولذلك لم يدخل أهل النار النار إلا بسبب الجهل، إذاً فالعلم هو الذي يحملك على خشية الله، ومن زاد علمه زادت خشيته لله، ومن خشي الله لم يعص....
ففضّل الله سبحانه وتعالى العلم وجعله ميراث الأنبياء، ورفع أهله وفضلهم وشرفهم وزكاهم، ولا يكون ذلك الشرف والفضل إلا بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، مع بذل الجهد في تعلمه وتعليمه.
فعلى العالم أن يترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يتعاطى الأسباب لقبول علمه، وعلى طالب العلم أن يحب العلم ويحب أهله، ويجلهم ويكرمهم ويقدرهم، مع مراعاة الأدب مع إخوانه طلاب العلم، وكذلك التضحية والبذل في تحصيله، وأن يعمل بما علم.
النصوص الواردة في طلب العلم
من النصوص التي جاءت في فضل العلم ما قال المولى -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [(11) سورة المجادلة] درجات، ما هذه الدرجات التي يرتفع بها أهل العلم على من سواهم؟
وهذه الدرجات لا شك أنها متفاوتة، فلكل عالم منها نصيبه، فمنهم من يحوز منها أعلى الدرجات، ومنهم من هو دون ذلك، ومن أعظم ما يستدل به على فضل العلم مما أطنب ابن القيم -رحمه الله تعالى- في بيانه وشرحه وتوضيحه في كتابه العظيم (مفتاح دار السعادة) قوله -جل وعلا-: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران]
يمر بها الطالب يقرأها، ويمر بها الكبير والصغير ولا تحرك ساكناً هذه الآية، وهي آية عظيمة في فضل العلم وأهله {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [(18) سورة آل عمران]
يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "استشهد سبحانه بأولي العلم على أجل مشهود، وهو توحيده، وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه" ثم ذكر هذه الوجوه، أوردها باختصار شديد؛ لأنه أطنب -رحمه الله تعالى- كعادته إذا سال واديه في أي مسألة -رحمة الله عليه- حتى يملأ الخوابي، ويبلغ الروابي –
الوجه الأول
استشهادهم دون غيرهم من البشر، استشهادهم على أجل مشهود عليه، استشهادهم على هذا الأمر العظيم دون غيرهم من البشر.
الوجه الثاني
اقتران شهادتهم بشهادته -جل وعلا-.
الوجه الثالث
اقتران شهادتهم أيضاً بشهادة ملائكته
الوجه الرابع
أنه في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، من أي وجه؟ الشهادة إنما يطلب لها العدول، يعني لو شهد شخص على أدنى شيء من حطام الدنيا طلبت تزكيته وتعديله، فكيف بمن يشهد على أجل مشهود عليه؟ إن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول، ومنه الأثر المعروف عن النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا كلام بن القيم-: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين))
يقول: الأثر المعروف مختلف في ثبوته، وممن أثبته الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-، ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) فابن القيم أخذ من الآية تزكية أهل العلم وتعديلهم، واستشهد بهذا الحديث الذي هو عمدة ابن عبد البر في تعديل أهل العلم، وأن كل من عرف بحمل العلم فهو عدل، ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) يعني العدول الثقات هم الذين يحملون هذا العلم، والحديث مختلف في ثبوته؛
لكن ممن أثبته الإمام أحمد، فعلى افتراض ثبوت هذا الخبر هل يدل على ما أدعاه بن عبد البر؟ ابن القيم -رحمه الله- استشهد به على دلالة الآية؛ لكن يدعي ابن عبد البر -رحمة الله عليه- أن كل من يحمل العلم فهو عدل، فهل الواقع كذلك أو لا؟ هل يوجد في واقع الناس على مر العصور من يحمل العلم الشرعي وهو غير عدل؟ يوجد ولا ما يوجد؟ إذاً كيف يقول ابن عبد البر من عرف بحمل العلم فهو عدل؟ يقول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-
الوجه الخامس
أن الله وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذا يدل على اختصاصهم به، وأنهم أهله وأصحابه، ليس بمستعار لهم، يعني إذا قلنا للطبيب: عالم، وقلنا للمهندس: عالم، وقلنا للمزارع: عالم في فنه، وقلنا للصانع: عالم؛ لكن من يقول الله -جل وعلا- عنه عالم، هذه هي الحقيقة التي حث عليها في كتابه، وعلى لسان نبيه -عليه الصلاة والسلام-، فالله -سبحانه وتعالى- وصفهم بكونهم أولي العلم، وهذه هي الحقيقة الشرعية للعلم.
الوجه السادس
أنه -سبحانه وتعالى- استشهد بنفسه، وهو أجل شاهد، ثم بخيار خلقه، وهم ملائكته، والعلماء من عباده، ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً.
الوجه السابع
أنه استشهد بهم على أجل مشهود به، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، واستشهد بهم على أجل مشهود به وأعظمه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العظيم، لا شك أنه إنما يستشهد على الأمر العظيم أكابر الخلق وساداتهم، لو كان لك مبلغ يسير على شخص تأتي إلى علية القوم يشهدون لك، تذهب بهم إلى المحاكم وتحضرهم، وتأخذ مواعيد من القضاة، وترددهم على أمر يسير؟ لا، إنما يطلب مثل هؤلاء، الملأ، علية القوم، يطلبون للأمور الكبيرة، ولا شك أنك تفضل ترك ما لك من حق على استشهاد مثل هؤلاء الكبار، إذا كان شيئاً يسيراً.
الوجه الثامن
"أنه سبحانه جعل شهادتهم حجة على المنكرين، فهم بمنزلة أدلته وبراهينه الدالة على توحيده" جعل شهادتهم حجة على المنكرين، يعني من أنكر الربوبية، من أنكر الألوهية من يشهد عليه؟ يشهد عليه من أُثبتت شهادته في هذه الآية.
الوجه التاسع
أنه سبحانه أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة منه، ومن ملائكته، ومنهم، يعني من أهل العلم، أفرد الفعل المتضمن لهذه الشهادة، {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ} [(18) سورة آل عمران] فهي شهادة واحدة على مشهود به واحد، وإن كان للخالق ما يخصه، وللمخلوق ما يخصه، لم يعطف شهادتهم بفعل آخر غير شهادته، ما قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهد ملائكته، وشهد العلماء؟ لا، وهذا يدل على شدة ارتباط شهادتهم بشهادته، فكأنه سبحانه شهد لنفسه بالتوحيد على ألسنتهم، وأنطقهم بهذه الشهادة، فكان هو الشاهد بها لنفسه إقامة، بمعنى أنه شهد هو بنفسه، وإنطاقاً وتعليماً، وهم الشاهدون بها له اقراراً واعترافاً وتصديقاً وإيماناً.
الوجه العاشر
"أنه سبحانه جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بهذه الشهادة يعني حق الله -جل وعلا- على العباد ما حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، أنه جعلهم مؤدين لحقه عند عبادة بهذه الشهادة، فإذا أدوها فقد أدوا الحق المشهود به،
فثبت على الخلق الإقرار به، فكان ذلك غاية سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وكل من ناله الهدى بشهادتهم، وأقر بهذا الحق بسبب شهادتهم فلهم من الأجر مثل أجره، هم بهذه الشهادة أقاموا هذا الحق، فمن عمل بهذا الحق يكون لهم من الأجر مثل أجر هذا الذي عمل بهذا الحق؛ لأنه الدال على الخير كفاعله، وهذا فضل عظيم لا يعرف قدره إلا الله -جل وعلا-، وكذلك كل من شهد بها عن شهادتهم، فلهم من الأجر مثل أجره أيضاً، فهذه عشرة أوجه في هذه الآية، وهذا يدلنا على أمر عظيم جداً، وهو عظم أجر من عني بهذه الشهادة،
وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فبينها للناس، ودعاهم إليها، ووضحها، وكشف شبهات من نقضها، أو أتى بما يناقضها بقصد أو غير قصد، وبهذا تنال الإمامة بالدين اقتداءً بالأنبياء والرسل، وعلى رأسهم سيدهم نبينا محمد -عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم- الذي مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يقرر هذه العقيدة الصافية من خلال شهادة أن لا إله إلا الله، وسار على دربه أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين، وسلف هذه الأمة، ومن تبعهم على مر القرون.
من الأدلة على فضل العلم والعلماء قوله -جل وعلا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] فنفى التسوية بينهم وبين غيرهم، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، هل هذا مجرد استفهام مطلوب جوابه؟ لا، هذا نفي للتسوية بين أهل العلم وبين غيرهم؛
لكن هذا النفي مقرون بأمر عظيم تقدمه فعلى طالب العلم أن يستحضر السبب الذي نفيت فيه هذه التسوية، وهو في صدر الآية، في صدر الآية يقول الله -جل وعلا-: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [(9) سورة الزمر] يعني هل يمكن فصل عجز الآية عن صدرها لا يعني سبب عدم أو نفي هذه التسوية ما اتصف به أهل العلم، مما أشير إليه في صدر هذه الآية، أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه خائفاً راجياً وجلاً،
هذا هو المفضل على غيره، والله المستعان، وهذا يجرنا إلى أمر جاء في كتاب الله -جل وعلا- على سبيل الحصر للعلماء {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] فالذي علمه لا يزيده من خشية الله -جل وعلا- فهذا في الحقيقة ليس بالعلم؛ لأنه على سبيل الحصر هل يستطيع أن يقول قائل: أن هذا حصر إضافي ليس بحصر حقيقي،
والله -جل وعلا- يقول: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [(28) سورة فاطر] والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخشى الناس وأتقاهم، فهل يوجد عالم لا يخشى الله -جل وعلا- بعد هذا الأسلوب الذي يقتضي الحصر فيهم، من شرف العلماء وفضلهم أن الله -جل وعلا- جعل أهل الجهل بمنزلة العميان، جعل الله -جل وعلا- أهل الجهل بمنزلة العميان الذين لا يبصرون،
فقال تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [(19) سورة الرعد] فقابل الذي يعلم بالأعمى، العلم نقيض العمى وإلا نقيض الجهل؟ نقيض الجهل، فلما جعل العمى في مقابلة العلم صار الجهل عمى، إذا كان الذي يقابل العلم هو الجهل، وجُعل العمى مقابلاً للعلم إذاً الجهل عمى، قال ابن القيم: "فما ثم إلا عالم أو أعمى"
وقد وصف الله أهل الجهل بأنهم صم بكم عمي في غير موضع، في أخلاق العلماء للآجري قال -رحمه الله-: فما ظنكم -رحمكم الله- بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء فما ظنكم -رحمكم الله- في طريق فيه آفات كثيرة، وادٍ مهلكة فيه سباع وهوام، ويحتاج الناس إلى سلوكه، يعني لا مندوحة لهم من سلوكه في ليلة ظلماء فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم فسلكوه على السلامة والعافية تصور وادٍ مهلكة فيها هوام،
وفيه سباع، وفيه وحوش، في ليلة شديدة الظلام، وأنت مضطر إلى سلوكه، ثم يأتيك من بيده مصباح يمشي به بين يديك، هل له فضل عليك أو لا؟ أي فضل لهذا؟! يقول: "فقيض الله لهم فيه مصابيح لهم فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لا بد لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ طفأت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟! هكذا العلماء في الناس، لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم،
ولا كيف يعبد الله في جميع ما يعبد إلا ببقاء العلماء، كلام في غاية الوضوح، تصور جمع غفير من الناس، أو بلد كبير ليس به عالم، كيف يتعبد الناس، كيف يعبد الناس ربهم على مراده -جل وعلا-؟ يقول: "فإذا مات العلماء تحير الناس، ودرس العلم بموتهم، وظهر الجهل، فإنا لله وإنا إليه راجعون، مصيبة ما أعظمها على المسلمين ... "إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.
............يتبع بفضل الله
_________________
التعديل الأخير تم بواسطة همسات مسلمة ; 10-26-2011 الساعة 01:56 AM