حالالمبتدع تجاه الأحكام الشرعية
المبتدعيزعم بلسان حاله أن الله لم يكمل الدين، ولذلك أراد أن يضيف من عنده ما لم يأذن بهالله ورسوله، ولذلك سميت بدعة لأجل هذا، فإن المبتدع نازع الله عز وجل حق الانفرادبالتشريع، وأي لقب سوء أعظم من أن يكون المرء منازعاً لربه في حق التشريع؟! إنالنبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن للصحابة أن يزيدوا في المأذون فيه، فكيف يأذن لهمأن يخترعوا ما لم يأذن به الله ورسوله..؟! المشروع لا يجوز لك أن تزيد فيه، مع أنكتفعل ذلك زيادة قربى إلى ربك لتنال الأجر، ومع هذا لم يؤذن لك فيه. وحديث الثلاثةالذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته يريدون التقرب إلى اللهوالجد في العمل، فذهبوا إلى القدوة والأسوة، الذي ليس بعده مبتغى في الجد فيالعبادة، فسألوا عائشة فأخبرتهم أنه بشر كالبشر، يمارس حياته بصورة طبيعية، فلماسمعوا ذلك قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبهوما تأخر. ما معنى هذا التعليق؟ معناه أن هذه عبادة قليلة، لا يُرفع لها رأس، لكنهذا رسول الله سواء أكثر أو أقل في العبادة، فهو مغفور له. لكنه إذا احتقر الأسوةوميزان العمل.. ماذا يبقى له؟ إذا كان الأسوة في نظره قليل العمل، لكن الذي جبره أنالله غفر له ما تقدم من ذنبه، هذا أول درجات الطغيان بأن تعتقد أن النبي صلى اللهعليه وسلم قليل العبادة، لكنه مغفور له، ولذلك غضب النبي عليه الصلاة والسلام فجمعالناس، ولم يمرر هذا الموقف؛ لأنه يشتمل على أمر خطير، لو ترك هذا الأمر لكان فيهالضياع الكامل: أن يعتقد المرء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل العبادة. فقال: (ما بال أقوام يقولون كذا وكذا.. أما إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية(
قبولعمل المبتدع في الميزان
أنت لاتدري أي عملك يقبل، رب عمل جودته واعتديت به لا يساوي صفراً عند الله، ورب عملفعلته ولم تلق له بالاً هو الذي ينجيك، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاتحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) والماء سبيل، لكن لعلإفراغك من دلوك في دلو أخيك خير من قيام الليل طيلة عمرك، وهذا من أدل الدلائل علىأن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه ويكرهه ويسخطه، إنما نعرف ذلكبالوحي. وأضرب لكم بعض الأمثال التي هي خروج على القاعدة: لما خاض بعض المسلمين فيحديث الإفك وتكلموا، مجرد نقل كلام، لم يفتروا القصة من عند أنفسهم، رمى عبد اللهبن أبي ابن سلول عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي . إذاً: من المفتري؟ الذي تولى كبره هو رأس النفاق عبد الله بن أبي ، فبعض المسلمين نقل هذاالكلام، فقال بعضهم لبعض: (أولم تعلموا أن عائشة رميت بصفوان بن المعطل السلمي ؟ فقال الله عز وجل لهم: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، مجرد كلام ينقل لكنه عند الله عظيم. وفي صحيح البخاري ومسلم : (رب كلمةلا يلقي لها الرجل بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) (لا يلقي لها بالاً) أي: ما ظن أن تبلغ هذا المبلغ، كلمة خرجت منه فلتة، لم يلق لها بالاً، ولم يعرف خطورةالكلمة (تهوي به في النار سبعين خريفاً). وعلى المقابل: قال النبي صلى الله عليهوآله سلم -في الحديث المتفق عليه أيضاً-: (دخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته) امرأةبغي تتاجر بعرضها طيلة عمرها، آثام بعضها آخذ برقاب بعض، ظلمات بعضها فوق بعض،أيسقط هذا الذنب العظيم المتكرر سقيا كلب، هذا عمل لا يلقي المرء له بالاً، لكنالله غفر ذنوبها جميعاً به. إذاً: لا يستقل العبد في إدراك مرام التشريع، إنماالعبرة بالعبادة والاتباع والإخلاص، وليس الكثرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليهوسلم لهؤلاء الثلاثة: (أما إني أتقاكم لله) أنا أصلي مثلك، لكن ما بين صلاتنا كمابين السماء والأرض، رجل يتصدق وآخر يتصدق، هذا تقبل صدقته وهذا ترد عليه، والفعلواحد، لماذا قبل هذا ورد ذاك..؟ بسبب الإخلاص من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداًوتجي في الأول ماشٍ على مهله ويكون الأول، هذا بسبب الإخلاص، فرب عمل يسير يكونأعظم عند الله عز وجل في الميزان.
موقفالنبي عليه الصلاة والسلام من الإحداث فيالدين
جاء فيصحيح البخاري من حديث أبي جحيفة قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمانوأبي الدرداء، فجاء سلمان يوماً يزور أخاه، فرأى أم الدرداء متبذلة -أي: بثيابالمهنة- فقال لها: مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا. لا ينظر إلى زوجه، والزوج إذا كره النظر إلى زوجه أهملت الزوجة نفسها وأضاعتها،وليس هذا من فقه الزوجة، إذا أهمل الرجل النظر إلى المرأة فلا يجوز لها أن تهملزينتها، فإن الاستمرار في الزينة يجعل الرجل يرجع إلى زوجه، كما روى النسائي فيسننه: (أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن المرأة إذا تركتالزينة ثقلت، وكره زوجها النظر إليها). فهي امرأة لا يطلبها زوجها، ولا ينظر إليها،ولا يعيرها التفاتاً، فهي بثياب المهنة دائماً (مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبوالدرداء لا حاجة له في الدنيا. فجلس، وجاء أبو الدرداء فرحب بأخيه، ثم أمر بإعدادطعام، فقرب الطعام، قال له سلمان : كل. قال: إني صائم. -وفي غير البخاري قال: واللهلا أطعمه إلا إذا أكلت- قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، فلما جن الليل أراد أبوالدرداء أن يقوم ويصلي، فقال له سلمان : اجلس. فكره أبو الدرداء أن يخالفه؛ فنامحتى مضى شطر الليل، فقاما فصليا جميعاً، فلما أصبحا قال له سلمان : إن لنفسك عليكحقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه،فلما أصبحا أتيا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو الدرداء للنبي عليه الصلاةوالسلام مقالة سلمان ، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق سلمان ) وفي بعض الروايات:(( لقد أشبع سلمان علماً)، وفي رواية أخرى: (لقد أوتي سلمان فقهاً). هذه عبادات مأذونفيها، ومع ذلك كره الزيادة فيها. وجاء في الصحيحين من حديث أبي العباس الشاعر عنعبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صيامه وقيامه -القصة المعروفة- قال النبي عليهالصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو : (أولم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قال: أجل يا رسول الله، إني لأفعل ذلك. قال له: لا تفعل -وهذا ليس صداً عن العبادة، لكنهنظر إلى ما يئول إليه الأمر- فإنك إن فعلت هجمت عينك، ونفهت نفسك) (هجمت عينك) أي: غارت، ودخلت في المحاجر؛ بسبب كثرة السهر، (ونفهت نفسك) أي: ضعفت وذهب جدك، فنهاهعن الوصال والمواصلة. كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رجلاً فتياًآنذاك، فقبل الجد في العبادة، لكنه ندم في آخر عمره، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصةرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في المأذون فيه. وأيضاً لما كان النبي صلى اللهعليه وسلم في مزدلفة قال لابن عباس : (القط لي مثل حصى الخذف، وإياكم والغلو فيالدين!) الغلو: أن تحضر حجراً كبيراً وتقول في نفسك: هل ممكن أن أرمي الشيطانبحصوة؟! الشيطان لا يكفيه إلا حجراً كبيراً أقذفه بها، فنهى عن الغلو حتى في حجمالحجر؛ لأن الغلو يؤدي في النهاية إلى احتقار الشريعة، واعتقاد أن ما أمر الله عزوجل به لا يوصل العبد إلى مرضاة الله، فيخرج المرء من الشريعة في آخر الأمر، فنهىعن كل غلو يفضي إلى ذلك. وهناك من يضرب بهم المثل في هذا الباب وهم الخوارج، قالعليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يقرءونالقرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية). فرجل مصلومزكٍ وقارئ قرآن، وهذا أعلى ما يحصله الإنسان، ومع ذلك يخرجون من الدين كما يخرجالسهم من الرمية، ما نفعتهم صلاتهم ولا صيامهم ولا قراءتهم للقرآن، فاعتبروا بهذا. المأذون فيه نهاك عن الزيادة فيه، أيأذن لك أن تخترع شيئاً لم يشرعه الله ورسوله؟! إن هذا أشد في المقت، فالمبتدع مضاد لله عز وجل في حكمه، منازع له في حق التشريع،إذ إنه شرع شيئاً لم يأذن به الله ورسوله، وقد ذم الله عز وجل البدع وأهلها،والمعاصي وأهلها، لكن البدع تدخل دخولاً أولياً في المناهي؛ لأن أعظم المناهي هيالبدع. ......
قبس من كلام الشيخ الحويني