وقال البيضاوي في تفسيره: ({وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} كالحلي والثياب والأصباغ فضلا عن مواضعها لمن لا يحل أن تبدى له).
فإذا كان الوجه هو أصل الزينة بلا نزاع في النقل والعقل فإن الله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها وهذا عموم لا مخصص له من الكتاب والسنة ولا يجوز تخصيصه بقول فلان أو فلان فأي قول من أقوال الناس يخصص هذا العموم فهو مرفوض لأن عموم القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه بأقوال البشر، ولا يجوز تخصيصه عن طريق الاحتمالات الظنية، أو الاجتهادات الفردية، فلا يخصص عموم القرآن إلا بالقرآن الكريم أو بما ثبت من السنة المطهرة أو بإجماع سلف الأمة، ولذلك نقول: كيف يسوغ تحريم الفرع وهو الزينة المكتسبة وإباحة الأصل وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية.
والمراد بقوله جل وعلا: {إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} كما قال بذلك ابن مسعود رضي الله عنه، وجمع من علماء السلف من المفسرين وغيرهم: (ما لا يمكن إخفاؤه) كالرداء والثوب وما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب وما قد يظهر من غير قصد كما تقدمت الإشارة لذلك، فالمرأة منهية من أن تبدي شيئا من زينتها ومأمورة بأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة.
وحينما نهى سبحانه وتعالى المرأة عن إبداء شيء من زينتها إلا ما ظهر منها علمها سبحانه وتعالى كيف تحيط مواضع الزينة بلف الخمار الذي تضعه على رأسها فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ} يعني من الرأس وأعالي الوجه {عَلَى جُيُوبِهِنَّ} يعني الصدور حتى تكون بذلك قد حفظت الرأس وما حوى والصدر من تحته وما بين ذلك من الرقبة وما حولها لتضمن المرأة بذلك ستر الزينة الأصلية والفرعية.
وفي قوله تعالى أيضا في آخر هذه الآية:{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الدلالة على تحريمه
سبحانه على المرأة ما يدعو إلى الفتنة حتى بالحركة والصوت. وهذا غاية في توجيه المرأة المسلمة، وحث من الله لها على حفظ كرامتها ودفع الشر عنها.
ويشهد أيضا لتحريم خروج الزينة الأصلية أو المكتسبة فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزوجته صفية، وفعل أمهات المؤمنين، وفعل النساء المؤمنات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية وآية الأحزاب من الستر الكامل بالخمر والجلابيب، وكانت النساء قبل ذلك يسفرن عن وجوههن وأيديهن حتى نزلت آيات الحجاب.. وبذلك يعلم أن ما ورد في بعض الأحاديث من سفور بعض النساء كان قبل نزول آيات الحجاب فلا يجوز أن يستدل به على إباحة ما حرم الله لأن الحجة في الناسخ لا في المنسوخ كما هو معلوم عند أهل العلم والإيمان.
ومن آيات الحجاب الآية السابقة من سورة النور، ومنها قوله تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[2] قال العلماء: الجلابيب جمع جلباب وهو كل ثوب تشتمل به المرأة فوق الدرع والخمار لستر مواضع الزينة من ثابت ومكتسب.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} يدل على تخصيص الوجه؛ لأن الوجه عنوان المعرفة، فهو نص على وجوب ستر الوجه، وقوله تعالى: {فَلا يُؤْذَيْنَ} هذا نص على أن في معرفة محاسن المرأة إيذاء لها ولغيرها بالفتنة والشر، فلذلك حرم الله تعالى عليها أن تخرج من بدنها ما تعرف به محاسنها أيا كانت، ولو لم يكن من الأدلة الشرعية على منع كشف الوجه إلا هذا النص منه سبحانه وتعالى لكان كافيا في وجوب الحجاب وستر مفاتن المرأة، ومن جملتها وجهها، وهو أعظمها؛ لأن الوجه هو الذي تعرف به وهو الذي يجلب الفتنة. قالت أم سلمة: (لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها).
قال ابن عباس: (أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن
من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة).
وقال محمد بن سيرين: (سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى).وأقوال المفسرين في الموضوع كثيرة لا يتسع المقام لذكرها.
ومن آيات الحجاب أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}[3] فهذه الآية نص واضح في وجوب تحجب النساءعن الرجال وتسترهن منهم، وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية الحكمة في ذلك وهي أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها.
وهذه الآية عامة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من المؤمنات. قال القرطبي رحمه الله: (ويدخل في هذه الآية جميع النساء بالمعنى، وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الحجاب )، وقول القرطبي رحمه الله: إن صوت المرأة عورة؛ يعني إذا كان ذلك مع الخضوع،أما صوتها العادي فليس بعورة، لقول الله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[4] فنهاهن سبحانه عن الخضوع في القول لئلا يطمع فيهن أصحاب القلوب المريضة بالشهوة، وأذن لهن سبحانه في القول المعروف، وكان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلمنه ويسألنه عليه الصلاة والسلام ولم ينكر ذلك عليهن، وهكذا كان النساء في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يكلمن الصحابة ويستفتينهم فلم ينكروا ذلك عليهن، وهذا أمر معروف ولا شبهة فيه.