4- بذل الجهد في تأمين الأرزاق للناس: فقد قال عمر: إن سلمني الله لأدعنّ أرامل العراق وهن لا يحتجن إلى أحد بعدي، ونحن لا ننسى موقف عمر عام الرمادة، حين حل الجوع بالناس، فإنه وضع جميع إمكانيات الدولة لحل الأزمة وإشباع البطون الجائعة، فقد روى البيهقي في سننه أن عمر أنفق على أهل الرمادة حتى وقع المطر، فترحلوا، فخرج إليهم عمر راكباً فرساً، فنظر إليهم وهم يترحلون بظعائنهم، فدمعت عيناه، فقال رجل من بني محارب بن خصفة: أشهد أنها انحسرت عنك، ولست بابن أمة ? يمتدح عمر ? فقال له عمر: ويلك، ذلك لو أنفقت من مالي أو من مال الخطاب، إنما أنفقت من مال الله([173])، وقد قال رضي الله عنه: ولكم عليّ ألا أجتبي شيئاً من خراجكم ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليّ أن أزيد أعطياتكم وأرزاقكم إن شاء الله([174])، وقد أخذ توزيع الأعطيات في عهد عمر شكلاً دورياً منتظماً، ولم يكن ذلك خاصاً بسكان البلدان، بل إن القبائل في البادية شملتها الأعطيات، فقد كان عمر بن الخطاب يدور في القبائل القريبة من المدينة ويوزع عليهم أعطياتهم بنفسه وكان يكتب إلى بعض ولاته أن أعط الناس أعطياتهم وأرزاقهم فكتب إليه عمر أنه فيئهم الذي أفاء الله عليهم، ليس هو لعمر ولا آل عمر أقسمه بينهم([175])، ولم يكتف عمر بتأمين الأموال للناس بل إنه عمل على تأمين الطعام، ففي إحدى زيارته للشام قام إليه بلال بن رباح فقال: يا أمير المؤمنين إن أمراء أجنادك بالشام والله ما يأكلون إلا لحوم الطير والخبز النقي وما يجد ذلك عامة المسلمين، فقال لهم عمر رضي الله عنه ما يقول بلال؟ فقال له يزيد بن أبي سفيان، يا أمير المؤمنين إن سعر بلادنا رخيص وإنا نصيب هذا الذي ذكر بلال هنا بمثل ما كنا نقوت عيالاتنا بالحجاز فقال عمر رضي الله عنه: لا والله لا أبرح حتى تضمنوا لي أرزاق المسلمين في كل شهر. ثم قال انظروا كم يكفي الرجل ما يشتهيه؟ قالوا جريبين مع ما يصلحه من الزيت والخل عند رأس كل هلال فضمنوا له ذلك. ثم قال يا معشر المسلمين هذا لكم سوى أعطياتكم فإن وفّى لكم أمراؤكم بهذا الذي فرضت لكم عليهم، وأعطوكموه في كل شهر، فذلك أحب، وإن هم لم يفعلوا فأعلموني حتى أعزلهم وأولي غيرهم([176])، وقد كان عمر يحرص على توفير الطعام في البلدان ويتابع الأسواق ويمنع الاحتكار، وكذلك كان ولاته يقومون بمهمتهم في مراقبة الأسواق، كما كان يأمر التجار بالمسير في الآفاق والجلب على المسلمين وإغناء أسواقهم([177])، ولم يكتف الفاروق وولاته بتأمين الطعام ومراقبة الأسواق فقط، بل إن السكن وتوزيعه كان من المهام الموكلة لأمراء البلدان، فعند إنشاء الأمصار وتخطيطها وزعت الأراضي على الناس لسكناها في الكوفة والبصرة([178]) والفسطاط كما كان الأمراء يشرفون على تقسيم البيوت في المدن المفتوحة، كحمص ودمشق والاسكندرية وغيرها([179]). ● ● ● ● . 5- تعيين العمال والموظفين: كان تعيين العمال والموظفين في الوظائف التابعة للولاية في كثير من الأحايين من مهام الوالي حيث إن الولاية في الغالب تتكون من بلد رئيسي إضافة إلى بلدان وأقاليم أخرى تابعة للولاية، وهي بحاجة إلى تنظيم أمورها، فكان الولاة يعينون من مثلهم عمالاً وموظفين في تلك المناطق، سواء كانوا في مستوى أمراء، أو عمال خراج، وفي الغالب فإن هذا التعيين يتم بالاتفاق بين الخليفة والوالي([180]). ● ● ● ● . 6- رعاية أهل الذمة: كانت رعاية أهل الذمة واحترام عهودهم والقيام بحقوقهم الشرعية، ومطالبتهم بما عليهم للمسلمين من واجبات، وتتبع أحوالهم، وأخذ حقوقهم ممن يظلمهم انطلاقاً من الأوامر الشرعية في هذا الجانب، من واجبات الوالي، وقد كان الخلفاء يشترطون على الذميين في كثير من الأحيان شروطاً معينة قبل مصالحتهم، وبالتالي يوفون لهم بحقوقهم ويطالبون بما عليهم من شروط([181]). ● ● ● ● . 7- مشاورة أهل الرأي في ولايته وإكرام وجوه الناس: شدد عمر على الولاة في استشارة أهل الرأي في بلادهم، وكان الولاة يطبقون ذلك ويعقدون مجالس للناس لأخذ آرائهم، وكان يأمر ولاته باستمرار بمشاورة أهل الرأي([182])، وطلب من ولاته إنزال الناس منازلهم، فقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: بلغني أنك تأذن للناس جماً غفيراً، فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القران والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة؛ وكتب إليه أيضاً: لم يزل للناس وجوه يرفعون حوائج الناس، فأكرموا وجوه الناس، فإنه بحسب المسلم الضعيف أن ينتصف في الحكم والقسمة([183]). ● ● ● ● . 8- النظر إلى حاجة الولاية العمرانية: فقد قام سعد بن أبي وقاص بحفر نهر في ولايته بناء على طلب بعض كبار الفرس لصالح المزارعين في المنطقة([184])، كما كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يأمره بحفر نهر لأهل البصرة، وقام أبو موسى بحفر نهر طوله أربع فراسخ حتى تمكن من جلب المياه لسكان البصرة([185]) كما اعتنى ولاة عمر رضي الله عنه عند تأسيسهم للأمصار المشهورة الكوفة، والبصرة والفسطاط بتخطيط الشوارع وتوزيع الأراضي وبناء المساجد وتأمين المياه، وغير ذلك من المصالح العامة لهذه المدن، كما اهتم الولاة بتوطين السكان في المناطق غير المرغوب فيها، لقربها من العدو أو غير ذلك من الأسباب فقد قدموا لهم الإغراءات وأقطعوهم الأراضي تشجيعاً لهم على البقاء فيها، وقد فعل ذلك عمر وعثمان في إنطاكية وفي بعض بلاد الجزيرة. ● ● ● ● . 9- مراعاة الأحوال الاجتماعية لسكان الولاية: كان الوفد إذا قدموا على عمر رضي الله عنه سألهم عن أميرهم فيقولون خيراً، فيقول هل يعود مرضاكم؟ فيقولون نعم فيقول هل يعود العبد؟ فيقولون نعم فيقول كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها (لا عزله) ([186]) وكان عمر يقوم بعزل العامل إذا بلغه أنه لا يعود المريض ولا يدخل عليه الضعيف([187])، كما حرص عمر بن الخطاب على أن يظهر عماله بالمظهر المتواضع أمام الناس حتى يشعر الناس بأن ولاتهم منهم ولا يتميزون عنهم، فكان عمر يشترط على عماله مركباً وملبساً مماثلاً للناس، وينهاهم عن اتخاذ الأبواب والحجاب([188]). 10- عدم التفريق بين العربي وغيره: يجب على الولاة أن يقوموا بالمساواة بين الناس وأن لا يفرقوا بين العربي وغيره من المسلمين، فقد قدم قوم على عامل لعمر بن الخطاب، فأعطى العرب وترك الموالي، فكتب إليه عمر: أما بعد: فبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم وفي رواية، كتب إليه: ألا سويت بينهم([189]). كما أن هناك العديد من الواجبات الأخلاقية الأخرى التي أمر الإسلام بالتزامها مثل (الوفاء بالعهد، وإخلاص المرء في عمله، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، واستعداده للتعاون مع سائر الجماعة في كل أعمال البرّ والتقوى، ووجوب النصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن هذا ولا شك يؤدي إلى إصلاح حال الجماعة([190]))، وكان على الوالي، فضلاً عن الالتزام بهذه المعاني، نشرها بين الناس في ولايته وذلك من خلال خطبه وكتبه ومواعظه وتصرفاته، وقد كان الولاة في عصر الراشدين –بصفة إجمالية- نموذجاً صالحاً لهذه الأخلاقيات والواجبات، سواء في أشخاصهم وخصوصياتهم أم في سلوكهم العام مع الرعية([191]). ● ● ● ● . خامساً: الترجمة في الولايات، وأوقات العمل عند الولاة: 1- الترجمة في الولايات: إن عملية الترجمة تعتبر من الوظائف المساعدة لولاة البلدان في عصر الخلفاء الراشدين، والحاجة ماسة إليها، في كثير من الأحيان، وقد طلب عمر من ولاته في العراق أن يبعثوا إليه في المدينة بدهاقين من فارس ليتفاهم معهم حول قضايا الخراج، فبعثوا إليه بالدهاقين وبترجمان معهم([192])، وقد ذكر عن المغيرة بن شعبة أنه كان يجيد شيئاً من اللغة الفارسية وقام بالترجمة بين عمر والهرمزان في المدينة([193]). إن معرفة الترجمة أمر معروف في الدولة الإسلامية عموماً في عصر الخلفاء لراشدين وقبل ذلك، وإذا علمنا أن دواوين الخراج كانت بغير اللغة العربية، فإننا ندرك مدى الحاجة إلى وجود مترجمين في الولايات يتولون الترجمة في قضايا الخراج وغيرها خصوصاً أن العمال الرئيسيين على الخراج كانوا بالدرجة الأولى من العجم، كما أن انتشار الموالي والداخلين الجدد في الإسلام في البلدان الإسلامية المختلفة جعل الحاجة إلى الترجمة مهمة جداً في كثير من الأمور المتصلة بالقضاء وغيره، كما أن المفاوضات بين القواد الفاتحين وهم في الغالب من الولاة وبين أهل البلاد المفتوحة يحتاج إلى وجود المترجمين([194]). ● ● ● ● . 1- أوقات عمل الولاة: لم يكن هناك تنظيم دقيق لوقت العمل في عهد الفاروق، فقد كان الخليفة والولاة يعملون في جميع الأوقات، وليس عليهم حجاب حتى إن بعضهم يقوم بالتجول ليلاً وقدوتهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اشتهر بالمشي ليلاً وتفقد المدينة، وقد كان الناس يدخلون على الولاة في مختلف الأوقات ويقضون حاجاتهم دون أن يجد الناس من يمنعهم من الدخول على الولاة بحجة أن ذلك الوقت ليس وقت عمل، وقد اشتهر الولاة بحرصهم على إنجاز الأعمال أولاً بأول وعدم تأخيرها، وقد كتب عمر بن الخطاب في هذا المجال إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قائلاً: لا تؤخر عمل اليوم إلى الغد فتدال عليك الأعمال، فتضيع، وأن للناس لنفرة عن سلطانهم أعوذ بالله أن تدركني وإياكم وضغائن محمولة ودنيا مؤثرة وأهواء متبعة([195]). المبحث الثالث: متابعة الولاة ومحاسبة عمر لهم: ● ● ● ● . أولاً: متابعة الولاة: لم يكن عمر يرضى بأن يهتم بحسن اختيار عماله، بل كان يبذل أقصى الجهد لمتابعتهم بعد أن يتولوا أعمالهم ليطمئن على حسن سيرتهم ومخافة أن تنحرف بهم نفوسهم، وكان شعاره لهم: خيرُ لي أن أعزل كل يوم والياً من أن أبقي ظالماً ساعة نهار([196])، وقال: أيما عامل لي ظلم أحداً فبلغني مظلمته فلم أغيرها، فأنا ظلمته([197])، وقال يوماً لمن حوله: أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليّ؟ فقالوا: نعم: قال: لا حتى أنظر في عمله، أعَمِل بما أمرته أم لا([198]). وقد سار رضي الله عنه بحزم في رقابته الإدارية لعماله وتابعهم بدقة، وكانت طريقة عمر في الإدارة إطلاق الحرية للعامل في الشؤون المحلية وتقييده في المسائل العامة ومراقبته في سلوكه وتصرفاته، وكان له جهاز سري، مربوط به لمراقبة أحوال الولاة والرعية، وقد بينت لنا المصادر التاريخية أن ما يشبه اليوم (المخابرات) كان موجوداً عند عمر فقد كان علمه: بمن نأى عنه من عماله بمن بات معه في مهاد واحد، وعلى وساد واحد فلم يكن في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي عامل أو أمير جيش إلا وعليه عين لا يفارقه، فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممس ومصبح، وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الناس إليه وأخصّهم([199])، وكانت وسائل عمر في متابعتة لعماله متعددة منها: ● ● ● ● . 1- طلب من الولاة دخول المدينة نهاراً: كان رضي الله عنه يطلب من ولاته – القادمين إلى المدينة – أن يدخلوها نهاراً، ولا يدخلوها ليلاً، حتى يظهر ما يكون قد جاءوا به من أموال ومغانم فيسهل السؤال والحساب([200]). ● ● ● ● . 2- طلب الوفود من الولاة: كان عمر رضي الله عنه يطلب من الولاة أن يرسلوا وفوداً من أهل البلاد ليسألهم عن بلادهم، وعن الخراج المفروض عليهم ليتأكد بذلك من عدم ظلمهم، ويطلب شهادتهم فكان يخرج إليه مع خراج الكوفة عشرة من أهلها، ومع خراج البصرة مثلهم، فإذا حضروا أمامه شهدوا بالله أنه مال طيب، ما فيه ظلم مسلم ولا معاهد([201])، وكان هذا الإجراء كفيلاً بمنع الولاة من ظلم الناس إذ لو حدث هذا لرفعه هؤلاء الموفدون إلى أمير المؤمنين وأخبروه به، كما أن عمر في الغالب كان يقوم بمناقشة هؤلاء الموفدين وسؤالهم عن بلادهم وعن ولا تهم وسلوكهم معهم([202]). ● ● ● ● . 3- رسائل البريد: كان عمر رضي الله عنه يرسل البريد إلى الولاة في الأمصار فقد كان يأمر عامل البريد عندما يريد العودة إلى المدينة أن ينادي في الناس من الذي يريد إرسال رسالة إلى أمير المؤمنين؟ حتى يحملها إليه دون تدخل من والي البلد، وكان صاحب البريد نفسه لا يعلم شيئاً من هذه الرسائل، وبالتالي يكون المجال مفتوحاً أمام الناس لرفع أي شكوى أو مظلمة إلى عمر نفسه دون أن يعلم الوالي أو رجاله بذلك، وحينما يصل حامل الرسائل إلى عمر ينثر ما معه من صحف ويقرأها عمر ويرى ما فيها([203]). ● ● ● ● . 4- المفتش العام (محمد بن مسلمة): كان محمد بن مسلمة الأنصاري يستعين به الفاروق في متابعة الولاة ومحاسبتهم والتأكد من الشكاوى التي تأتي ضدهم، فكان موقع محمد بن مسلمة كالمفتش العام في دولة الخلافة، فكان يتحرى على حقائق أداء الولاة لأعمالهم، ومحاسبة المقصرين منهم، فقد أرسله عمر لمراقبة ومحاسبة كبار الولاة([204])، والتحقيق في الشكايات ومقابلة الناس والسماع منهم ونقل آرائهم عن ولاتهم إلى عمر مباشرة، وكان مع محمد بن مسلمة أعوان. ● ● ● ● . 5- موسم الحج: كان موسم الحج فرصة لعمر ليستقي أخبار رعيته وولاته، فجعله موسماً للمراجعة والمحاسبة واستطلاع الآراء في شتى الأنحاء؛ فيجتمع فيه أصحاب الشكايات والمظالم، ويفد فيه الرقباء الذين كان عمر يبثهم في أرجاء دولته لمراقبة العمال والولاة ويأتي العمال أنفسهم لتقديم كشف الحساب عن أعمالهم، فكان موسم الحج ((جمعية عمومية كأرقى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور([205])، وكان عمر يلخص في موسم الحج واجبات عماله أمام الرعية ثم يقول: فمن فعل به غير ذلك فليقم )) فما قام من أهل الموسم – آنذاك – أحد إلا رجل واحد – مما يدل على عدالة هؤلاء الولاة ورضا الرعية عنهم – فقال ذلك الرجل: إن عاملك فلاناً ضربني مائة سوط؛ فسأل عمر العامل فلم يجد عنده جواباً، فقال للرجل قم فاقتص منه فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر، ويكون سُنَّة يأخذ بها بعدك، فقال عمر: أنا لا أقيد – أي اقتص – وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه؟ فقال عمرو: فدعنا فلنرضه، فقال: دونكم فأرضوه، فافتدى العامل من الرجل بمائتي دينار، كل سوط بدينارين([206]). ● ● ● ● . 6- جولة تفتيشية على الأقاليم: كان تفكير عمر قبل مقتله أن يجول على الولايات شخصياً لمراقبة العمال وتفقد أحوال الرعية، والاطمئنان على أمور الدولة المترامية، قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني، أما عمالهم فلا يدفعونها إليّ، وأما هم فلا يصلون إليّ، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة فأقيم بها شهرين ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، ثم والله لنعم الحول هذا([207])، وقد طبق عمر شيئاً من هذا خصوصاً في ولاية الشام حيث سار إليها عدة مرات وتفقد أحوالها ودخل بيوت ولاتها وأمرائها([208])، ليعرف أحوالهم عن كثب فقد دخل دار أبي عبيدة وشاهد حالته وتقشفه ودار بينه وبين امرأة أبي عبيدة حوار شديد ألقت فيه اللوم على عمر نتيجة ما يعيشون فيه من تقشف، كما زار دار خالد بن الوليد ولم يجد عنده شيئاً يلفت النظر سوى أسلحته التي كان منشغلاً بإصلاحها، وقد كان عمر أثناء دخوله على هؤلاء يدخل فجأة إذ يصحبه رجل فيطرق الباب على الوالي فيتكلم الرجل ويطلب الأذن بالدخول له ولمن معه دون أن يعلموا أنه عمر وحينما يدخل عمر إلى الدار يقوم بالتمحيص فيها والاطلاع على ما فيها من أثاث([209])، وقد سمع عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان ينوع في طعامه،فانتظر حتى إذا حان وقت عشاء يزيد استأذن عليه عمر، فلما رأى طعامه نهاه عن الإسراف في الطعام([210])، ولم يكتف عمر بالمراقبة عن طريق هذه الزيارات بل عمد إلى طريقة أخرى وهي إرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال كميات من الأموال إلى الولاة وإرسال من يراقبهم حتى يعرف كيف تصرفوا فيها فأرسل إلى أبي عبيدة بخمسمائة دينار فعمد إليها أبو عبيدة فقسمها كلها فكانت امرأته تقول: والله لقد كان ضرر دخول الدنانير علينا أكثر من نفعها ثم إن أبا عبيدة عمد إلى خلق ثوب كنا نصلي فيه فيشققه، ثم جعل يصبّر فيه من تلك الدنانير الذهب ويبعث بها إلى مساكين، فقسمها عليهم حتى فنيت([211])، وعمل عمر الشيء نفسه مع ولاة آخرين في سفرته تلك إلى الشام، ولم يكتف عمر بمراقبته للعمال أثناء سفره، بل كان يستقدمهم إلى المدينة ثم يوكل من يراقبهم في أكلهم وشربهم، ولباسهم، ويفعل ذلك بنفسه أيضاً([212]). ● ● ● ● . 7- الأرشيف أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة: كان عمر رضي الله عنه حريصاً كل الحرص على حفظ الأوراق الخاصة بالولايات وبالخلافة عموماً وكان أكثر حرصه على حفظ المعاهدات التي يجريها الولاة مع أهل البلاد المفتوحة منعاً لظلم أحد، فقد ورد أنه كان هناك تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، ويمكننا أن نطلق على هذا التابوت (الأرشيف) أو الملفات الخاصة بأعمال الخلافة، ولعل الولاة أيضاً كانوا يحتفظون بأوراقهم ومكاتباتهم للعودة إليها عند الحاجة وحتى لا تلتبس عليهم الأمور([213]). ● ● ● ● . ثانياً: شكاوى من الرعية في الولاة: كان عمر رضي الله عنه يحقق بنفسه في شكاوى الرعية ضد ولاتهم وكان يحرص على استيضاح الأمر، والتحقيق الدقيق واستشارة أصحاب الرأي والشورى الذين كانوا من حوله، ثم كانت تأتي أوامره في تنفيذ الجزاء والعقوبة على من يستحق سواء أكان عاملاً أم من الرعية([214])، وهذه بعض الشكاوى ضد الولاة وكيف تعامل عمر معها رضي الله عنه: ● ● ● ● . 1- شكوى أهل الكوفة في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: اجتمع نفر من أهل الكوفة بزعامة الجراح بن سنان الأسدي فشكوا أميرهم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين عمر، وذلك في حال اجتماع المجوس في نهاوند لغزو المسلمين، فلم يشغلهم ما داهم المسلمين في ذلك، ولقد كان سعد عادلاً رحيماً بالرعية قوياً حازماً على أهل الباطل والشقاق، عطوفاً على أهل الحق والطاعة، ومع ذلك شغب عليه هؤلاء القوم ممن لا يطيقون حكم الحق ويريدون أن يحققوا شيئاً من أهوائهم، وقد وقتوا لشكواهم وقتاً رأوا أنه أدعى لسماع أمير المؤمنين منهم حيث كان المسلمون مقبلين على معركة مصيرية تستدعي اتفاق كلمة المسلمين وتظافر جهودهم في مواجهتها، وحيث كانوا يعلمون اهتمام عمر الشديد باجتماع كلمة المسلمين دائماً، وخاصة في مثل تلك الظروف، فرجوا أن يفوزوا ببغيتهم، وقد استجاب أمير المؤمنين لطلبهم في التحقيق في أمر شكواهم مع علمه بأنهم أهل هوى وشر، ولم يكتمهم اعتقاده فيهم، بل صرّح لهم بذلك، وبين لهم أن اعتقاده بظلمهم لواليهم وتزويدهم الحقائق لا يمنعه من التحقيق في أمرهم، واستدل على سوء مقصدهم بتوقيتهم السيء حيث قال لهم: إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعدّ لكم من استعدوا،، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزلوا بكم([215])، فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للأعاجم والأعاجم في الاجتماع، وكان محمد بن مسلمة هو صاحب العمال الذي يقتص آثار من شُكي زمان عمر فقدم محمد على سعد ليطوف به في أهل الكوفة، والبعوث تضرب على أهل الأمصار إلى نهاوند، فطوَّف به على مساجد أهل الكوفة، لا يتعرض للمسألة عنه في السر، وليست المسألة في السر من شانهم إذ ذاك([216]). وفي هذا بيان لمنهج الصحابة رضي الله عنهم في التحقيق في قضايا الخلاف التي تجري بين المسؤولين ومن تحت ولايتهم، فالتحقيق يتم في العلن، وذلك بحضور المسؤول والذين هو مسؤول عنهم وكان لا يقف على مسجد فيسألهم عن سعد إلا قالوا: لا نعلم إلا خيراً ولا نشتهي به بدلاً، ولا نقول فيه ولا نعين عليه، إلا من مالأ الجراح بن سنان وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون لا يقولون سوءاً، ولا يسوغ لهم، ويتعمَّدون ترك الثناء، حتى انتهوا إلى بني عبس. فقال محمد: أنشد بالله رجلاً يعلم حقاً إلا قال، قال أسامة بن قتادة: اللهم إن نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية، فقال سعد: اللهم إن كان قالها كذباً ورئاء وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرِّضه لمضلات الفتن، فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه، قال: دعوة سعد الرجل المبارك. قال: ثم أقبل – يعني سعد – على الدعاء على النفر، فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً وكذباً فاجهد بلاءهم، فجُهد بلاؤهم، فقطع الجراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن علي ليغتاله بساباط، وشُدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء – يعني الضرب – بنعال السيوف – يعني بأعقابها – هذا وإن في هذا الخبر نموذجاً من معية الله تعالى لاوليائه المتقين حيث استجاب الله تعالى دعوة سعد على من ظلموه فأصيبوا جميعاً بما دعا عليهم، وإن في استجابة الله تعالى دعاء سعد وأمثاله لوناً من العناية الإلهية بأولياء الله المتقين، فكم خاف المبطلون من هذا السلاح الخفي الذي لا يملكون بكل وسائلهم المادية مقاومته ولا الحدَ منه، وكون هؤلاء الذين دعا عليهم سعد خُتم لهم بالخاتمة السيئة دليل على تمكن الهوى والشر من نفوسهم حتى أدى بهم ذلك إلى المصير السيء، وقد دافع سعد عن نفسه فقال: إني لأول رجل أهرق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله أبويه، وما جمعهما لأحد قبلي – يعني حينما قال له يوم أحد: إرم فداك أبي وأمي – ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أن أصلي وأن الصيد يلهيني، وخرج محمد بن مسلمة به وبهم إلى عمر حتى قدموا عليه، فأخبره الخبر، فقال: يا سعد ويحك كيف تصلي؟ قال: أطيل الأُوليين وأحذف الأخريين، فقال هكذا الظن بك، ثم قال عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنا، ثم قال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره واستعمله([217]) وقول عمر رضي الله عنه: لولا الاحتياط كان سبيلهم بينا يعني قد اتضح أمرهم، وأنهم ظالمون جاهلون، وظهرت براءة سعد مما نسبوه إليه، ولكن الاحتياط لأمر الأمة يقتضي درء الفتن وإماتتها وهي في مهدها قبل أن تستفحل فتسبَّب الشقاق والفرقة وربما القتال، وإذا كان المسئول المدَّعى عليه بريئاً مما نُسب إليه، فإن ذلك لا يضره بشيء، وقد برئت ساحته مما نسب إليه من التهمة، وقد كانوا يفهمون الولاية مغرماً لا مغنماً، وتكليفاً يرجون به ثواب الله تعالى، فالولاية على أمر من أمور المسلمين نوع من الأعمال الصالحة لمن اتقى الله تعالى وأراد رضوانه والدار الآخرة، فإذا تحول هذا العمل إلى مصدر للفتنة فإن الحكمة تقتضي عدم الاستمرار فيه، كما هو الحال في هذه الواقعة، ولكل حادث حديث وهذا هو ما أقدم عليه عمر حينما أعفى سعداً من العمل، وكلّف نائبه الذي هو موضع ثقة سعد([218]). هذا وقد استبقى عمر سعداً رضي الله عنهما في المدينة وأقر من استخلفه سعد على الكوفة بعده، وصار سعد من مستشاري عمر في المدينة([219])، ثم جعله من الستة المرشحين للخلافة حين طعن ثم أوصى الخليفة من بعده بأن يستعمل سعداً (فإني لم أعزله عن سوء، وقد خشيت أن يلحقه من ذلك([220]). . ● ● ● ●