في اللغة : الوضوح والخلوص من الالتواء.
في الاصطلاح : إظهار الشخص ما تنطوي عليه نفسه من غير تحريف ولا مواربة بحيث تكون أفكاره واضحة جلية ، وبحيث توافق أفعاله أقواله
الصراحة والوضوح من أخلاق الكبار وأصحاب النفوس الكبيرة لأنهم الوحيدون القادرون على قول الحق ، وامتلاك الشجاعة التي يواجهون بها الآخرين ، فيُلجمون أنفسهم عن قول المداراة أو المجاملة في غير الحق .
فأقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم الواصل بينهما ، فأحياناً ما يلجأ البعض إلى تحوير الكلام وعرضه على الآخر بطريقة غامضة مبهمة ، رغبة في الحصول على معلومات أكثر من محدثه ، تُشبع فضوله وحب استطلاعه.
فهو يسعى إلى إرباك من يُحدثه ، ويُصيبه بنوع من البلبلة حتى يضطره إلى إخراج كل ما في جعبته ، مُحاولاً إيهامه بأنه يعلم كل شيء ولديه تفاصيل كل شيء.
وعلى الجانب الآخر : فإن من يُعامل هذه المعاملة يُحاول أيضاً المراوغة والمناورة أثناء الحديث محاولاً الهروب من زلات اللسان ، والخروج بأقل قدر من الأخطاء ، وإحداث نوع من التشتيت لمحدثه من خلال الردود الدبلوماسية التي فيها مداراة وتورية.
وغالباً ما تكون عبارات هذا الحديث تحمل الكثير من التأويلات ، وتتسم بالمداراة والغموض ، ويتحول هذا الحديث إلى مجموعة من الألغاز التي تحتاج إلى حاذق لفكها ومحلل ليتأولها.
من هنا نستطيع أن نُدرك أهمية الصراحة والوضوح وقيمتها في حديثنا ، وأنها – أي الصراحة والوضوح – تكفينا مئونة التعب والجهد في الحصول على المعلومة الصحيحة والصريحة المباشرة ، كما أنها تقضي على القيل والقال ، وأحاديث النفس التي يتصيدها الشيطان ويُكبرها لدينا فمثلاً عند حدوث مثل هذه الأحاديث
تكثر التساؤلات :
ماذا يقصد بقوله هذا ؟
هل يقصد إهانتي؟
هل يريد أن يحرجني ؟
ماذا وكيف ولماذا ..... ؟
وغيرها من علامات الاستفهام التي قد ينساق الشخص وراءها فتوقعه فيما حرم الله رغبة في إرضاء نفسه وإراحتها من هم الشك والتفكير جراء ما سَمِعَتْ من غموض في الحديث .
بيد أن هذا السلوك لدى البعض أصبح لازمة من لوازم الكلام في أحاديثهم ، وأصبح عدم الاستمرار فيه يُمثل عبئاً صعباً عليهم ، وفي حاجة إلى جهاد مرير حتى يتركوه.
وفي ظل غياب الصراحة والوضوح في أحاديث الناس مع بعضهم البعض فلا تتعجب أخي القارئ عندما ترى البغضاء قد انتشرت أوصالها بين الناس ، وكثر التنافر والتناحر وضرب بجذوره في العلاقات الإنسانية؟
إن الصراحة والوضوح من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحترم نفسها فتأبى عليها إلا القول بالحقيقة والبُعد عن الألغاز والغموض ، فأصحاب النفوس الكبيرة فقط هم الذين لا يأبهون بالآخرين ، فلا يضطرهم مركز ، أو يُجبرهم سلطان ، أن يقولوا غير الحقيقة في صراحة ووضوح.
فأصحاب النفوس الكبيرة والمتصفون بأخلاق الكبار لا يعترفون بالألغاز في ألفاظهم ، ويرفضون النفاق بأشكاله وألوانه ، ولا يستخدمون التُقية أو التورية في أحاديثهم ، بل الصراحة والوضوح ، والصفاء والنقاء ولا شيء غيرهما.
يظن البعض أن الصراحة والوضوح تعني سوء الأدب مع الآخر ، أو الخروج عن أطر اللياقة واللطف في الحديث.
ويظن البعض أن الصراحة والوضوح تعني التشهير والتجريح ، وإثارة الفتن من خلال النقد الغير بناء ونشر عيوب ومساوئ الآخرين.
وفي الحقيقة أن خلق الصراحة والوضوح بريء من ذلك الفهم القاصر ، ذلك أن الصراحة والوضوح لا يختلف عليهما عاقل في أن النفس تميل إليهما وترتاح لمن يتحدث بهما ، حتى وإن سبب لها ذلك بعض الحرج.
وأصحاب النفوس الكبيرة هم كذلك المؤهلون لتحمل صراحة محدثيهم ، ويُقدرون ذلك جيداً ، فلا يغضبون ، ولا تتغير وجوههم ، فيحملهم ذلك على معاداتهم أو خصامهم ومقاطعتهم وتحديهم ، أو مقابلة صراحتهم بالتهكم عليهم والإساءة لهم.
ذلك أن أصحاب النفوس الكبيرة ، يجعلون من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة لهم ، فلا يأبهون أين موقع نفوسهم فالأصل أن يكونوا على سنة نبيهم في تقبل صراحة الآخرين.
يُروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسيا فصلى ركعتين بدلاً من أربع فيقول له ذو اليدين – بكل أدب – يا نبي الله أنسيت أم قُصرت؟
فقال صلى الله عليه وسلم : لم أنس ولم تُقصر ؟
عندئذ تدخل الصحابة الحاضرون بكل صراحة ووضوح وفي أدب كامل أيضاً "بل نسيت يا رسول الله"
فلم يتغير عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يغضب لصراحتهم وقَالَ : "صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ"1
البعض منا اليوم يبالغ في المجاملات خاصة مع الشخصيات العامة ، وأصحاب المراكز العليا ، والمسئولين والرؤساء ، وتزداد المجاملة وضوحاً وظهوراً إذا كانت لا تتعدى حيز الكلمات والأقوال وتقل كلما دخلت في نطاق الأداء العملي.
وصراحة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها حدود ، فالنفاق لا يعرف لقلوبهم طريق ، والمداراة في الحق لا تعرف إلى حديثهم سبيل ، إنها الصراحة والوضوح التي تربوا عليهم ، والتي أعتقد أن البعض في وقتنا الحاضر يمكنه أن يُعلن لمديره الظالم عن حبه له وهو يتمنى لو لم يكن موجوداً.
فيا لصراحة الفاروق الذي أعلن حقيقة لم تستقر في قلبه بعد ولكنها واقعة في نفسه ، فعبر عن مشاعره كما هي دون زيادة أو نقصان وفي صراحة ووضوح وتجاه من؟ تجاه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وَاللَّهِ لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي" انظر أخي القارئ إلى هذه الصراحة التي تجلت في حديثه انه ينقل مشاعره وأحاسيسه ، ولكن لا تعجب إنه الفارق ، وإنها الشجاعة الأدبية ، والوضوح في الحديث .
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا نَفْسِي فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ عِنْدَهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ قَالَ عُمَرُ فَلَأَنْتَ الْآنَ وَاللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ يَا عُمَرُ"1
بعضنا اليوم يمنعه الحياء من الإستيثاق من كلام أشكل عليه استيعابه ، أو يتحرج من الاستفسار عن أمر صعب عليه فهمه من مُحدثه ، خاصة إذا كان ذلك المتحدث صاحب مركز أو سلطان ،
أو ذو مكانة ووجاهة.
أخي القارئ عُد بذاكرتك إلى الوراء ، واترك لخيالك العنان وعش معي بقلبك وعقلك وجوارحك ، واحجز لنفسك مقعداً ضمن الحضور في هذا المجلس المصيري ... بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والأنصار فيما يُعرف في كتب السيرة ببيعة العقبة ، فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمع بهم لأخذ العهد والميثاق.
فيقول رجل بعد أن تُعرض بنود البيعة ، ويُعبر عن حقيقة لا تزال في نفسه منها شيء ، ويحتاج إلى المزيد من الإستيثاق والتوضيح ، ولسان حاله يقول : لماذا أُخفي شيئاً في نفسي؟لماذا لا أجلي الأمر حتى لا يدخل القلق والشك والارتياب إلى قلبي؟
يقول ذلك الصحابي : "يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً – يعني اليهود - وإنَّا قاطعوها ، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا "
يا سبحان الله !! كم يغضب الكثيرون إذا استفهمت منهم أو حاولت الاستيضاح ، وقد تُتَهم بفقدان الثقة في القيادة ، أين الجندية؟ أين ... أين ؟
لقد كان الرد الحاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تبسم ثم قال : بَلْ الدَّمَ الدَّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ"1
رأينا في المثال السابق كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يُنكر على الصحابي حق الاستفهام أو الاستيضاح ، رغم أنه يحمل بعض علامات الريب والشك ، والخوف من التنصل منهم أو مجافاتهم ، ورغم عظمة من يُبرم العقد وأنه صاحب المقام الرفيع ، والنبي الموحى إليه من رب العالمين ، إلا أننا لاحظنا تبسمه صلى الله عليه وسلم التي بعث من خلالها برسالة إلى كل أصحاب الوجاهة والمكانة والرؤساء والمدراء والمسئولين – وهم غالباً من يحزنون من صراحة من حولهم ويتضجرون من صدقهم ووضوحهم – كانت رسالة لهم جميعاً لا تغضبوا ... لا تحزنوا ... فالصراحة والوضوح أفضل من الغش والخداع والنفاق.
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صحابته رضوان الله عليهم ، فلقد قام رجل يأمر الخليفة عمر بن الخطاب بالتقوى ، فيعترض بعض الحاضرين ، فيقول الفاروق :"دعوه فليقلها .. لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها"
مستوى الإيمان في نفس كل مؤمن هو الدافع الحقيقي للتحدث بصراحة ووضوح ، ذلك أن الإيمان الراسخ في القلب يقف حائلاً وسداً منيعاً أمام وساوس النفس الضعيفة التي تحاول أن تتجمل أو تتزين بقول غير الحقيقة ، فقد كان كعب ابن مالك رضي الله عنه أحد المخلفين عن غزوة تبوك (غزوة العسرة) وقد كان ذو لسان فصيح ، وحجة بليغة ، ومنطق في الحوار ، وقد كان يستطيع أن يختلق عذراً كما اختلق غيره ممن تخلفوا ، غير أن إيمانه الحق بربه ، وشجاعته الأدبية ، ومروءته الواضحة أبت إلا أن يقول الحق ، ويتحدث في صراحة ووضوح .
يقول الصحابي الجليل كعب ابن مالك رضي الله عنه: ".... فجئت أمشي حتى جلست بين يديه –أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – فقال لي :"ما خلفك؟"
قال : قلت : يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر ، لقد أُعطيت جدلاً .... والله ما كان لي من عذر .. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .
فأين أخي القارئ من يعترف بخطئه اليوم ؟ كم عددهم ؟ وكم نسبتهم ممن يتعللون بأعذار وما هي بأعذار!! يريدون أن يتنصلوا من خلالها بعهودهم ومواثيقهم واتفاقاتهم التي قطعوها على أنفسهم ؟
أنظر أخي القارئ إلى شجاعة الصحابي الجليل والتي يفتقدها الكثيرون الآن ،والذين يدفعهم الحرج إلى قول لا أقول الكذب ولكن أقول المداراة والتورية والتي يستخدمها البعض في غير موضعها، خوفاً من الحرج أو الظهور بمظهر الهارب.
والبعض قد آتاهم الله فصاحة في اللسان ، وبياناً في القول ، ومنطق في الجدل ، فهم يستطيعون إيهام السامع بمعنى يقصده ولا يقصدونه ، فهم يُعَرِّضون ببعض الكلمات التي تحمل معنيين أحدهما قريب وهو المقصود والآخر بعيد وهو غير مقصود ، فيُضلون الناس عن الحقيقة ، مستغلين بذلك المعاريض في غير موضعها ، وفي ذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنف من استغلال فصاحته وبيانه ومنطقه في الجدل من تضليل الآخر .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا"1
وتأكيداً على هذا المعنى فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عدَّ من يسلك هذا النهج ، ويتبع هذا السبيل في حديثه مع أخيه من الخيانة التي يجب على المسلم أن يبتعد عن الاتصاف بها ، أو التخلق بها ، عَنْ نَوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبُرَتْ خِيَانَةً تُحَدِّثُ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ مُصَدِّقٌ وَأَنْتَ بِهِ كَاذِبٌ"2 أما الذين يكرهون الصراحة ، ويغضبون من الوضوح ، ويحزنون ممن يقول لهم الحقيقة ، نقول لهؤلاء إن بإمكان محدثيكم أن يداروكم ظاهراً ، ويمقتونكم باطناً ، أن يُظهروا لكم الموالاة والتبعة والمحبة ، ويبطنون لكم المكائد والدسائس