حمد لله حمدا يليق بجلال قدره وعظيم شأنه حمدا كثيرا طيبا مبارك يملآ السماوات والارض وما بينهما حمدا عدد ما نزل المطر وعدد ما خلق من بشر وعدد منابت الشجر وانفاس البشر . واثني واسلم على المصطفي الامين شفيعنا يوم الدين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ،
الحمد لله والصلاة والسلام على خير خلق الله محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين- أما بعد:
يطيب لى احبتي في الله اختيار هذه الاطروحة القيمة والهادفة وما تحويه من آى من الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف.. لنأمل ان تعم الفائدة للجميع ونتقاسم سويا معكم اجرها وثوابها..
الحديث الشريف..
و حدثني يحيى عن مالك عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه أخبره عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب
سئل عن هذه الآية
وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين
فقال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربه الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله ربه النار
و حدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه
المنتقى شرح موطأ مالك
( ش ) : قول مسلم بن يسار الجهني سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية دليل على أن الصحابة كانت تتكلم في هذه المعاني من الاعتقادات , وتبحث عن حقائقها وتعتني بذلك حتى تظهره وتسأل عنه الأئمة والخلفاء لتقف على الصواب منه , وتنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما حفظته عنه , وأن قول من قال من علماء التابعين كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل إنما ينصرف إلى أحد أمرين إما أن يتوجه المنع في ذلك إلى من ليس من أهل العلم ممن يخاف أن تزل قدمه ويتعلق قلبه بشبهة لا يقدر على التخلص منها قال مالك رحمه الله : كان يقال لا تمكن زائغ القلب من أذنك فإنك لا تدري ما يقلقك من ذلك , ولقد سمع رجل من الأنصار من أهل المدينة شيئا من بعض أهل القدر فعلق قلبه فكان يأتي إخوانه الذين يستصحبهم فإذا نهره قال فكيف بما علق قلبي لو علمت أن الله رضي أن ألقي نفسي من فوق هذه المنارة فعلت , والوجه الثاني أن يتوجه المنع في ذلك أن يتكلم في ذلك بمذاهب أهل البدع ومخالفي السنة .
( فصل ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه يقتضي أن الباري تعالى موصوف بأن له يمينا قال الله تبارك وتعالى والسماوات مطويات بيمينه وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يد الله ملأى لا تغيضها نفقة ورواه معمر عن هشام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يمين الله ملأى لا يغيضها شيء سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص مما في يده وعرشه على الماء وبيده الأخرى القبض أو الفيض يرفع ويخفض , وروى مالك عن صعصعة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يقرأ قل هو الله أحد , والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن , وقال الله عز وجل بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول شيء خلقه الله عز وجل القلم خلقه فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين وأجمع أهل السنة على أن يديه صفة وليست بجوارح كجوارح المخلوقين ; لأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله يضع السماوات على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع والأنهار على أصبع وسائر الخلق على أصبع , ثم يقول بيده أنا الملك أين ملوك الأرض فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا منه وتصديقا له , ثم قال صلى الله عليه وسلم وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه وقال جماعة من أهل العلم الأصبع النعمة .
( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون يقتضي والله أعلم أنه خلق هؤلاء ليدخلهم الجنة , وخلق هؤلاء ليدخلهم النار , وخلق هؤلاء ليعملوا بعمل أهل الجنة وخلق هؤلاء ليعملوا بعمل أهل النار , وروى عبد الله بن مسعود حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما أو أربعين ليلة , ثم يكون علقة مثله , ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث الله إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد , ثم ينفخ فيه الروح فإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبين النار إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها , وهذا يقتضي أنه سبق الكتاب بما يعمل وبما يصير إليه , وأنه قد سبق الكتاب بأن يعمل في أول عمره عملا صالحا , ثم في آخره عملا سيئا , ثم يموت عليه وينقلب إليه وقد سبق الكتاب بأن يعمل في أول عمره عملا سيئا وفي آخره عملا صالحا , ثم يموت عليه فيصير إليه .
( فصل ) وقوله فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل معناه فإذا كان قد يسبق الكتاب بمكان أحدنا من الجنة أو النار , وأنه لا محيد عنه ولا بد منه فلم نتكلف العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة , وإذا خلقه للنار استعمله بعمل أهل النار يريد صلى الله عليه وسلم والله أعلم أنه قد سبق الكتاب بما عمل من خير أو شر كما قد سبق الكتاب بما يصير إليه من الجنة أو النار وقد روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنا في جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل قال أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة , وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة , ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى الآية .
( فصل ) وقوله صلى الله عليه وسلم حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله ربه الجنة , وفي أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله ربه النار يقتضي أن آخر الإنسان أحق به , وعليه يجازى وقد تقدم ذلك في حديث ابن مسعود ووجهه أنه إذا كان أول عمله سيئا , وآخره حسنا فقد تاب من السيء وحكمه حكم التائبين ومن انتقل من العمل الصالح إلى السيء فحكمه حكم المرتد , والمنتقل إلى الفسوق على ذلك يكون جزاؤه . والله أعلم .
( ش ) : قوله صلى الله عليه وسلم تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما على سبيل الحض على تعلمها أو التمسك بهما والاقتداء بما فيهما وبين صلى الله عليه وسلم الأمرين فقال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يريد والله أعلم ما سنه وشرعه , وأنبأنا عن تحليله وتحريمه وغير ذلك من سننه , وهذا فيما كان فيه كتاب أو سنة , وما لم يكن فيه كتاب ولا سنة فمردود إليهما ومعتبر بهما وقد روى ابن وهب عن مالك في المجموعة الحكم على وجهين فالذي يحكم بالقرآن فذلك الصواب , والذي يجهد العالم نفسه فيه فيما لم يأت فيه شيء فلعله يوفق , وثالث متكلف بما لا يعلم فما أشبه أن لا يوفق مقتضى هذا والله أعلم أن الحكم بالكتاب والسنة مقدم فيما فيه كتاب أو سنة , وما عدم ذلك فيه اجتهد العالم فيه بالرأي والقياس والرد إلى ما ثبت بالكتاب والسنة , وأما الجاهل فلا يتعرض لذلك فإنه متكلف بما لا يعلم وبما لم يكلفه , ويوشك أن لا يوفق .