مشاهدة النسخة كاملة : مجالس شهر رمضان|للشيخ ابن عثيمين رحمه الله
-قمر الليالي-
05-23-2018, 03:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
https://b.top4top.net/p_870icg4j1.png
مجالس شهر رمضان _ للشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله
المجلس الأول: في فضل شهر رمضَان
الحمدُ للهِ الذي أنشأَ وبَرَا، وخلقَ الماءَ والثَّرى، وأبْدَعَ كلَّ شَيْء وذَرَا، لا يَغيب عن بصرِه صغيرُ النَّمْل في الليل إِذَا سَرى، ولا يَعْزُبُ عن علمه
مثقالُ ذرةٍ في الأرض ولاَ في السَّماء، {لَهُ مَا فِي السَّمَوَتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى *
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى} [طه: 6 - 8]، خَلَقَ آدَمَ فابتلاه ثم اجْتَبَاهُ فتاب عليه وهَدَى، وبَعَثَ نُوحاً فصنَع الفُلْكَ بأمر الله وجَرَى، ونَجَّى
الخَليلَ من النَّارِ فصار حَرُّها بَرْداً وسلاماً عليه فاعتَبِرُوا بِمَا جَرَى، وآتَى مُوسى تسعَ آياتٍ فَمَا ادَّكَرَ فِرْعَوْنُ وما ارْعَوَى، وأيَّدَ عيسى بآياتٍ تَبْهَرُ الوَرى،
وأنْزلَ الكتابَ على محمد فيه البيَّناتُ والهُدَى، أحْمَدُه على نعمه التي لا تَزَالُ تَتْرَى، وأصلِّي وأسَلِّم على نبيِّه محمدٍ المبْعُوثِ في أُمِ القُرَى، صلَّى الله
عليه وعلى صاحِبِهِ في الْغارِ أبي بكرٍ بلا مِرَا، وعلى عُمَرَ الْمُلْهَمِ في رأيه فهُو بِنُورِ الله يَرَى، وعلى عثمانَ زوجِ ابْنَتَيْهِ ما كان حديثاً يُفْتَرَى، وعلى
ابن عمِّهِ عليٍّ بَحْرِ العلومِ وأسَدِ الشَّرى، وعلى بَقيَةِ آله وأصحابِه الذين انتَشَرَ فضلُهُمْ في الوَرَىَ، وسَلَّمَ تسليماً.
إخواني: لقد أظَلَّنَا شهرٌ كريم، وموسمٌ عظيم، يُعَظِّمُ اللهُ فيه الأجرَ ويُجْزلُ المواهبَ، ويَفْتَحُ أبوابَ الخيرِ فيه لكلِ راغب، شَهْرُ الخَيْراتِ والبركاتِ،
شَهْرُ المِنَح والْهِبَات، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، شهرٌ مَحْفُوفٌ بالرحمةِ
والمغفرة والعتقِ من النارِ، أوَّلُهُ رحمة، وأوْسطُه مغفرةٌ، وآخِرُه عِتق من النار. اشْتَهَرت بفضلِهِ الأخبار، وتَوَاتَرَت فيه الاثار، ففِي الصحِيْحَيْنِ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إِذَا جَاءَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدتِ الشَّياطينُ».
وإنما تُفْتَّحُ أبوابُ الجنة في هذا الشهرِ لِكَثْرَةِ الأعمالِ الصَالِحَةِ وتَرْغِيباً للعَاملِينْ، وتُغَلَّقُ أبوابُ النار لقلَّة المعاصِي من أهل الإِيْمان، وتُصَفَّدُ الشياطينُ
فَتُغَلُّ فلا يَخْلُصونُ إلى ما يَخْلُصون إليه في غيرِه. وَرَوَى الإِمامُ أحمدُ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال:
«أُعْطِيَتْ أمَّتِي خمسَ خِصَال في رمضانَ لم تُعْطهُنَّ أمَّةٌ من الأمَم قَبْلَها؛ خُلُوف فِم الصائِم أطيبُ عند الله من ريح المسْك، وتستغفرُ لهم الملائكةُ
حَتى يُفطروا، ويُزَيِّنُ الله كلَّ يوم جَنتهُ ويقول: يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُواْ عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتُصفَّد فيه مَرَدةُ
الشياطين فلا يخلُصون إلى ما كانوا يخلُصون إليه في غيرهِ، ويُغْفَرُ لهم في آخر ليلة، قِيْلَ يا رسول الله أهِيَ ليلةُ القَدْرِ؟ قال: لاَ ولكنَّ العاملَ
إِنما يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قضى عَمَلَه» (رواه البزار والبيهقي في كتاب الثواب وإسناده ضعيف جداً،لكن لبعضه شواهد صحيحة).
إخواني: هذه الخصالُ الخَمسُ ادّخَرَها الله لكم، وخصَّكم بها
مِنْ بين سائِر الأمم، وَمنَّ عليكم ليُتمِّمَ بها عليكُمُ النِّعَمَ، وكم لله عليكم منْ نعم وفضائلَ: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
الخَصْلَةُ الأولى:
أن خُلْوفَ فَمِ الصائِم أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسك (رواه البخاري ومسلم)، والخلوف بضم الخاءِ أوْ فَتْحَها تَغَيُّرُ رائحةِ الفَم عندَ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ من الطعام.
وهي رائحةٌ مسْتَكْرَهَةٌ عندَ النَّاس لَكِنَّها عندَ اللهِ أطيبُ من رائحَةِ المِسْك لأنَها نَاشِئَةٌ عن عبادة الله وَطَاعَتهِ. وكُلُّ ما نَشَأَ عن عبادته وطاعتهِ فهو محبوبٌ
عِنْدَه سُبحانه يُعَوِّضُ عنه صاحِبَه ما هو خيرٌ وأفْضَلُ وأطيبُ. ألا تَرَوْنَ إلى الشهيدِ الذي قُتِلَ في سبيلِ اللهِ يُريد أنْ تكونَ كَلِمةُ اللهِ هي الْعُلْيَا يأتي يوم الْقِيَامَةِ
وَجرْحُه يَثْعُبُ دماً لَوْنُهَ لونُ الدَّم وريحُهُ ريحُ المسك؟ وفي الحَجِّ يُبَاهِي اللهُ الملائكة بأهْل المَوْقِفِ فيقولُ سبحانَه: «انْظُرُوا إلى عبادِي هؤلاء جاؤوني شُعْثاً
غُبْراً». رواه أحمد وابن حبَّان في صحيحه (صحيح بشواهده)، وإنما كانَ الشَّعَثُ محبوباً إلى اللهِ في هذا الْمَوْطِنِ لأنه ناشِأُ عَن طاعةِ اللهِ باجتنابِ مَحْظُوراتِ
الإِحْرام وترك التَّرَفُّهِ.
الخَصْلَةُ الثانيةُ:
أن الملائكةَ تستغفرُ لَهُمْ حَتَّى يُفْطروا. وَالملائِكةُ عبادٌ مُكْرمُون عند اللهِ {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحرم: 6]. فهم جَديْرُون
بأن يستجيبَ الله دُعاءَهم للصائمينَ حيث أذِنَ لهم به. وإنما أذن الله لهم بالاستغفارِ للصائمين مِنْ هذه الأُمَّةِ تَنْويهاً بشأنِهم، ورفْعَةً لِذِكْرِهِمْ، وَبَياناً
لفَضيلةِ صَوْمهم، والاستغفارُ: طلبُ الْمغفِرةِ وهِي سَتْرُ الذنوب في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والتجاوزُ عنها. وهي من أعْلىَ المطالبِ وأسْمَى الغَاياتِ فَكلُّ بني
آدم خطاؤون مُسْرفونَ على أنفسِهمْ مُضْطَرُّونَ إلَى مغفرة اللهِ عَزَّ وَجَل.
الخَصْلَةُ الثالثةُ:
أن الله يُزَيِّنُ كلَّ يوم جنَّتَهُ ويَقول: «يُوْشِك عبادي الصالحون أن يُلْقُوا عنهُمُ المَؤُونة والأَذَى ويصيروا إليك» فَيُزَيِّن تعالى جنته كلَّ يومٍ
تَهْيئَةً لعبادِهِ الصالحين، وترغيباً لهم في الوصولِ إليهَا، ويقولُ سبحانه: «يوْشِك عبادِي الصالحون أنْ يُلْقُوا عَنْهُمُ المؤونةُ والأَذَى»
يعني: مؤونَة الدُّنْيَا وتَعَبها وأذاهَا ويُشَمِّرُوا إلى الأعْمَالِ الصالحةِ الَّتِي فيها سعادتُهم في الدُّنْيَا والاخِرَةِ والوُصُولُ إلى دار السَّلامِ والْكَرَامةِ.
الخَصْلَةُ الرابعة:
أن مَرَدةَ الشياطين يُصَفَّدُون بالسَّلاسِل ( رواه البخاري ومسلم بلفظ: "صفدت الشياطين"، وابن خزيمة بلفظ: "الشياطين مردة الجن"،
وفي رواية النسائي: "مردة الشياطين ) والأغْلالِ فلا يَصِلُون إِلى ما يُريدونَ من عبادِ اللهِ الصالِحِين من الإِضلاَلِ عن الحق، والتَّثبِيطِ عن الخَيْر.
وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله لهم أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير. ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ
والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره.
الخَصْلَةُ الخامسةُ:
أن الله يغفرُ لأمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم في آخرِ ليلةٍ منْ هذا الشهر (1) إذا قَاموا بما يَنْبَغِي أن يقومُوا به في هذا الشهر
المباركِ من الصيام والقيام تفضُّلاً منه سبحانه بتَوْفَيةِ أجورِهم عند انتهاء أعمالِهم فإِن العاملَ يُوَفَّى أجْرَه عند انتهاءِ عمله.
وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه على عبادِهِ بهذا الأجْرِ مِنْ وجوهٍ ثلاثة:
الوجه الأول: أنَّه شَرَع لهم من الأعْمال الصالحةِ ما يكون سبَبَاً لمغَفرةِ ذنوبهمْ ورفْعَةِ درجاتِهم. وَلَوْلاَ أنَّه شرع ذلك ما كان لَهُمْ
أن يَتَعَبَّدُوا للهِ بها. فالعبادةُ لا تُؤخذُ إِلاَّ من وحي الله إلى رُسُلِه. ولِذَلِكَ أنْكَرَ الله على مَنْ يُشَّرِّعُونَ مِنْ دُونِه، وجَعَلَ ذَلِكَ نَوْعاً
مِنْ الشَّرْك، فَقَالَ سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِىَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّلِمِينَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى21].
الوجه الثاني: أنَّه وَفَّقَهُمْ للعملِ الصالح وقد تَرَكَهُ كثيرٌ من النَّاسِ. وَلَوْلا مَعُونَةُ الله لَهُمْ وتَوْفِيْقُهُ ما قاموا به. فلِلَّهِ الفَضْلُ والمِنَّة بذلك.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].
الوجه الثالث: أنَّه تَفَضَّلَ بالأجرِ الكثيرِ؛ الحَسنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ. فالْفَضلُ مِنَ الله
بِالعَمَلِ والثَّوَابِ عليه. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
إخْوانِي: بُلُوغُ رمضانَ نِعمةٌ كبيرةٌ عَلَى مَنْ بَلَغهُ وقَامَ بحَقِّه بالرِّجوع إلى ربه من مَعْصِيتهِ
إلى طاعتِه، ومِنْ الْغَفْلةِ عنه إلى ذِكْرِهِ، ومِنَ الْبُعْدِ عنهُ إلى الإِنَابةِ إِلَيْهِ:
يَا ذَا الَّذِي مَا كفاهُ الذَّنْبُ في رَجبٍ ... حَتَّى عَصَى ربَّهُ في شهر شعبانِ
لَقَدْ أظَلَّكَ شهرُ الصَّومِ بَعْدَهُمَا ... فَلاَ تُصَيِّرْهُ أَيْضاً شَهْرَ عِصْيانِ
وَاتْل القُرآنَ وَسَبِّحْ فيهِ مجتَهِداً ... فَإِنه شَهْرُ تسبِيحٍ وقُرْآنِ
كَمْ كنتَ تعرِف مَّمنْ صَام في سَلَفٍ ... مِنْ بين أهلٍ وجِيرانٍ وإخْوَانِ
أفْنَاهُمُ الموتُ واسْتبْقَاكَ بَعْدهمو ... حَيَّاً فَمَا أقْرَبَ القاصِي من الدانِي
اللَّهُمَّ أيْقِظنَا من رَقَدَات الغفلة، ووفْقنا للتَّزودِ من التَّقْوَى قَبْلَ النُّقْلَة، وارزقْنَا اغْتِنَام الأوقاتِ في ذيِ المُهْلَة، واغْفِر لَنَا
ولوَالِدِيْنا ولِجَمِيع المسلِمِين برَحْمتِك يا أَرحم الراحِمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
-قمر الليالي-
05-23-2018, 03:30 PM
المجلس الثاني: (( في فضلِ الصِّيَام ))
الحمدُ لله اللطيفِ الرؤوفِ المَنَّانِ، الْغَنِيِّ القويِّ السِّلْطَان، الحَلِيمِ الكَرِيم الرحيم الرحمن، الأوَّلِ فلا شَيْءٍ قبلَه، الاخِرِ فلا شَيْء بعده، الظَاهرِ فلا شَيْء فوْقَه، الباطِن فلا شَيْءٍ دُونَه، المحيطِ عِلْمَاٍ بما يكونُ وما كان، يُعِزُّ وَيُذِلُ، ويُفْقِرُ ويُغْنِي، ويفعلُ ما يشاء بحكْمتِهِ كلَّ يَوْم هُو في شان، أرسى الأرضَ بالجبالِ في نَوَاحِيها، وأرسَلَ السَّحاب الثِّقالَ بماءٍ يُحْييْها، وقَضَى بالفناءِ على جميع سَاكِنِيها لِيَجزِيَ الذين أساؤوا بِمَا عَمِلوا ويَجْزِي المُحْسنين بالإِحسان.
أحْمَدُه على الصفاتِ الكاملةِ الحِسَان، وأشكرُه على نِعَمِهِ السَّابغةِ وبَالشَّكرِ يزيد العطاء والامْتِنَان، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له المَلِكُ الدَّيَّان، وأشهد أنَّ محمداً عَبْدُهُ ورسولُهُ المبعوثُ إلى الإِنس والجان، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعينَ لهم بإحسان ما توالت الأزمان، وسلَّم تسليماً.
اخْوانِي: اعلمُوا أنَّ الصومَ من أفضَلِ العباداتِ وأجلِّ الطاعاتِ جاءَتْ بفضلِهِ الآثار، ونُقِلَتْ فيه بينَ الناسِ الأَخبار.
فَمِنْ فضائِلِ الصومِ أنَّ اللهَ كتبَه على جميعِ الأُمم وَفَرَضَهُ عَلَيْهم.
قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. ولَوْلاَ أنَّه عبادةٌ عظيمةٌ لاَ غِنَى لِلْخلقِ عن التَّعَبُّد بها للهِ وعما يَتَرَتَّب عليها مِنْ ثوابٍ ما فَرَضَهُ الله عَلَى جميعِ الأُمَمِ.
ومِنْ فضائل الصومِ في رَمضانَ أنَّه سببٌ لمغفرة الذنوبِ وتكفيرِ السيئاتِ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ صَامَ رمضان إيماناً واحْتساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدَّم مِن ذنبه» يعني: إيماناً باللهِ ورضاً بفرضيَّةِ الصَّومِ عليهِ واحتساباً لثَوابه وأجرهِ، لم يكنْ كارِهاً لفرضهِ ولا شاكّاً فيَ ثوابه وأجرهِ، فإن الله يغْفِرُ له ما تقدَم من ذنْبِه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصَّلواتُ الخَمْسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مُكفِّراتٌ مَا بينهُنَّ إذا اجْتُنِبت الْكَبَائر».
ومِنْ فضائِل الصوم أنَّ ثوابَه لا يَتَقَيَّدُ بِعَدَدٍ مُعيَّنٍ بل يُعطَى الصائمُ أجرَه بغير حسابٍ. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قال الله تعالى: كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ. والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ، والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدهِ لخَلُوفُ فمِ الصَّائم أطيبُ عند الله مِن ريح المسك، لِلصائمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهما؛ إِذَا أفْطَرَ فرحَ بِفطْرهِ، وإِذَا لَقِي ربَّه فرح بصومِهِ».
وَفِي رِوَايِةٍ لمسلم: «كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ لَهُ يُضَاعفُ الحَسَنَة بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِمائِة ضِعْفٍ، قَالَ الله تعالى إِلاَّ الصَومَ فإِنه لِي وأَنَا أجْزي به يَدَعُ شهْوَتَه وطعامه من أجْلِي».
وَهَذَا الحديثُ الجليلُ يدُلُّ على فضيلةِ الصومِ من وجوهٍ عديدةٍ:
الوجه الأول: أن الله اختصَّ لنفسه الصوم من بين سائرِ الأعمال، وذلك لِشرفِهِ عنده، ومحبَّتهِ له، وظهور الإِخلاصِ له سبحانه فيه، لأنه سِرُّ بَيْن العبدِ وربِّه لا يطَّلعُ عليه إلاّ الله. فإِن الصائمَ يكون في الموضِعِ الخالي من الناس مُتمكِّناً منْ تناوُلِ ما حرَّم الله عليه بالصيام، فلا يتناولُهُ؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يطَّلع عليه في خلوتِه، وقد حرَّم عَلَيْه ذلك، فيترُكُه لله خوفاً من عقابه، ورغبةً في ثوابه، فمن أجل ذلك شكر اللهُ له هذا الإِخلاصَ، واختصَّ صيامَه لنفْسِه من بين سَائِرِ أعمالِهِ ولهذا قال: «يَدعُ شهوتَه وطعامَه من أجْلي». وتظهرُ فائدةُ هذا الاختصاص يوم القيامَةِ كما قال سَفيانُ بنُ عُييَنة رحمه الله: إِذَا كانَ يومُ القِيَامَةِ يُحاسِبُ الله عبدَهُ ويؤدي ما عَلَيْه مِن المظالمِ مِن سائِر عمله حَتَّى إِذَا لم يبقَ إلاَّ الصومُ يتحملُ اللهُ عنه ما بقي من المظالِم ويُدخله الجنَّةَ بالصوم.
الوجه الثاني: أن الله قال في الصوم: «وأَنَا أجْزي به». فأضافَ الجزاءَ إلى نفسه الكريمةِ؛ لأنَّ الأعمالَ الصالحةَ يضاعفُ أجرها بالْعَدد، الحسنةُ بعَشْرِ أمثالها إلى سَبْعِمائة ضعفٍ إلى أضعاف كثيرةٍ، أمَّا الصَّوم فإِنَّ اللهَ أضافَ الجزاءَ عليه إلى نفسه من غير اعتبَار عَددٍ وهُوَ سبحانه أكرَمُ الأكرمين وأجوَدُ الأجودين، والعطيَّةُ بقدر مُعْطيها. فيكُونُ أجرُ الصائمِ عظيماً كثيراً بِلاَ حساب. والصيامُ صبْرٌ على طاعةِ الله، وصبرٌ عن مَحارِم الله، وصَبْرٌ على أقْدَارِ الله المؤلمة مِنَ الجُوعِ والعَطَشِ وضعفِ البَدَنِ والنَّفْسِ، فَقَدِ اجْتمعتْ فيه أنْواعُ الصبر الثلاثةُ، وَتحقَّقَ أن يكون الصائمُ من الصابِرِين. وقَدْ قَالَ الله تَعالى:
{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].
الوجه الثالث: أن الصَّومَ جُنَّةٌ: أي وقايةٌ وستْرٌ يَقي الصَّائِمَ من اللَّغوِ والرَّفثِ، ولذلك قال: «فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ وَلاَ يَصْخبْ»، ويقيه من النَّار. ولذلك روى الإِمام أحمدُ بإسْناد حَسَنٍ عن جابر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الصيام جُنَّةٌ يَسْتجِنُّ بها العبدُ من النار».
الوجه الرابع: أنَّ خَلوفَ فمِ الصائمِ أطيبُ عند الله مِنْ ريحِ المسْكِ لأنَّها من آثارِ الصيام، فكانت طيِّبةً عندَ الله سبحانه ومحْبُوبةً له. وهذا دليلٌ على عَظِيمِ شأنِ الصيامِ عند الله حَتَّى إنَّ الشيء المكروهَ المُسْتخْبَثَ عند الناس يَكونُ محبوباً عندَ الله وطيباً لكونِهِ نَشَأ عن طاعَتِهِ بالصيام.
الوجه الخامس: أن للصائِمِ فرْحَتينْ: فَرحَةً عند فِطْرِهِ، وفَرحةً عنْد لِقاءِ ربِّه. أمَّا فَرحُهُ عند فِطْرهِ فيَفرَحُ بِمَا أنعمَ الله عليه مِنَ القيام بعبادِة الصِّيام الَّذِي هُو من أفضلِ الأعمالِ الصالِحة، وكم أناسٍ حُرِمُوْهُ فلم يَصُوموا. ويَفْرَحُ بما أباحَ الله له مِنَ الطَّعامِ والشَّرَابِ والنِّكَاحِ الَّذِي كان مُحَرَّماً عليه حال الصوم. وأمَّا فَرَحهُ عنْدَ لِقَاءِ ربِّه فَيَفْرَحُ بِصَوْمِهِ حين يَجِدُ جَزاءَه عند الله تعالى مُوفَّراً كاملاً في وقتٍ هو أحوجُ ما يكون إِلَيْهِ حينَ يُقالُ: «أينَ الصائمون ليَدْخلوا الجنَّةَ من بابِ الرَّيَّانِ الَّذِي لاَ يَدْخله أحدٌ غيرُهُمْ». وفي هذا الحديث إرشادٌ للصَّائِمِ إذا سَابَّهُ أحدٌ أو قَاتله أن لا يُقابِلهُ بالمثْلِ لِئَلا يزدادَ السِّبابُ والقِتَالُ وأن لا يَضْعُف أمامه بالسكوت بل يخبره بأنه صائم، إشارة إلى أنه لن يقابله بالمثل احتراماً للصوم لا عجزاً عن الأخذ بالثأر وحيئنذٍ ينقطع السباب والقتال:
{ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].
ومِنْ فَضائِل الصَّومِ أنَّه يَشْفَع لصاحبه يومَ القيامة. فعَنْ عبدالله بن عَمْرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصِّيامُ والْقُرآنُ يَشْفَعَان للْعبدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ الصيامُ: أي ربِّ مَنَعْتُه الطعامَ والشَّهْوَة فشفِّعْنِي فيه، ويقولُ القرآنُ منعتُه النوم بالليلِ فشَفِّعْنِي فيهِ، قَالَ فَيشْفَعَانِ»، رَوَاهُ أَحْمَدُ .
إخْوانِي: فضائلُ الصوم لا تدركُ حَتَّى يَقُومَ الصائم بآدابه. فاجتهدوا في إتقانِ صيامِكم وحفظِ حدوده، وتوبوا إلى ربكم من تقصيركم في ذلك.
اللَّهُمَّ احفظْ صيامَنا واجعلْه شافعاً لَنَا، واغِفْر لَنَا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلَّى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
-قمر الليالي-
05-24-2018, 02:53 PM
المجلس الثالث: (( في حُكْمِ صيَامِ رَمضان ))
الحمدُ لله الَّذي لا مانعَ لما وَهَب، ولا مُعْطيَ لما سَلَب، طاعتُهُ للعامِلِينَ أفْضلُ مُكْتَسب، وتَقْواه للمتقين أعْلَى نسَب، هَيَّأ قلوبَ أوْلِيائِهِ للإِيْمانِ وكَتب، وسهَّلَ لهم في جانبِ طاعته كُلَّ نَصَب، فلمْ يجدوا في سبيل خدمتِهِ أدنى تَعَب، وقَدَّرَ الشقاءَ على الأشقياء حينَ زَاغوا فَوَقَعُوا في العطَب، أعرضُوا عنْهُ وكَفَروا بِهِ فأصْلاهم نَاراً ذاتَ لَهب، أحمدهُ على ما مَنَحَنَا من فضْله وَوَهَب، وأشهَدُ أن لا إِله إلاَّ الله وَحْدهُ لا شريكَ لَهُ هزَمَ الأحْزَابَ وَغَلَب، وأشْهَدُ أن محمداً عبدهُ وَرَسُولهُ الَّذي اصْطَفاه الله وانتَخَبَ، صلَّى الله عَلَيْهِ وعلى صَاحِبه أبي بكر الْفائِقِ في الفَضَائِلِ والرُّتَب، وعلى عُمَرَ الَّذي فرَّ الشيطانُ منهُ وهَرَب، وعَلَى عُثْمان ذي النُّوُريَنِ التَّقيِّ النَّقِّي الْحسَب، وَعَلى عَليٍّ صهره وابن عمه في النَّسب، وعلى بقِيَّةِ أصحابه الذينَ اكْتَسَوا في الدِّيْنِ أعْلَى فَخْرٍ ومُكْتسَب، وعلى التَّابِعين لهم بإحْسَانٍ ما أشرق النجم وغرب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إنَّ صيامَ رمضانَ أحَدُ أرْكان الإِسْلام ومَبانيه العظَام قَالَ اللهُ تعالى: { يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 183 - 185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «بُنِي الإِسلامُ على خَمْسٍ: شهادةِ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقام الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وحَجِّ الْبَيْتِ، وَصومِ رمضانَ»، متفق عليه. ولمسلم: «وصومِ رمضانَ وَحَجِّ البيتِ».
وأجْمَعَ المسلمونَ على فرضيَّةِ صوم رمضان إجْمَاعاً قَطْعياً معلوماً بالضَّرُورةِ منِ دينِ الإِسْلامِ فمَنْ أنكر وجوبَه فقد كفَر فيستتاب فإن تابَ وأقرَّ بِوُجوبِه وإلاَّ قُتِلَ كَافراً مُرتَدَّاً عن الإِسلامِ لا يُغسَّلُ، ولاَ يُكَفَّنُ، ولاَ يُصَلَّى عليه، ولا يُدعَى له بالرَّحْمةِ، ولا يُدْفَنُ في مَقَابِر المسلمين، وإنما يُحْفَر له بعيداً فِي مَكانٍ ويُدفنُ؛ لئلا يُؤْذي الناس بِرائِحَتِهِ، ويتأذى أهْلُه بِمُشَاهَدَته.
فُرضَ صِيامُ رمضانَ في السنةِ الثانيةِ منَ الهجرةِ، فصامَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم تِسع سِنين.
وكان فرض الصيَّام على مَرْحَلَتَيْن:
المَرْحَلةُ الأوْلَى: التَّخيير بَيْنَ الصيامِ والإِطعامِ مَعَ تفضيلِ الصيامِ عليهِ.
المَرْحَلةُ الثانيةُ: تعيينُ الصيامِ بدون تخْييرٍ.
ففي الصحيحين عن سَلَمة بن الأكوع رضي الله عنه قال لما نَزَلَتْ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان مَنْ أرَاد أن يُفْطِر ويفْتديَ «يعني فَعَل» حتى نَزَلَتْ الآيةُ التي بَعْدَها فَنَسخَتْها يَعْني بها قولهُ تَعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأوْجَب الله الصيامَ عَيْناً بِدُونَ تَخْيير.
ولا يجبُ الصومُ حتى يَثْبتَ دخولُ الشَّهْر، فلا يَصومُ قَبْلَ دخولِ الشهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا يَتَقَدمنَّ أحَدُكم رمضانَ بصوم يومٍ أو يومينِ إلاَّ أنْ يكونَ رجلٌ كانَ يصومُ صَوْمَهُ فلْيصُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ»، رواه البخاري.
ويُحْكَمُ بدخول شهرِ رمضانَ بِواحدٍ من أمْرَينِ:
الأولُ: رؤْيةُ هلالِهِ لقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «إِذَا رأيتُمُ الهلالَ فصوموا»، متفق عليه. ولا يُشْتَرطُ أن يراه كلُّ واحدٍ بنفسه بلْ إذا رآهُ مَنْ يَثْبُتُ بشهادتِهِ دخولُ الشَّهْر وجبَ الصومُ على الجَمِيْع.
ويُشْتَرطُ لقبولِ الشَّهَادةِ بالرُّؤْيةِ أن يكونَ الشاهِدُ بَالِغاً عاقلاً مسلماً مَوثُوقاً بخبرهِ لأمانته وَبصرهِ. فأمَّا الصغيرُ فلا يَثْبتُ الشهرُ بشهادتِه لأنه لا يُوْثَق به وأوْلَى منه المجنونُ. والكافرُ لا يَثْبتُ الشهرُ بشهادته أيْضاً لحديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قالَ: «جاءَ أَعْرابيٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: إني رَأيتُ الهلالَ يعني رَمضانَ فقال: أتَشْهَدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: أتَشْهَدْ أنَّ محمداً رسولُ الله؟ قال: نَعَمْ. قال: يا بِلالُ أذِّنْ في الناسِ فَلْيصُوموا غَدَاً»، أخرجه السبعة إلاّ أحمد.
وَمَنْ لا يُوْثَقُ بخبره بِكونِهِ مَعْروفاً بالكَذبِ أوْ بالتَّسَرُّعِ أوْ كان ضعيفَ البَصرِ بحيثُ لا يُمْكنُ أنْ يراه فلا يَثْبُتُ الشهرُ بشهادتِهِ للشَكِّ في صدقِه أوْ رجَحانِ كَذِبهِ، وَيثْبُتُ دخولُ شهْرِ رمضان خاصَة بشهادةِ رجلٍ واحد لقول ابن عُمر رضي الله عنهما: «تَرَاءَى الناسُ الهلالَ فأخْبرتُ النبي صلى الله عليه وسلّم أنِّي رأيتُهُ فصامَ وأمَرَ الناسَ بصيامِهِ»، رواه أبُو داودَ والحاكمُ وقال: على شرطِ مسلمٍ. ومَنْ رَآهُ مُتَيَقِّناً رُؤْيَته وجَبَ عليه إخبارُ وُلاَةِ الأمُورِ بذلك، وكَذلِكَ من رأى هلالَ شَوَّالٍ وذِي الحِجَّة لأنَّه يَتَرَتَّبُ على ذلك واجبُ الصومِ والفطر والحج ـ وما لا يتم الواجبُ إلاَّ به فهو واجب ـ وإن رآه وحدَه في مكانٍ بعيدٍ لا يمكنه إخبارُ ولاةِ الأمورِ فإنه يصوُم ويَسْعَى في إيصالِ الخبرِ إلى ولاةِ الأمورِ بقَدْرِ ما يَستطيعُ.
وإذا أُعلنَ ثبوتُ الشهرِ من قِبَلِ الحكومةِ بالرَّاديو أو غيرهِ وجَبَ العملُ بذلك في دخولِ الشَّهْرِ وخروجه في رمضانَ أوْ غيرهِ؛ لأنَّ إعلانَه مِن قِبَل الحكومةِ حُجَّةٌ شرعيَّةٌ يجبُ العملُ بها. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بلالاً أنْ يؤذِّنَ في الناسِ مُعلناً ثبوتَ الشهرِ ليصُوموا حينَ ثَبَتَ عنده صلى الله عليه وسلّم دخولُهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ الإِعْلامَ مُلزِماً لهم بالصيامِ.
وإذا ثَبتَ دخولُ الشهر ثبوتاً شرْعيَّاً فَلاَ عِبْرةَ بمنازل القمر؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم علَّقَ الحكْم برؤيةِ الهلالِ لا بمنَازلِهِ، فقالَ صلى الله عليه وسلّم: «إِذَا رَأيتُمُ الهلالَ فصُوموا وإِذَا رَأَيْتُمُوه فأفْطِروا»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: «إن شَهِدَ شاهدان مُسْلمانِ فصومُوا وأفْطُروا»، رواه أحمد
الأمر الثاني: مما يُحْكَمُ فيهِ بِدُخولِ الشَّهرِ إكْمالُ الشهرِ السابقِ قَبْله ثلاثينَ يَوْماً لأن الشَّهر الْقمريَّ لايمكن أن يزيدَ على ثلاثينَ يوماً ولا ينقصَ عن تسعةٍ وعشرينَ يوماً ورُبَّما يَتَوالَى شهْرَان أو ثلاثة إلى أربعة ثلاثين يوماً أو شهران أو ثلاثة إلى أربعة تسعة وعشرين يوماً، لَكن الغالِب شَهرٌ أو شهرانِ كامِلةٌ والثالثُ ناقصٌ.
فَمَتَى تمَّ الشَّهْرُ السابقُ ثلاثينَ يوماً حُكمَ شرعاً بدخولِ الشهرِ الَّذِي يَلْيِهِ وإن لمْ يُرَ الهلالُ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «صُوموا لِرؤيتِهِ وأفْطروا لرؤيته فإن غُمِّي عليكُمْ الشهر فعدوا ثلاثين»، رواهُ مسلم، ورواه البخاري بلفْظِ: «فإن غُبَّي عليكم فأكْمِلوا عدَّة شعبانَ ثَلاثينَ». وفي صحيح ابن خُزيمة من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَتحفَّظُ من شعبانَ ما لا يَتَحَفَّظ من غيرهِ ثم يصوم لرؤيةِ رمضان فإنْ غُمَّ عليه
عَدَّ ثلاثين يوماً ثم صام»، وأخرجه أيضاً أبو دَاود والدَّارقطنيُّ وصحَّحهُ.
وبهذه الأحاديث تبيَّن أنَّه لا يصامُ رمضانُ قبل رُؤْيَةِ هلالهِ.
فإن لمْ يُرَ الهلالُ أُكْمِلَ شعبانُ ثلاثين يوماً. ولاَ يُصام يومُ الثلاثينَ منه سواءٌ كانتِ الليلةُ صحواً أم غيماً لقول عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه:
«مَنْ صَامَ اليومَ الَّذي يشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلّم»، رواهُ أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وذكره البخاريُّ تَعْلِيقاً.
اللَّهُمَّ وفِّقْنا لاتِّبَاعِ الهُدى، وجنِّبنَا أسْبَاب الهلاكِ والشَّقاء، واجعل شَهرنَا هَذَا لَنَا شهرَ خيرٍ وبركةٍ، وأعِنَّا فيهِ على طاعتك، وجنِّبْنا طرقَ معصِيتك، واغْفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرْحَمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ إلى يومِ الدِّين.
-قمر الليالي-
05-25-2018, 03:04 PM
المجلس الرابع: في حكم قِيَام رمَضان
الحمدُ لله الَّذِي أعانَ بفضلِهِ الأقدامَ السَّالِكة، وأنقذ برحمته النُّفوسَ الهالِكة، ويسَّر منْ شاء لليسرى فرغِبَ في الآخِرة، أحمدُه على الأمور اللَّذيذةِ والشَّائكة، وأشهد أن لا إِله إلاَّ الله وَحدَهُ لا شريكَ له ذو الْعزَّةِ والْقهرِ فكلُّ النفوسِ له ذليلةٌ عانِيَة، وأشهد أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه القائمُ بأمر ربِّه سِراً وعلاَنِية، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكْرٍ الَّذِي تُحَرِّضُ عَلَيْه الْفرقَة الآفِكة، وعَلَى عُمَرَ الَّذِي كانَتْ نَفْسُه لنفسه مالِكَة، وعَلَى عُثمانَ مُنْفِقِ الأمْوال المتكاثرة، وعَلَى عَليِّ مُفرِّقِ الأبطالِ في الجُموع المُتكاثفَة، وَعَلَى بَقيَّةِ الصَّحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ما قَرعتِ الأقدام السالِكَة، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لَقَدْ شَرَع اللهُ لعبادِهِ العباداتِ ونوَّعها لهم ليأخُذوا مِنْ كل نوع منها بنَصيب، ولِئَلاَّ يَملوا من النَّوْع الواحدِ فَيْتركُوا العملَ فيشقَى الواحِدُ منهم ويخيب، وَجَعَلَ منها فَرَائض لا يجوزُ النَّقصُ فيها ولا الإِخْلاَل. ومنها نَوَافل يحْصُلُ بها زيادةُ التقربِ إلى اللهِ والإِكمَال.
فمِنْ ذَلِكَ الصلاةُ فَرضَ الله منها على عبادِهِ خمسَ صلواتٍ في اليومِ واللَّيْلَةِ خَمْساً في الْفِعلِ وخمسينَ في الميزانِ، وندَبَ الله إلى زيادةِ التَّطوع من الصلوات تكميلاً لهذَه الفرائِض، وزيادةَ في القُربى إليه فمِنْ هذه النوافل الرواتبُ التابعةُ للصَّلواتِ المفروضةِ: ركعتَان قبلَ صلاةِ الفجر، وأربعُ ركعاتٍ قبلَ الظهر، وَرَكْعتان بعْدَها، ورَكعتَان بعد المغْرب، وركعَتانِ بَعْد الْعشَاءِ. ومنها صلاةُ الليل التي امْتدَحَ الله في كتابِهِ القَائمينَ بها فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 46]، وقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17]،
وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أفضل الصلاةِ بَعْد الفريضةِ صلاةُ الليل»، رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلّم: «أيُّها الناس أفْشوا السلامَ وأطعِمُوا الطعامَ وصِلوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيل والناسُ نيامٌ تَدخُلُوا الجنّةَ بِسَلام»، رواه الترمذي وقال: حسن صحيح وصححه الحاكم.
ومن صلاة اللَّيل الوترُ أقلُّه ركعةٌ وأكثرهُ إحدَى عشرةَ ركعةً. فيُوتِرُ بركعةٍ مفردة لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «منْ أحبَّ أنْ يُوتِر بواحدةٍ فَلْيفعلْ»، رواه أبو داود والنسائي. ويُوْتِر بثلاث لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ أحبَّ أن يوتر بثلاثٍ فلْيَفْعَل»، رواه أبو داود والنسائي.
فإنْ أحب سَرَدَها بسلامٍ واحدٍ لما روى الطحاويُّ أنَّ عُمر بنَ الخطاب رضي الله عنه أوتر بثلاثِ ركعاتٍ لم يسلِّم إلاَّ في آخرهِنَّ. وإنْ أحبَّ صلَّى ركعتين وسلَّم ثم صلَّى الثالثة لِمَا روى البخاريُّ عن عبدالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّه كان يسلَّمُ بين الرَّكعتين والرَّكعةِ في الوترِ حتى كان يأمرُ ببعض حاجته. ويوتر بخَمْس فيسْردُها جميعاً لا يجْلسُ ولا يَسلِّمُ إلاّ في آخِرِهنَّ.
لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «من أحبَّ أن يوتر بخمْسٍ فليفْعل»، رواه أبو داود والنسائي. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي من الليلِ ثلاثَ عَشْرَة ركعةً يوترُ مِنْ ذَلِكَ بخمسٍ لا يَجْلسُ في شَيْءٍ منهن إلا في آخِرهِنّ»، متفق عليه.
ويوتر بسبع فيسْرِدُها كالخمْس لقول أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يوتر بسبعٍ وبخمسٍ لا يَفْصلُ بينهن بسلامٍ ولا كلامٍ»،
رواه أحمد والنسائي وابن ماجة.
ويوتر بتسع فيسردُها لا يجلس إلاَّ في الثَّامنَةِ، فيقرَأ التشهد ويدعُو ثم يقومُ ولا يسلَّمُ فيصلِّي التاسعةَ ويتشهد ويدعو ويسلِّم لحديث عائشةَ رضي الله عنها في وِتْر رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالَتْ: «كان يصلِّي تسْعَ رَكَعَاتٍ لا يجلسُ فيها إلا في الثَّامِنَةِ فيذكرُ الله ويحمدَهُ ويدْعُوه ثم يَنْهضُ ولا يُسلِّم ثم يَقُومُ فيصلَّي التاسعة ثم يقعُدُ فيذكرُ الله ويحمدُهُ ويدْعُوه ثم يسلِّم تسليماً يسمعُنا» الحديث، رواه أحمد ومسلم.
ويصلِّي إحْدى عشْرة ركعةً. فإن أحَبَّ سلَّم من كل ركعتين وأوْتَرَ بواحدةٍ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي ما بينَ أنْ يفْرَغَ من صلاةِ العشاءِ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلِّم بين كل ركعتين ويُوْتر بواحدةٍ» الحديث رواه الجماعةُ إلاّ الترمذيَّ.
وإن أحبَّ صلَّى أربعاً ثم أرْبعاً ثم ثلاثاً لحديث عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُصلِّي أربعاً فلا تسْألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي أربعاً فلا تسألْ عن حُسْنِهنَّ وطولهنَّ ثم يصلِّي ثلاثاً»، متفق عليه.
وسَرْدُ الخمسِ والسبع والتسعِ إنما يكونُ إذا صلَّى وحده أو بجماعة محصورين اختاروا ذلك. أما المساجدُ العامة فالأولى للإِمام أن يسلِّم في كل ركعتين لِئلاَّ يشقَّ على الناس ويربِكَ نياتهم، ولأنَّ ذَلِكَ أيسُر لهم. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أيُّكم أَمَّ النَّاسَ فليوجِزْ فإِنَّ مِنْ ورائه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة»، وفي لفظٍ: «فإذا صلَّى وَحْدَه فليصلِّ كيف يَشاء»، ولأنَّه لم يُنْقَلُ أن النبي صلى الله عليه وسلّم أوتر بأصحابه بهذه الكَيفيَّة وإنَّما كان يَفْعَلُ ذلك في صلاتِهِ وحده.
وصلاةُ الليل في رمضانَ لها فضيلةٌ ومزيَّةٌ على غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَام رمضانَ إِيْماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبِهِ»، متفق عليه. ومعنى قوله: «إِيْماناً» أي: إيماناً بالله وبما أعدَّه من الثوابِ للقائِمينَ، ومعنى قوله: «احتساباً» أي: طلباً لثَوابِ الله لم يَحْمِله على ذلك رياءٌ ولاَ سمعة ولا طلبُ مالٍ ولاَ جاهٍ. وقيام رمضان شاملٌ للصَّلاةِ في أولِ اللَّيل وآخرِهِ.
وعلى هَذَا فالتَّراويحُ منْ قِيام رمضانَ: فينْبغِي الحرْصُ عليها والاعتناءُ بها واحتسابُ الأجْرِ والثوابِ مِنَ اللهِ عَلَيْهَا. وما هِيَ إلاَّ لَيالٍ مَعْدودةٌ ينْتهزُها المؤمنُ العاقلُ قبل فوَاتِها. وإنما سُمِّيَتْ تراويحَ لأن الناسَ كانُوا يُطِيلونَها جدَّاً فكلما صَلَّوا أربَعَ رَكْعَاتٍ استراحُوا قليلاً.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلّم أوَّل من سَنَّ الْجَمَاعَةَ في صلاةِ التَّراويحِ في الَمسْجِدِ، ثم تركها خوفاً من أنْ تُفْرضَ على أمَّتِهِ، ففي الصحيحين عَنْ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صلَّى في المسجدِ ذات لْيلةٍ وصلَّى بصلاتِهِ ناسٌ ثُمَّ صلَّى من الْقَابلةِ وكثر الناسُ ثم اجْتمعوا من اللَّيْلة الثالثةِ أو الرابعةِ فلَمْ يخرجْ إِلَيْهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فَلَمَّا أصبَحَ قال: «قد رأيتُ الَّذِي صَنَعْتُم فلم يَمْنعني من الخُروجِ إليكم إلاَّ إِنِي خَشيتُ أنْ تُفْرضَ عَلَيْكُمْ. قال: وَذَلِكَ فِي رمضانَ».
وعن أبي ذرٍ رضي الله عنه قال: «صُمْنا مع النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فلَمْ يقُمْ بنا حتى بَقِي سَبْعٌ من الشَّهْرِ، فقامِ بِنَا حتى ذَهبَ ثُلُثُ اللَّيْل، ثُمَّ لم يقم بنا في السادسة، ثم قام بنا في الخامسة حتى ذهب شَطْرُ الليلِ أي نصفُه فقلنا: يا رسولَ الله لو نَفَّلتَنا بَقيَّة ليلتنا هذه فقال صلى الله عليه وسلّم: إنَّه مَنْ قام مع الإِمامِ حَتَّى ينْصرفَ كُتِبَ له قيامُ ليلةٍ» الحديث، رواه أهْل السنن بسندٍ صحيحٍ.
واختَلَفَ السَّلفُ الصَّالحُ في عدد الركعاتِ في صلاةِ التَّراويحِ والْوترِ مَعَهَا. فقيل: إحْدَى وأربعون ركعةً وقيل: تسعٌ وثلاثونَ وقيل: تسعٌ وعشرونَ وقيل: ثلاثٌ وعشرون وقيل: تسعَ عشرةَ وقيل: ثلاثَ عشرةَ وقيل: إحدى عشرةَ وقيل: غير ذلك. وأرجح هذه الأقوال أنها إحدى عشرةَ أو ثلاثَ عشرةَ لما في الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها أنهَا سُئِلَتْ كيفَ كانتْ صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في رمضان؟ فقالت: «ما كانَ يزيدُ في رمضانَ ولا غيرِه على إحْدى عَشرةَ رِكعةً»، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كانتْ صلاةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ثَلاَثَ عشْرةَ ركعةً يعني مِنَ اللَّيْل»، رواه البخاري.
وفي المُوطَّأ عن السَّائِب بن يزيدَ رضيَ الله عنه قال: «أمرَ عُمَر بنُ الخطابِ رضي الله عنه أُبيِّ بنَ كَعْب وتميماً الداريَّ أنْ يقُومَا للنَّاس بإحْدى عَشرةَ ركعةً» (رواه مالك في الموطأ بإسناد من أصح الأسانيد)، وكان السلفُ الصَّالحُ يطيلونَهَا جِداً، ففي حديث السائب بن يزيدَ رضي الله عنه قال: «كان القارئ يقرأ بالمئين يعني بمئات الآيَاتِ حَتَّى كُنَّا نَعْتمدُ على الْعصِيِّ منْ طولِ القيامِ، وهذا خلافُ ما كان عليه كثيرٌ من النَّاس الْيَوْمَ حيثُ يُصَلُّون التراويحَ بسُرعةٍ عظيمةٍ لا يَأتُون فيها بواجِبِ الهدُوءِ والطّمأنينةِ الَّتِي هي ركنٌ منْ أركانِ الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ بدونِهَا فيخلُّون بهذا الركن ويُتْعِبونَ مَنْ خَلْفَهُم من الضُّعفاءِ والمَرْضَى وكبارِ السَنِّ فيَجْنُونَ عَلَى أنفُسهمْ ويجْنونَ على غيرهم، وقد ذَكَرَ العلماءُ رحِمَهُم الله أنَّهُ يُكْرَه للإِمام أنْ يُسرعَ سرعةً تَمنعُ المأمُومينَ فعلَ ما يُسنُّ، فكيف بسُرعةٍ تمْنَعهُمْ فعْلَ مَا يجبُ، نسألُ الله السَّلامةَ.
ولا ينبغي للرَّجل أنْ يتخلَّفَ عن صلاةِ التَّراويِح، لينالَ ثوابها وأجْرَها، ولا ينْصرفْ حتى ينتهي الإِمامُ منها ومِن الوترِ ليحصل له أجْرُ قيام الليل كلَّه. ويجوز للنِّساءِ حُضورُ التراويحِ في المساجدِ إذا أمنتِ الفتنةُ منهنَّ وبهنَّ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «لا تَمْنعوا إماءَ الله مساجدَ الله» (متفق عليه).
ولأنَّ هذا مِنْ عملِ السَّلفِ الصالحِ رضي الله عنهم، لكِنْ يجبُ أنْ تأتي متسترةً متحجبةً غَيرَ متبرجةٍ ولا متطَيبةٍ ولا رافعةٍ صوتاً ولا مُبديةٍ زينةً لِقولِهِ تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]
أي: لكِنْ ما ظهرَ منْها فلا يمكن إخفاؤه وهيَ الجلبَابُ والعبَاءَةُ ونحْوهُما ولأن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لما أمر النِّساءَ بالخروج إلى الصلاة يومَ العِيد قالت أمُّ عطية: يا رسولَ اللهِ إحدانا لا يكونُ لها جِلَبابٌ قال: «لتُلبِسها أُختُها من جلبابها»، متفق عليه.
والسنة للنساء أن يتأخرن عن الرجالَ ويبعِدْن عنْهم ويبدأنَ بالصَّف المُؤخَّر بالمُؤخَّر عكس الرجال لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «خير صفوف الرجَالِ أوَّلُهَا وشرُّها آخِرُها وخير صفوفِ النساءِ آخِرُها وشُّرها أوَّلُها»، رواه مسلم.
ويَنْصرفنَ من المسجدِ فورَ تَسليمِ الإِمامِ، ولا يتأخَّرنَ إلاَّ لِعذرٍ لحديثِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا سلَّم قامَ النِّساءُ حِينَ يقضِي تسليمَه وهو يمكُثُ في مَقامِهِ يَسْيراً قبل أنْ يقومَ»، قالتْ: نرى والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. رواه البخاري.
اللَّهُمَّ وفقْنا لِمَا وَفَّقتَ القومَ واغْفِر لَنَا ولِوَالديْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرحم الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
-قمر الليالي-
05-27-2018, 03:05 PM
المجلس الخامس: في فضْل تلاَوة القرآن وأنواعهَا
الحَمْدُ لله الدَّاعي إلى بابه، الموفِّق من شاء لصوابِهِ، أنعم بإنزالِ كتابِه، يَشتملُ على مُحكم ومتشابه، فأما الَّذَينَ في قُلُوبهم زَيْغٌ فيتبعونَ ما تَشَابَه منه، وأمَّا الراسخون في العلم فيقولون آمنا به، أحمده على الهدى وتَيسيرِ أسبابِه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةً أرْجو بها النجاةَ مِنْ عقابِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمَلُ النَّاس عَملاً في ذهابه وإيابه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ أفْضل أصحَابه، وعَلَى عُمر الَّذِي أعَزَّ الله بِهِ الدِّيْنَ واسْتَقَامَتِ الدُّنْيَا بِهِ، وَعَلَى عثمانَ شهيدِ دارِهِ ومِحْرَابِه، وعَلى عليٍّ المشهورِ بحَلِّ المُشْكِلِ من العلوم وكَشْفِ نِقابه، وَعَلَى آلِهِ وأصحابه ومنْ كان أوْلَى بِهِ، وسلَّمَ تسليماً.
إخواني: قالَ الله تَعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30].
تِلاوةُ كتَابِ اللهِ عَلَى نوعين: تلاوةٌ حكميَّةٌ وهي تَصْدِيقُ أخبارِه وتَنْفيذُ أحْكَامِهِ بِفِعْلِ أوامِرِهِ واجتناب نواهيه. وسيأتي الكلام عليها في مجلس آخر إن شاء الله.
والنوعُ الثاني: تلاوة لفظَّيةٌ، وهي قراءتُه. وقد جاءت النصوصُ الكثيرة في فضْلِها إما في جميع القرآنِ وإمَّا في سُورٍ أوْ آياتٍ مُعَينَةٍ منه، ففِي صحيح البخاريِّ عن عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «خَيرُكُم مَنْ تعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه»، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الماهرُ بالقرآن مع السَّفرةِ الكرامِ البررة، والذي يقرأ القرآنَ ويتتعتعُ فيه وهو عليه شاقٌّ له أجرانِ». والأجرانِ أحدُهُما على التلاوةِ والثَّاني على مَشقَّتِها على القارئ.
وفي الصحيحين أيضاً عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم قالَ: «مثلُ المؤمنِ الَّذِي يقرأ القرآنَ مَثَلُ الأتْرُجَّةِ ريحُها طيبٌ وطعمُها طيّبٌ، ومثَلُ المؤمِن الَّذِي لاَ يقرَأ القرآنَ كمثلِ التمرة لا ريحَ لها وطعمُها حلوٌ»، وفي صحيح مسلم عن أبي أمَامةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «اقْرَؤوا القُرآنَ فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعاً لأصحابهِ».
وفي صحيح مسلم أيضاً عن عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «أفلا يغْدو أحَدُكمْ إلى المسجدِ فَيَتعلَّم أو فيقْرَأ آيتينِ منْ كتاب الله عزَّ وجَلَّ خَيرٌ لَهُ مِنْ ناقتين، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاثٍ، وأربعٌ خير له مِنْ أربَع ومنْ أعْدادهنَّ من الإِبِلِ».
وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قَالَ: «ما اجْتمَعَ قومٌ في بيتٍ مِنْ بُيوتِ اللهِ يَتْلُونَ كتابَ الله ويَتدارسونَهُ بَيْنَهُم إلاَّ نَزَلَتْ عليهمُ السكِينةُ وغَشِيْتهُمُ الرحمةُ وحفَّتهمُ الملائكةُ وَذَكَرَهُمْ الله فيِمَنْ عنده». وقال صلى الله عليه وسلّم: «تعاهَدُوا القرآنَ فوالذي نَفْسِي بيده لَهُو أشدُّ تَفلُّتاً من الإِبلِ في عُقُلِها»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم: «لا يقُلْ أحْدُكم نَسيَتُ آية كَيْتَ وكيْتَ بل هو نُسِّيَ»، رواه مسلم. وذلك أنَّ قولَه نَسيتُ قَدْ يُشْعِرُ بعدمِ المُبَالاةِ بِمَا حَفظَ من القُرْآنِ حتى نَسيَه.
وعن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من قَرأ حرفاً من كتاب الله فَلَهُ به حَسَنَةٌ، والحسنَةُ بعشْر أمْثالها، لا أقُول الم حرفٌ ولكن ألفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميمٌ حرفٌ» ، رواه الترمذي.
وعنه رضي الله عنه أيضاً أنَّه قالَ: «إنَّ هذا القرآنَ مأدُبةُ اللهِ فاقبلوا مأدُبَتَه ما استطعتمُ، إنَّ هذا القرآن حبلُ اللهِ المتينُ والنورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عصمة لِمَنْ تمسَّكَ بِهِ ونجاةٌ لِمَنْ اتَّبعَهُ، لا يزيغُ فَيُستَعْتَب، ولا يعوَجُّ فيقوَّمُ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يَخْلَقُ من كثرةِ التَّرْدَادَ، اتلُوه فإنَّ الله يَأجُرُكُم على تلاوتِهِ كلَّ حرفٍ عشْرَ حسناتٍ. أمَا إني لا أقولُ الم حرفٌ ولكِنْ ألِفٌ حرفٌ ولاَمٌ حرفٌ وميم حرفٌ» رواه الحاكِم.
إخواني: هذه فضائِل قِراءةِ القُرآنِ، وهذا أجْرُه لمن احتسب الأجرَ مِنَ الله والرِّضوان، أجورٌ كبيرةٌ لأعمالٍ يسيرةٍ، فالمَغْبونُ منْ فرَّط فيه، والخاسرُ مَنْ فاتَه الرِبْحُ حين لا يمكنُ تَلافِيه، وهذه الفضائلُ شاملةٌ لجميع القرآنِ.
وَقَدْ وردت السُّنَّةُ بفضائل سُورٍ معينةٍ مخصصةٍ فمن تلك السور سورةُ الفاتحة. ففي صحيح البخاري عن أبي سَعيدِ بن المُعلَّى رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: «لأعُلِّمنَّك أعْظَم سورةٍ في القرآن {الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ} هي السَّبعُ المَثَانِي والقرآنُ العظيمُ الذي أوتيْتُه»،
ومن أجل فضيلتِها كانت قراءتُها ركْناً في الصلاةِ لا تصحُّ الصلاةُ إلاَّ بها، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحةِ الكتاب»، متفق عليه. وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ صلَّى صلاةً لمْ يقرأ فيها بفاتحةِ الكتاب فهي خِدَاجٌ يقولها ثلاثاً»،
فقيل لأبي هريرة إنا نكون وراءَ الإِمام فقال اقْرأَ بِها في نَفْسكَ. الحديث، رواه مسلم.
ومن السور المعيَّنَة سورةُ البقرة وآل عمران قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «اقرؤوا الزهراوين البقرةُ وآل عمران فإنهما يأتيان يومَ القيامةِ كأنَّهُمَا غَمامتان أو غَيَايتان أو كأنهما فِرْقَانِ مِنْ طيرٍ صوافَّ تُحاجَّانِ عن أصحابهما اقرؤوا سُورَة البقرةِ فإنَّ أخْذَها بَرَكةٌ وتَرْكَها حسرةٌ لا يستطيعها البَطَلَةُ» يعني السحرة، رواه مسلم. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ البيتَ الَّذِي تُقرأُ فيه سورة البقرةِ لا يَدْخله الشَّيطانُ»، رواه مسلم. وَذَلِكَ لأنَّ فيها آية الكرسيِّ. وقد صحَّ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلّم أن من قرأها في لَيْلَةٍ لم يَزَلْ عليه مِنَ الله حافظٌ ولا يَقربُه شيطانٌ حتى يُصْبحَ.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ جبْريلَ قالَ وهُو عِنْدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: هذا بابٌ قد فُتِحَ من السَّماءِ ما فُتحَ قَطُّ، قال: فنزلَ منْه مَلكٌ فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: «أبْشرْ بنورَيْن قد أوتيتهما لم يؤتهُمَا نبيُّ قَبْلَك فاتِحةُ الكتابِ وخواتيمُ سورةِ البقرةِ لن تقْرَأ بحرفٍ منهما إلاَّ أوتِيتَهُ»، رواه مسلم.
ومن السُّورِ المعينةِ في الفضيلةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإِخلاص: 1] ففي صحيح البخاري عن أبي سعيدٍ الخدريِّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ فيها: «والَّذِي نفْسي بيده إنَّها تعدلُ ثُلُثَ القرآنِ»، وليس معنى كونِها تعدلُه في الفضيلةِ أنَّها تُجْزِأ عنه. لذَلِكَ لو قَرَأهَا في الصلاةِ ثلاثَ مراتٍ لم تُجْزئه عن الفاتحةِ. ولا يَلْزَم من كونِ الشيءِ معادلاً لغيرهِ في الفضيلةِ أنْ يُجزأ عنه، ففي الصحيحين عن أبي أيُّوبَ الأنصارِي رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قالَ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له له الُملْكُ وله الحمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشْرَ مرَّاتٍ كان كمَن أعتقَ أربعةَ أنفُسٍ من ولدِ إسْماعيلَ» ومع ذلك فلو كان عليه أربعُ رقاب كفارة فقال هذا الذكر لم يجزئه عن هذه الرقاب وإن كان يعادلها في الفضيلة.
ومن السُّور المعيَّنةِ في الفضيلةِ سُورتَا المُعوِّذَتَين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، فعن عُقْبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألمْ تَر آيَاتٍ أُنْزِلَت الليلةَ لمْ يُرَ مثْلُهُنَّ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}»، رواه مسلم. وللنَّسائي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَ عُقبَةَ أنْ يقرأ بهما ثم قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما سَأَلَ سائِل بمثلهما ولا اسْتَعَاذَ مُسْتِعيذٌ بمثلهما».
فاجْتهدوا إخواني في كثرةِ قراءةِ القرآنِ المباركِ لا سيَّما في هذا الشهرِ الَّذِي أنْزل فيه فإنَّ لكثْرة القراءةِ فيه مزيَّةً خاصةً.
كان جبريلُ يُعارضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم القُرْآنَ في رمضانَ كلَّ سنةٍ مرّةً. فَلَمَّا كان العامُ الَّذي تُوُفِّي فيه عارضَه مرَّتين تأكيداً وتثبيتاً. وكان السَّلفُ الصالحُ رضي الله عنهم يُكثِرون من تلاوةِ القرآنِ في رمضانَ في الصلاةِ وغيرها. كان الزُّهْرِيُّ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ يقول إنما هو تلاوةُ القرآنِ وإطْعَامُ الطَّعامِ. وكان مالكٌ رحمه الله إذا دخلَ رمضانُ تركَ قراءةَ الحديثِ وَمَجَالسَ العلمِ وأقبَل على قراءةِ القرآنِ من المصْحف.
وكان قتادةُ رحمه الله يخْتِم القرآنَ في كلِّ سبعِ ليالٍ دائماً وفي رمضانَ في كلِّ ثلاثٍ وفي العشْرِ الأخير منه في كلِّ ليلةٍ. وكان إبراهيمُ النَخعِيُّ رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كلِّ ثلاثِ ليالٍ وفي العشر الأواخِرِ في كلِّ ليلتينِ. وكان الأسْودُ رحمه الله يقرأ القرآنَ كلَّه في ليلتين في جميع الشَّهر.
فاقْتدُوا رحمَكُمُ الله بهؤلاء الأخْيار، واتَّبعوا طريقهم تلحقوا بالْبرَرَةِ الأطهار، واغْتَنموا ساعات اللَّيلِ والنهار، بما يُقرِّبُكمْ إلى العزيز الغَفَّار، فإنَّ الأعمارَ تُطوى سريعاً، والأوقاتَ تمْضِي جميعاً وكأنها ساعة من نَهار.
اللَّهُمَّ ارزقْنا تلاوةَ كتابِكَ على الوجهِ الَّذِي يرْضيك عنَّا. واهدِنا به سُبُلَ السلام. وأخْرِجنَا بِه من الظُّلُماتِ إلى النُّور. واجعلْه حُجَّةً لَنَا لا علينا يا ربَّ العالَمِين.
اللَّهُمَّ ارْفَعْ لَنَا به الدَّرجات. وأنْقِذْنَا به من الدَّرَكات. وكفِّرْ عنَّا به السيئات. واغْفِر لَنَا وَلِوَالِديِنَا ولجميعِ المسلمينَ برحمتكَ يا أرْحَمَ الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
-قمر الليالي-
05-27-2018, 03:18 PM
المجلس السّادس: (( في أقسام النَّاس في الصيَام ))
الحمد للهِ الَّذِي أتقَنَ بحكمتِهِ مَا فَطرَ وبنَى، وشرعَ الشرائعَ رحمةً وحِكْمةً طريقاً وسنَناً، وأمرنَا بطاعتِه لا لحَاجتِهِ بلْ لَنَا، يغفرُ الذنوبَ لكلِّ مَنْ تابَ إلى ربَّه ودَنا، ويُجزلُ العطَايَا لمَنْ كان مُحسناً {وَالَّذِينَ جَهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] أحْمده على فضائلهِ سِرّاً وعلَناً، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةً أرْجو بها الفوزَ بدارِ النَّعيمِ والْهنَا، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولهُ الَّذِي رفَعَه فوقَ السموات فدَنَا، صَلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكر الْقائمِ بالعبادةِ راضياً بالعَنا، الَّذِي شَرَّفه الله بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وعلى عُمرَ المجدِّ في ظهور الإِسلام فمَا ضعُف ولا ونَى، وعلى عثمانَ الَّذِي رضيَ بالْقَدرِ وقد حلَّ في الفناءِ الفنا، وعلى عليٍّ الْقريبِ في النَّسب وقد نال المُنى، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابه الكرام الأمَنَاء، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبَقَ في المجلس الثالث أنَّ فَرْضَ الصيام كان في أولِ الأمر على مرْحلتين، ثم استقرتْ أحْكامُ الصيامِ فكان الناسُ فيها أقساماً عَشرَةً:
القسمُ الأوَّلُ: المُسلِمُ البالغُ العاقلُ المقيمُ القادر السالمُ من الموانعِ، فيجبُ عليه صومُ رمضانَ أدَاءً في وقتِه لدلالةِ الكتاب والسُنَّةِ والإِجْماع على ذلك، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتمُ الهلاَلَ فصُوموا»، متفق عليه. وأجمع المسلمونَ على وُجوبِ الصيامِ أداءً على مَنْ وصفنا.
فأمَّا الكافرُ فلا يجب عليه الصيام ولا يصِحُّ منه لأنَّه ليس أهلاً للعبادةِ، فإذَا أسْلمَ في أثْناءِ شهرِ رمضانَ لم يلزمه قضاءُ الأيام الماضية، لقولِه تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]. وإنْ أسْلمَ في أثَناءِ يوم منه لزمه إمساكُ بقيِّة اليَومِ لأنَّه صار من أهلْ الوجوبِ حين إسلامه ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهل الوجوب حينَ وقْت وجوبِ الإِمسَاكِ.
القسم الثاني: الصغيرُ فلا يجب عليه الصيامُ حتى يبلُغَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثةٍ: عن النائم حتى يستيقِظَ وعن الصغير حتى يكْبُرَ وعن المجنونِ حتى يفيقَ»، رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ وصححه الحاكم. لكن يأمُرُه وليُّه بالصومِ إِذَا أطاقه تمريناً لَهُ على الطاعة ليألفَهَا بعْدَ بلوغِهِ اقتداءً بالسلفِ الصالح رضي الله عَنْهم. فقد كان الصحابةُ رُضوان الله عليهم يُصَوِّمُون أولادَهم وهُمَ صِغارٌ ويذْهَبون إلى المسجد فيجعلون لهم اللُّعْبةَ من الْعِهنِ (يعني الصوف أو نحوَه) فإذا بكَوا من فقْدِ الطعامِ أعطوهُم اللعبة يتَلهَّوْن بها.
وكثيرٌ من الأولياءِ اليومَ يغْفُلونَ عن هذا الأمْرِ ولا يأمرونَ أولادَهم بالصيام، بلْ إنَّ بعْضَهم يمنعُ أولادَه من الصيامِ مع رغْبَتهم فيه يَزعُم أنَّ ذلك رحمةً بهم. والحقيقةُ أنَّ رحْمَتهمْ هي القيامُ بواجب تربيتهم على شعائر الإِسلام وتعالِيْمهِ القَيِّمةِ. فمنْ مَنعهم مِن ذلك أوْ فرَّط فيه كان ظالماً لهم ولِنَفْسه أيضاً .. نعَمْ إنْ صَاموا فَرأى عليهم ضَرراً بالصيامِ فلا حرجَ عليه في منعهم منه حِيْنِئذٍ.
ويَحْصل بُلوغُ الذكر بواحدٍ من أمور ثلاثةٍ:
أحدُها: إِنزالُ المَنيِّ باحتلامٍ أو غيرهِ لقولِه تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 59]، وقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: «غُسْلُ الجُمُعةِ واجِبٌ على كلِّ محتلم»، متفق عليه.
الثاني: نبَاتُ شَعرِ العَانةِ وهو الشَّعْر الْخشِنُ ينْبُت حوْلَ الْقُبلِ، لقول عَطيَّة الْقُرَظِّي رضي الله عنه: «عُرِضْنا على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يومَ قُرَيْظةَ فمن كان محتلماً أو أنبتت عانته قتل ومن لا تُرِكَ»، رواه أحمد والنسائي وهو صحيح.
الثالثُ: بلوغُ تمامِ خَمْسَ عَشْرةَ سنةً لقولِ عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما: «عُرِضْت على النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم أحد وأنا ابنُ أربَعَ عَشرَةَ سنةً فلم يُجْزني» (يعني: القتالِ) زاد البيهقيَّ وابنُ حبَانَ في صحيحه بسند صحيح: «ولم يرني بلغت، وعرضت عليه يوم الْخَنْدَقِ وأنا ابنُ خمْسَ عَشْرةَ سنةً فأجازنِي»، زاد البيهقي وابن حبان في صحيحه بسند صحيح: «ورآني بَلغْت» رواه الجماعة. قال ابن نافع: فقَدِمتُ على عُمرَ بن عبدِالعزيز وهو خليفة فحدثته الحديث فقال: إن هذا الحد بين الصغيرِ والكبيرِ، وكتَبَ لعُمَّاله أنْ يفرضُوا (يعني من العطاء) لمنْ بلَغَ خمسَ عَشْرَةَ سنةً، رواه البخاريُّ.
ويحصل بلوغُ الأُنثى بما يحْصلُ به بلوغُ الذَكَرِ وزيادة أمرٍ رابعٍ وهو الحيضُ، فمتى حاضتْ الأُنثى فقد بلغتْ، فيجري عليها قلَمُ التكليفِ وإنْ لم تبلُغْ عشر سنينَ، وإذا حصل البلوغُ أثْنَاء نهار رمضانَ فإنْ كان منْ بَلغ صائماً أتمَّ صومَه ولاَ شَيْءً عليه وإن كان مفطراً لزمه إِمساكُ بقيةِ يوْمهِ لأنه صار مِنْ أهل الوجوبِ، ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يكن من أهلِ الوجوبِ حين وُجوبِ الإِمساكِ.
القسمُ الثالثُ: المجنونُ وهو فاقِدُ العقلِ فلا يجبُ عليه الصيامُ، لما سبق من قولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «رُفعَ القلمُ عن ثلاثةٍ ..» الحديث. ولا يصحُّ مِنه الصيامُ لأنه ليس له عَقْلٌ يعقِل به العبادةَ وينويها، والعبادة لا تصح إلا بنيَّةٍ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمالُ بالنيِّاتِ وإنما لكلِّ امرأ ما نَوى ..» فإنْ كان يجنُّ أحياناً ويُفيقُ أحياناً لزمه الصيام في حالِ إفاقتهِ دون حالِ جنونِه، وإنْ جُنَّ في أثناءِ النهارِ لم يبطُل صومُه كما لو أغمي عليه بمرضٍ أو غيره لأنَّه نوى الصومَ وهو عاقلٌ بنيَّةٍ صحيحةٍ. ولا دليل على البطلانِ خصوصاً إذا كان معلوماً أنَّ الجنونَ ينْتَابُه في ساعاتٍ مُعيَّنةٍ. وعلى هذا فلا يلزمُ قضاءُ الْيَوْم الَّذِي حصل فيه الجُنونُ. وإذا أفَاق المجنونُ أثناء نهار رمضانَ لزمه إمْسَاكُ بقيَّةِ يومِهِ، لأنَّه صار من أهلِ الوجوب، ولا يلزمُهُ قضاؤهُ كالصبيِّ إذا بلَغَ والكافرِ إذا أسْلَمَ.
القسمُ الرابعُ: الْهَرِمُ الَّذِي بلَغَ الهذَيَان وسقَط تَميِيزُه فلا يجبُ عليه الصيامُ ولا الإِطعام عنه لسُقوطِ التكليف عنه بزَوال تمييزهِ فأشْبهَ الصَّبيَّ قبل التمييزِ. فإن كان يميز أحياناً ويهذي أحياناً وجب عليه الصوم في حال تمييزه دونَ حالِ هذَيانِه. والصلاةُ كالصومِ لا تلزمه حال هذيانه وتلزمه حالَ تمييزِه.
القسمُ الخامسُ: العاجزُ عن الصيام عجْزاً مستَمِراً لا يُرجَى زوالُه، كالكبيرِ والمريض مرضاً لا يُرْجى برؤه كصاحبِ السَّرطانِ ونحوِه، فلا يجب عليه الصيامُ لأنَّه لا يستطيعُه. وقد قال الله سبحانه: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. لكن يجب عليه أن يُطعمَ بدلَ الصيامِ عنْ كلِّ يومٍ مسكيناً لأنَّ الله سبحانَه جَعَل الإِطعامَ مُعَادلاً للصيامِ حينَ كان التخييرُ بينهُما أوَّلَ ما فُرِضَ الصيامُ فتعيَّن أنْ يكون بدلاً عن الصيامِ عند العَجزِ عنه لأنه معادله.
ويخيَّرُ في الإِطعام بين أنْ يُفرِّقَه حبَّاً على المسَاكينِ لكُلِّ واحدٍ مُدٌّ من البرِّ ربْعُ الصَّاع النَبوي، ووزنه ـ أي المُدِّ ـ نصفُ كِيلُو وعَشرةُ غراماتٍ بالْبُرِّ الرِّزينِ الجيِّدِ، وبينَ أنْ يُصلحَ طعاماً فيدعو إليهِ مساكينَ بقدْرِ الأيامِ الَّتِي عليه، قال البخاريُّ رحمه الله: وأمَّا الشيخُ الكبيرُ إذا لم يُطقِ الصيام فقَدْ أطعَمَ أنسٌ بعدمَا كبر عاماً أوْ عامين كُلَّ يوم مسكيناً خُبْزاً ولحماً، وَأفْطرَ. وقال ابنُ عباس رضي الله عنهما في الشيخ الكبيرِ والمَرأةِ الكبيرةِ لا يستطيعانِ أنْ يَصُومَا فيطعمانِ مكانَ كلِّ يوم مسكيناً، رواه البخاري.
إخواني: الشَّرعُ حكمةٌ من الله تعالى ورحمةٌ رحم الله به عبادَه لأنه شَرْعٌ مبنيٌ على التسهيلِ والرحمةِ وعلى الإِتقانِ والحكمةِ، أوجبَ الله به على كلِّ واحدٍ من المكلَّفين ما يناسب حالَه ليقومَ كلُّ أحدٍ بما عليهِ، منشرحاً به صَدرُه، ومطمئِنةً به نفْسُه، يَرْضى بالله رباً وبالإِسلام ديناً وبمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلّم نبيَّاً، فاحمدوا الله أيُّها المؤمنون على هذا الدِّين القيِّم وعلى ما أنْعَمَ به عليكم من هِدايتكُم له وقد ضلَّ عنه كثيرٌ من الناسِ، واسألوه أنْ يُثَبِّتكُمْ عليه إلى الممات.
اللَّهُمَّ إنا نسألُك بأنا نَشْهد أنَّك أنت الله لا إِله إلاَّ أنت الأحدُ الصَّمَدُ الذي لم يلد ولم يولد ولم يكنْ له كفواً أحدٌ، يا ذَا الجلالِ والإِكرامِ، يا مَنَّانُ يا بديعَ السمواتِ والأرضِ، يا حيُّ يا قيومُ، نسألك أن تُوفِّقنَا لما تُحبُّ وترضَى، وأنْ تْجعَلنَا ممَّنْ رضِي بك ربَّاً، وبالإِسلام ديناً،
وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيَّاً، ونسألك أنْ تُثبتنا على ذلك إلى المماتِ، وأنْ تغفرَ لنَا الخطايَا والسيئاتِ، وأنْ تَهبَ لنا منك رحمة إنَّك أنْتَ الوهابُ، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبهِ وأتْبَاعهِ إلى يوم الدِّين.
-قمر الليالي-
05-27-2018, 03:31 PM
المجلس السابع: (( في طائِفَة من أقسَام الناس في الصيّام ))
الحمد لله المُتعَالى عن الأنداد، المقَدَّس عن النَّقائص والأضداد، المُتنزِّهِ عن الصاحِبةِ والأوْلاد، رافع السَّبع الشِّداد، عاليةً بغير عِماد، وواضِع الأرضِ للمهاد، مثَبتةً بالراسياتِ الأطْواد، المطَّلِع على سِرِّ القُلُوب ومكنونِ الفُؤاد، مقدِّرِ ما كان وما يكونُ من الضَّلال والرَشاد، في بحار لُطفِه تجري مراكب العباد، وفي ميدان حبِّه تجول خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطالبين ومنتهى القصاد، وبِعينِه ما يتحمَّل المُتَحَمِّلون من أجله في الاجتهاد، يرى دبيب النمل الأسود في السَّواد، ويعلَمُ ما توَسْوسُ به النفسُ في باطِن الاعتقاد، جادَ على السائلين فزادَهُم من الزَّاد، وأعطى الكثير من العاملين المخلصين في المراد، أحمَدُه حمداً يفوقُ على الأعْداد، وأشْكره على نِعَمه وكلَّما شُكِر زَاد،
وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له له الملكُ الرَّحيم بالعباد، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوث إلى جميعِ الخلْق في كلِّ البلاد، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الَّذِي بذَل منْ نفْسِه ومالِهِ وجاد، وعلى عُمَر الَّذِي بالَغَ في نصْرِ الإِسلام وأجاد، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ جيشَ العُسْرةِ فيا فخره يوم يقوم الأشهاد، وعلى عليٍّ المعروفِ بالشجاعةِ والجلاد، وعلى جميع الآلِ والأصْحابِ والتابعينَ لهم بإحَسانٍ إلى يوم التَّنَاد، وسلِّم تسليماً.
إخواني: قدَّمنا الكلامَ عن خْمسَةِ أقسامٍ من الناس في أحْكامِ الصيام. ونتكلَّمُ في هذا المجلِس عن طائفةٍ أخرى من تلك الأقسامِ:
فالقسمُ السادسُ: المسافرُ إذا لم يقْصُدْ بسَفَرِه التَّحيُّلَ على الفِطْرِ، فإن قَصَد ذَلِكَ فالفطرُ عليه حرامٌ والصيامُ واجبٌ عليه حْينئذٍ. فإذا لَمْ يقصد التَّحيُّلَ فهو مخيَّرٌ بين الصيام والفطر سواءٌ طالتْ مدةُ سفره أمْ قصُرتْ، وسواءٌ كان سفرُه طارِئاً لغَرض أمْ مُسْتَمِّراً، كسَائِقي الطائراتِ وسياراتِ الأجْرةِ لعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وفي الصحيحين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: كُنَّا نُسَافر مع النبي صلى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَعِب الصائمُ على المُفطِر ولا المفْطِرُ على الصائمِ. وفي صحيح مسلم عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: يَرْونَ أنَّ مَنْ وجَدَ قُوَّة فصَام فإنَّ ذلك حَسَنٌ، ويرونَ أنَّ منْ وجَدَ ضعْفاً فأفْطرَ فإنَّ ذلك حَسَنٌ. وفي سنن أبي داودَ عن حمزةَ ابن عمْرو الأسلَميِّ أنَّه قال: يا رسولَ الله إني صاحبُ ظهرٍ أعالجه أسافِرُ عليه وأكريه وإنَّه ربَّما صادفني هذا الشهرُ ـ يعنِي رمضانَ ـ وأنا أجدُ الْقوَّة وأنا شَابٌ فأجد بأنَّ الصَّومَ يا رسولَ الله أهونُ عليَّ منْ أن أؤخِّرهُ فيكون ديناً عليَّ أفأصُومُ يا رسولَ الله أعظمُ لأجري أمْ أفطرُ قال: «أيَّ ذلك شئتَ يا حمزةُ».
فإذا كان صاحبُ سيارةِ الأجرةِ يشقُّ عليه الصومُ في رمضانَ في السَّفرِ من أجل الحرِّ مثلاً فإنه يؤخره إلى وقت يبرد فيه الجو ويتيسَّر فيه الصيام عليه. والأفضل للمسافر فعلُ الأسهلِ عليه من الصيام والْفِطرِ، فإنْ تساويَا فالصَّومُ أفضلُ لأنَه أسْرعُ في إبراء ذمته وأنشط له إذا صامَ معَ الناسِ، لأنه فعلُ النبي صلى الله عليه وسلّم كما في صحيح مسلمٍ عن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: خَرَجنا مع النبي صلى الله عليه وسلّم في رمضانَ في حرٍّ شديدٍ، حتى إنْ كان أحَدُنا ليضع يَدَه على رأسِهِ من شدةِ الحرِّ، وما فينا صائمٌ إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعبدُالله بنُ رواحة.
وأفْطرَ صلى الله عليه وسلّم مراعاةً لأصحابِه حينَ بلغه أنَّهمْ شَقَّ عليهِم الصيام، فعن جابرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم خرج إلى مكةَ عامَ الفتحِ فصامَ حتى بَلَغ كُرَاعَ الْغميمَ، فصامَ الناسُ معه فقيل له: إنَّ الناسَ قد شقَّ عليهم الصيامُ، وإنَّهم ينظُرونَ فيما فَعْلت، فَدعَا بقَدَحٍ مِن ماءٍ بعد العصر فشَربَ والناسُ ينظرون إليه، رواه مسلم. وفي حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أتَى على نهرٍ من السَّماءِ والناسُ صيامٌ في يوم صائفٍ مُشاةً، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم على بغلةٍ له، فقال: «أشْربُوا أيها الناسُ» فأبَوْا، فقال: «إنِّي لسْتُ مثلكُمْ، إنِّي أيْسرُكمْ، إني راكب»، فأبَوْا، فَثَنَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فخِذَه فنزلَ فشرب وشربَ الناسُ، وما كانَ يُرِيدُ أن يشربَ صلى الله عليه وسلّم»، رواه أحمد .
وإذا كان المسافرُ يَشُقُّ عليه الصومُ فإنَّه يفطرُ ولا يصُومُ في السفرِ، ففي حديثِ جابرٍ السابق أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لمَّا أفْطرَ حينَ شَقَّ الصومُ على الناس قيل له: إنَّ بعض الناسِ قد صَامَ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أولَئِك العُصاةُ، أولئك العصاة»، رواه مسلم.
وفي الصحيحين، عن جابرٍ أيضاً أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان في سفرٍ، فرأى زحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه، فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائمٌ، فقال: «ليس من البرِّ الصيامُ في السفر». وإذا سافر الصائمُ في أثناء اليوم وشقَّ عليه إكْمالُ صومِهِ جاز له الفطرُ إذا خَرجَ من بلدِه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم صام وصامَ الناسُ معه حتى بلغ كُراعَ الْغميمِ، فلما بلغه أن الناس قد شَقَّ عليهم الصيام أفطر وأفطر الناس معه، وكراعُ الغميمِ جبلٌ أسودُ في طرفِ الحَرَّةِ يمتدُّ إلى الوادي المُسَمَّى بالْغَمِيمِ بين عُسفَانَ وَمَرِّ الظَّهرانِ.
وإذا قدِم المسافرُ إلى بلدِه في نهارِ رمضانَ مفطِراً لم يصحَّ صومُه ذلكَ اليومَ، لأنه كان مُفْطِراً في أوَّل النهار. والصومُ الواجبُ لا يصح إلاَّ مِنْ طلُوعِ الفجر، ولكن هل يلزمه الإِمساكُ بقيةَ اليوم؟ اختلفَ العلماءُ في ذلك فَقَال بعْضهُم: يجب عليه أنْ يُمسِكَ بقيةَ اليومِ احتراماً للزمنِ، ويجب عليه الْقَضَاءُ أيضاً لِعَدَمِ صحةِ صومِ ذلك اليوم، وهذا المشهور من مذهب أحمد رحمه الله، وقال بعض العلماء: لا يجب عليه أن يمسك بقية ذلك اليوم، لأنه لا يستفيدُ من هذا الإِمساكِ شيئاً لوجوب القضاءِ عليه، وحُرْمةُ الزَّمن قد زالتْ بفِطره المباح له أوَّلَ النهارِ ظاهراً وباطناً.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: من أكل أول النهار فلْيَأْكُلْ آخره، أي: من حلَّ له الأكل أولَ النهار بعُذرٍ حلَّ له الأكلُ آخِره. وهذا مذهَبُ مالِك والشافعيّ ورواية عن الإِمام أحمد، ولكنْ لا يُعْلِنُ أكلَه ولا شربَه لخفاءِ سببِ الفطرِ فيُساء به الظَّنُّ أو يُقْتَدى به.
القسمُ السَّابعُ: المِريضُ الَّذِي يُرجَى برؤُ مرضِه وله ثلاثُ حالاتٍ:
إحداها: أنْ لا يشقَّ عليه الصومُ ولا يَضُرُّه، فيجبُ عليه الصومُ لأنه ليس له عُذْرٌ يُبِيح الْفِطْرَ.
الثانيةُ: أنْ يشقَّ عليه الصومُ ولا يضُرُّه، فيفطرُ لقوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]. ويُكْره له الصوم مع المشقَّةِ، لأنه خروجٌ عن رُخصةِ الله تعالى وتعْذيبٌ لنفسه، وفي الحديث: «إن الله يُحب أن تُؤتى رُخَصُه كما يكرهُ أن تؤتى معْصِيتُه» رواه أحمد وابنُ حبان وابنُ خُزَيمة في صحيحيهما.
الثالثةُ: أنْ يضُرَّه الصومُ فيجبُ عليه الْفطرُ ولا يجوزُ له الصومُ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29]، وقولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، ولقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ لِنفْسكَ عليْك حقَّاً»، رواه البخاري. ومن حقهَا أنْ لا تضرَّها مع وجود رخصةِ الله سبحانه. ولقولِه صلى الله عليه وسلّم: «لا ضَررَ ولا ضرارِ»،
أخرجه ابن ماجه والحاكم. قال النَّووي وله طرق يقويِ بعضها بعضاً.
وإذا حدَث له المرَضُ في أثناءِ رمضانَ وهو صائمٌ وشقَّ عليه إتمامُه جاز له الفطرُ لوجودِ المُبيح للفطر. وإذا برأ في نهارِ رمضانَ وهو مفطر لم يصحَّ أنْ يصومَ ذلك اليَوْمَ لأنَّه كان مُفطِراً في أوَّلِ النهار، والصومُ الواجب لا يصحُّ إلاَّ مِنْ طلوع الفجر ولكِنْ هل يلْزَمه أنْ يُمسِكَ بقية يومِهِ؟ فيه خلافٌ بَيْنَ العلماء سبق ذكْرُه في المسافرِ إذا قدِم مُفطِراً.
وإذا ثبت بالطِّبِّ أنَّ الصومَ يجلِبُ المرَضَ أو يؤخر بُرءَه جاز له الفطرُ محافظةً على صِحَّتِه واتقاءً للمرض. فإنْ كان يُرْجى زوالُ هذا الْخَطر، انْتظَرَ حتى يزولَ ثم يقضْى ما أفْطر. وإنْ كان لا يُرْجى زوالهُ فحكمه حُكمُ القسمِ الخامِسِ يُفطِرُ ويُطْعِمُ عنْ كلِّ يومٍ مسكيناً.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا للعملِ بما يُرضيك، وجنِّبْنا أسبابَ سَخَطِك ومعاصِيْك، واغفر لنا ولوالدينَا ولجميع المسلمينَ برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
05-29-2018, 04:20 PM
المجلس الثامن: في بقيّة أقسام الناس في الصيّام وأحكام القضاء
الحمدُ لله الواحدِ العظيم الجبَّار القدير القويَّ القَهَّار، المُتَعالِي عن أنْ تُدركهُ الخواطر والأبْصار، وَسَمَ كل مخلوقٍ بسِمة الافتِقار، وأظْهر آثارَ قدرتِه بتصريفِ الليلِ والنهار، يسمعُ أنين المدنفِ يَشْكو ما بِه مِنَ الأضْرار، ويُبْصِر دبيبَ النملةِ السوداءِ في الليلةِ الظَّلماءِ على الغَار، ويعلم خَفِيَّ الضَّمائرِ ومكنونَ الأسْرار، صفاتُه كذاته والمُشبِّهةُ كفَّار، نُقرُّ بما وصف به نفسه على ما جاء في القرآنِ والأخبار {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109]، أحْمدُه سبحانَه على المَسَارِّ والمَضَارِّ،
وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ المتفردُ بالْخلقِ والتدبير {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68]، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسولهُ أفضلُ الأنبياءِ الأطهارِ، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر رفيقِه في الْغَار، وعلى عُمرَ قامِع الكُفَّار، وعلى عثمانَ شهيدِ الدَّار، وعلى عليٍّ القائمِ بالأسْحار، وعلى آلِهِ وأصْحابهِ خصوصاً المهاجرينَ والأنْصار، وسلَّم تسليماً.
إخواني: قدَّمنَا الكلامَ عن سبعة أقسامٍ من أقْسَامِ الناسِ في الصيامِ وهذه بقيَّةُ الأقسامِ:
القسمُ الثامنُ: الحائضُ فيحرمُ عليها الصيامُ ولا يصحُّ منها لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في النساءِ: «ما رأيت مِنْ ناقصاتِ عَقْلٍ ودينٍ أذْهَبَ للُبِّ الرَّجل الحازمِ مِنْ إحداكُنَّ، قُلنَ: وما نقصانُ عقلِنا ودينِنا يا رسولَ الله؟ قال: أَلْيسَ شَهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرَّجُلِ؟ قُلنَ: بلى. قال: فذلك نقصانُ عَقْلِها، أليس إذا حاضتْ لم تُصلِّ ولَم تُصم؟ قلن: بلى. قال: فذلك مِنْ نقصانِ دِيْنِها»، متفق عليه. والْحيْضُ دمُ طبيعي يعتادُ المرأةَ في أيَّامٍ معلومةٍ.
وإذا ظَهَرَ الحيضُ منها وهي صائمةٌ ولو قبلَ الغروبِ بلحْظَةٍ بَطلَ صومُ يومِها ولزِمَها قضاؤه إلاَّ أنْ يكون صومُها تطوُّعاً فقضاؤه تطوُّعٌ لا واجبٌ. وإذا طهُرتْ من الحيضِ في أثناءِ رمضانَ لم يصحَّ صومُها بقيَّة اليومِ لوجودِ ما يُنافي الصيامَ في حقِّها في أولِّ النهارِ، وهل يَلزمُها الإِمْساك بقيَّة اليوم؟ فيه خلافٌ بين العلماء سبق ذِكْرُه في المسافر إذا قدِم مُفطِراً. وإذا طهرتْ في الليل في رمضان ولو قبْل الفجرِ بلحظة وجب عليها الصومُ لأنها مِنْ أهلِ الصيام وليس فيها ما يمنعُه فوجبَ عليها الصيامُ، ويصحُّ صومُها حينئذٍ وإنْ لم تَغْتَسل إلاَّ بعد طلوعِ الفجر كالجُنبِ إذا صامَ ولم يغْتسِلْ إلاَّ بعدَ طلوعِ الْفجرِ فإنَّه يصحُّ صومُه لقول عائشة رضي الله عنها: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يصبحُ جُنُباً من جماعٍ غير احتلامٍ ثم يصومُ في رَمضانَ»، متفق عليه.
والنُّفسَاءُ كالحائضِ في جميع ما تقَدَّم. ويجبُ عليها القضاءُ بعددِ الأيام التي فاتَتْها لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها: ما بالُ الحائضِ تقضي الصومَ ولا تقضي الصلاة؟ قالتْ: «كان يصيبُنَا ذلك فنؤمرُ بقضاء الصومِ ولا نؤمرُ بقضاء الصلاة»، رواه مسلم
القسمُ التاسعُ: المرأة إذا كانت مُرضعاً أو حاملاً وخافتْ على نفسِها أو على الولَد من الصَّوم فإنها تفطرُ لحديث أنسِ بن مالك الْكعِبي رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله وضَع عن المسافر شطرَ الصلاة وعن المسافر والحامل والمرضع الصومَ أو الصيام»، أخرجه الخمسة، وهذا لفظ ابن ماجة . ويلزمُهَا القضاءُ بِعَدَدِ الأيامِ التي أفطرتْ حِينَ يتيسَّرُ لها ذلك ويزولُ عنها الخوفُ كالمريض إذا بَرِأ.
القسمُ العاشرُ: مَن احتاج للْفطرِ لِدفْعِ ضرورةِ غيرهِ كإِنقاذ معصومٍ مِنْ غرقٍ أوْ حريقٍ أو هدْمٍ أوْ نحو ذلك فإذا كان لا يمكنه إِنقَاذُه إلاَّ بالتَّقَوِّي عليه بالأكْل والشُّرب جاز له الفِطرُ، بل وَجبَ الفطرُ حِيْنئذٍ لأن إنقاذ المعصوم من الْهَلكَةِ واجبٌ، وما لا يَتمُّ الواجبُ إلاَّ به فهو واجبُ، ويلزمُه قضاءُ ما أفْطَرَه.
ومثلُ ذلك مَن احتاجَ إلى الْفِطرِ للتَّقَوِّي به على الْجهادِ في سبيل الله في قِتَاله الْعَدُوَّ فإنه يفْطر ويقضي ما أفطَر سواء كان ذلك في السفر أو في بلده إذا حضره العَدُوُّ لأنَّ في ذلك دفاعاً عن المسلمينَ وإعلاءً لكلمةٍ الله عزَّ وجَلَّ.
وفي صحيح مسلمٍ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال: سافَرْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى مكةَ ونحنْ صيامٌ فنَزلْنا منْزلاً فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «إنكم قد دَنَوْتم مِنْ عدوِّكم والْفِطرُ أقْوى لكم» فكانتْ رخصةً فمِنَّا مَنْ صامَ ومنا مَنْ أفْطر، ثم نزلنا منزلاً آخرَ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم:«إنكم مُصَبِّحو عدوِّكم والفطرُ أقوى لكم فأفْطرِوا وكانتْ عزمْةً فأفْطَرنا». ففي هذا الحديث إيماءٌ إلى أن القوةَ على القتال سببٌ مُستقِلٌ غيرُ السفرِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم جعل عِلَّةَ الأمْرِ بالفِطر القُوَّةَ على قتالِ العدُوِّ دونَ السفرِ ولذلِك لم يأمرهم بالفِطر في المنزَلِ الأوَّل.
وكُلُّ مَنْ جاز له الفطرُ بسببٍ مما تقَدَّم فإنَّه لا يُنكرُ عليه إعْلانُ فِطْرهِ إذا كان سبَبُه ظاهراً كالمريضِ والكبير الذي لا يستطيع الصومَ، وأمَّا إن كان سببُ فطره خفيَّاً كالحائِضِ ومَنْ أنقَذَ معصوماً من هلَكةٍ فإنه يُفطر سرَّاً ولا يعْلِنُ فِطْرَه لئلا يَجُرَّ التهمةَ إلى نَفْسِه ولئلاَّ يَغْتَرَّ به الجاهلُ فيظنُّ أنَّ الفطرَ جائزٌ بدون عُذْر.
كُلُّ من لَزِمه القضاءُ من الأقسام السابقةِ فإنَّه يقْضِي بعددِ الأيامِ التي أفْطر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. فإنْ أفطَر جَميعَ الشهر لزمه جميعُ أيامه. فإن كان الشهر ثلاثين يوماً لزمه ثلاثون يوماً، وإن كان تسعةً وعشرينَ يوماً لزمه تسعةٌ وعشرونَ يوماً فَقْط.
والأوْلىَ المُبادَرَةُ بالْقضاءِ من حينِ زوالِ الْعذرِ لأنه أسبقُ إلى الخيرِ وأسْرَعُ في إبراءِ الذِّمَّةِ. ويجوز تأخيرهُ إلى أن يكونَ بينهُ وبين رمضانَ الثاني بعددِ الأيامِ التي عليه لقولِه تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ} [البقرة: 184]. ومن تمام الْيُسرِ تأخير قضائِها. فإذا كان عليه عشرةُ أيامٍ من رمضان جاز تأخيرها إلى أن يكون بينه وبينَ رمضانَ الثاني عشرة أيامٍ.
ولا يجوز تأخيرُ القضاءِ إلى رمضانَ الثاني بدونِ عذرٍ لقولِ عائشة رضي الله عنها: «كان يكونُ عليَّ الصومُ من رمضانَ فما أسْتطيع أنْ أقضيه إلاَّ في شعبانَ»، رواه البخاري، ولأنَّ تأخيره إلى رمضانَ الثاني يُوْجبُ أنْ يتراكم عليه الصومُ وربَّمَا يعجزُ عنه أوْ يموتُ، ولأن الصومَ عبادةٌ متكرِّرةٌ فَلْم يَجُز تأخيرُ الأولَى إلى وقتِ الثانيةِ كالصلاةِ، فإن استَمرَّ به العذرُ حَتَّى ماتَ فلا شَيْءَ عليه لأن الله سبحانه أوجَبَ عليه عدَّةً من أيامٍ أُخَرَ ولم يتمكنْ منْها فسقطت عنه كمن مات قبلَ دخولِ شهر رمضانَ لا يلزمُه صومُه، فإن تمكَّن من القضاءِ فَفَرَّط فيه حتى مات صام وليُّهُ عنه جميعَ الأيامِ التي تمكَّنَ من قضائِها، لقوله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ ماتَ وعليه صيامٌ صامَ عنه وليُّه»، متفق عليه.
ووَلِيُّهُ وارِثُه أو قريبُه. ويجوز أنْ يصومَ عنه جماعةٌ بعددِ الأيامِ التي عليه في يوم واحدٍ، قال البخاري: قال الحسنُ: إن صامَ عنه ثلاثَونَ رجلاً يوماً واحداً جاز. فإن لم يكن له وليٌّ أو كان له وليٌّ لا يريدُ الصومَ عنه أُطعمَ مِنْ تركتِه عن كلِّ يومٍ مسكينٌ بعددِ الأيام التي تمكَّنَ من قضائِها؛ لِكُلِّ مسكينٍ مدُّ بُرٍّ وزنه بالبرِّ الجيِّد نصفُ كيلو وعشرةُ جرامات.
إخواني: هذه أقسامُ الناسِ في أحكام الصيامِ شرعَ الله فيها لكل قِسْمٍ ما يُناسِب الحالَ والمَقَام. فاعرِفوا حكمة ربِّكم
في هذه الشَّرِيْعَة. واشكروا نعمتَهُ عليكم في تسهيلِهِ وتيْسيرِه. واسألوه الثَّباتَ على هذا الدِّينِ إلى الممات.
اللَّهُمَّ اغْفِر لنا ذنوباً حالتْ بيننا وبينَ ذِكْرِك. واعفُ عن تقصيرنا في طاعتِك وشُكْرك. وأدم علينا لُزُومَ الطريقِ إليَك. وهَبْ لنا نُوراً نهتدي به إليك. اللَّهُمَّ أذِقْنا حلاوةَ مناجاتِك. واسلكْ بنا سبيلَ أهْلِ مرضاتِك. اللَّهُمَّ أنْقِذْنا من دَرَكاتِنا، وأيْقظْنا من غفَلاتِنا، وألْهمنا رُشْدَنَا، وأحْسِنْ بكَرَمِك قصدَنا، اللَّهُمَّ احْشُرْنا في زُمْرةِ المُتَّقين، وألحقْنا بعبادِك الصالحِينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-01-2018, 03:39 PM
المجلس التاسع: (( في حِكَمِ الصِّيَام ))
الحمدُ للهِ مدبِر الليالي والأيام، ومصرف الشهور والأعوام، الملكِ القدُّوس السلام، المُتفرِّدِ بالعظمةِ والبقاءِ والدَّوام، المُتَنزِّهِ عن النقائصِ ومشابهَةِ الأنام، يَرَى ما في داخلِ العروقِ وبواطنِ العظام، ويسمع خَفِيَّ الصوتِ ولطيفَ الكلام، إِلهٌ رحيمٌ كثيرُ الإِنعَام، ورَبٌ قديرٌ شديدُ الانتقام، قدَّر الأمورَ فأجْراها على أحسنِ نظام، وشَرَع الشرائعَ فأحْكمَها أيَّما إحْكام، بقدرته تهبُّ الرياحُ ويسير الْغمام، وبحكمته ورحمته تتعاقب الليالِي والأيَّام، أحمدُهُ على جليلِ الصفاتِ وجميل الإِنعام، وأشكرُه شكرَ منْ طلب المزيدَ وَرَام،
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الَّذِي لا تحيطُ به العقولُ والأوهام، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أفضَلُ الأنام، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ السابق إلى الإِسلام، وعلى عمَرَ الَّذِي إذا رآه الشيطانُ هَام، وعلى عثمانَ الَّذِي جهَّزَ بمالِه جيشَ العُسْرةِ وأقام، وعلى عليٍّ الْبَحْرِ الخِضَمِّ والأسَدِ الضِّرْغَام، وعلى سائر آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإِحسانٍ على الدوام، وسلَّم تسليماً.
عبادَ الله: اعلموا رحمكم اللهُ أنَّ الله سبحانَه لَهُ الحكمُ التام والحكمة البالغة فيما خَلَقه وفيما شَرَعه، فهُوَ الحكِيمُ في خَلقِهِ وفي شرْعِهِ، لم يَخلقْ عبادَه لَعِباً، ولمْ يتركهم سُدىً، ولم يَشْرعْ لهم الشرائع عبثاً، بل خلقهم لأمرٍ عظيمٍ، وهيَّأهمْ لِخطبٍ جَسيمْ، وبيَّن لهم الصراطَ المستقيم، وشرعَ لهم الشرائعَ يزداد بها إيمانهم، وتكمُلُ بها عبادتُهم، فما من عبادة شرعها الله لعباده إلا لحكمةٍ بالغة، علِمَها مَنْ علِمَها وجهِلهَا منْ جهِلهَا، وليس جهْلُنا بحكمَة شَيْءٍ من العباداتِ دليلاً على أنه لا حكمَة لها، بل هو دليلٌ على عجزنا وقصورنا عن إدراك حكمة الله سبحانَه لقوله تعالى: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإِسراء: 85].
وقد شَرعَ اللهُ العباداتِ ونظَّمَ المعاملاتِ ابتلاءً وامتحاناً لعبادِهِ ليَتبيَّن بذلك منْ كان عابداً لمَوْلاَهُ ممَّن كان عابداً لِهواه، فَمنْ تقبَّلَ هذه الشرائعَ وتلكَ النظم بصدرِ منشَرحٍ ونفس مطمئنة فهو عابدٌ لمولاه، راضٍ بشريعتِه، مُقدِّمٌ لطاعةِ ربِّه على هوى نفْسِه، ومن كان لا يقْبلُ من العباداتِ، ولا يتبعُ من النُّظُم إلا مَا ناسَبَ رغبتَه ووافقَ مرَادَه فهو عابدٌ لهواه، ساخطٌ لشريعة الله، مُعرضٌ عن طاعةِ ربِّه، جعلَ هواه متْبُوعاً لا تابعاً، وأراد أنْ يكونَ شرع الله تابعاً لرغبتِه مع قصورِ علْمِه وقلَّةِ حكمته قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
ومن حكمة الله سبحانه أن جَعَل العباداتِ مُتنوِّعةً ليتمحَّصَ القُبولُ والرِّضى، ولِيمحِّصَ الله الذينَ آمنوا. فإنَّ منَ الناسِ منْ قد يَرضى بنَوْع مِنَ العباداتِ ويلتزم به، ويسخطُ نوعاً آخر ويفرِّطُ فيه فجعل اللهُ من العبادات ما يتَعَلَّقُ بعمَلِ البدَنِ كالصلاةِ، ومنها ما يتعلقُ ببذْلِ المالِ المحبوب إلى النفسِ كالزكاةِ، ومنها ما يتعلقُ بعملِ البدنِ وبذلِ المال جميعاً كالحج والجهادِ، ومنها ما يتعلقُ بكفِّ النَّفْسِ عن محبوباتها ومُشْتَهَيَاتها كالصيام. فإذا قام العبد بهذه العبادات المتنوعة وأكْمَلها على الوجهِ المطلوب منه دون سخطٍ أو تفريطٍ فتعب وعملَ وبذَلَ ما كان محبوباً إليه وكفَّ عما تشتهيه نفْسُه طاعةً لربِّه وامتثالاً لأمْرِهِ ورضاً بشرعِهِ كان ذلك دليلاً على كمالِ عُبوديته وتمام انْقيادِه ومَحبَّتِهِ لربِّه وتعظيمِه له فَتحقَّقَ فيه وصفُ العُبوديَّة لله ربِّ العالمِين.
إذا تبينَ ذلك فإنَّ للصيامِ حِكَماً كثيرةً استوجبتْ أنْ يكونَ فريضةً من فرائِض الإِسلامِ وركناً منْ أركانِه.
فمنْ حِكَمِ الصيام أنَّه عبادةٌ لله تعالى يَتَقَرَّبُ العبدُ فيها إلى ربِّه بتْركِ محبوباتِه ومُشْتَهَياتِه منْ طعام وشرابٍ ونِكاح، فيظْهرُ بذلك صدقُ إيْمانِه وكمالُ عبوديتِه لله وقوةُ مَحَبَّته له ورجائِه ما عنده. فإنَّ الإِنسانَ لا يتركُ محبوباً له إلاَّ لمَا هو أعْظَمُ عنده مِنه. ولما عَلِمَ المؤمنُ أن رضَا الله في الصِّيام بترك شهواته المجبول على محبَّتِها قدَّمَ رضَا مولاه على هواه فَتَركها أشدَّ ما يكونُ شوقاً إليها لأنَّ لذتَه وراحةَ نفْسِهِ في تْركِ ذلك لله عزَّ وَجلَّ، ولذلك كان كثيرٌ من المؤمنين لو ضُربَ أو حُبسَ على أن يُفْطر يوماً من رمضانَ بدونِ عُذْرٍ لم يُفطِرْ. وهذه الحكمةُ من أبلغ حِكمِ الصيامِ وأعظمِها.
ومنْ حِكَمِ الصيام أنه سببٌ للتَّقْوى كما قال سبحانه وتعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. فإنَّ الصَّائِمَ مأمُورٌ بفعل الطاعاتِ واجتناب المعاصي كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «منْ لَم يَدعْ قول الزورِ والعملَ به والجَهلَ فليس لله حاجةٌ في أنَّ يَدعَ طعامَه وشرابَه»، رواه البخاري. وإذا كان الصائمُ متلبساً بالصيامِ فإنَّه كلَّما همَّ بمعصيةٍ تَذكَّر أنَّه صائمٌ فامتَنعَ عنها. ولهذا أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الصائمَ أنْ يقولَ لمَنْ سابَّه أو شاتَمَه: إنِي امْرؤٌ صائمٌ، تَنْبيهاً له على أنَّ الصائمَ مأمورٌ بالإِمساك عن السَّبِّ والشَّتْمِ، وتذكيراً لنفْسِه بأنه متلبسٌ بالصيام فيمتنعُ عن المُقابَلةِ بالسبِّ والشتم.
ومن حِكَم الصيامِ أن القلب يتخلَّى للفِكْرِ والذِّكْرِ، لأنَّ تَناوُلَ الشهواتِ يستوجبُ الْغَفْلَةَ ورُبَّما يُقَسِّى القلبَ ويُعْمى عن الحقِّ، ولذلك أرشَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إلى التخفيفِ من الطَّعامِ والشراب، فقال صلى الله عليه وسلّم: «مَا مَلأ ابنُ آدمَ وِعَاءً شرّاً من بطنٍ، بحَسْبِ ابن آدمَ لُقيْماتٌ يُقمن صُلْبَه، فإِن كان لا مَحالَةَ فَثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابه وثلثٌ لنفسِهِ» رواه أحمد والنسائيُّ وابن ماجة.
وفي صحيح مُسْلمٍ أنَّ حْنَظلَة الأسُيديِّ ـ وكان منْ كتَّاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم ـ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم: نَافَق حنظلةُ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وما ذَاك؟» قال: يا رسولَ الله نكونُ عندك تُذكِّرُنا بالنارِ والجنةِ حتى كأنَّا رأيُ عينٍ فإذَا خَرجنا من عندك عافسْنَا الأزْواجَ والأولادَ والضَّيعاتِ فَنسِيْنا كثيراً. (الحديث) وفيه: «ولكن يا حنظلةُ ساعةً وساعة» ثلاث مرات. وقال أبو سليمان الداراني: إن النفسَ إذا جاعت وعطِشَت صَفَا القلب وَرَقَّ وإذا شبِعت عميَ القلب.
ومنْ حِكَمِ الصيامِ أنَّ الغنيَّ يَعرفُ به قدْرَ نعمةِ الله عليه بالغِنَى حيثُ أنعمَ الله تعالى عليه بالطعامِ والشرابِ والنكاح وقد حُرِمَهَا كثيرٌ من الْخلْق فَيَحْمَد الله على هذه النِعمةِ ويشكُرُه على هذا التَّيسيرِ، ويذكرُ بذلك أخَاه الفقيرَ الذي ربَّما يبيتُ طاوياً جائِعاً فيجودُ عليه بالصَّدَقةِ يكْسُو بها عورتَه ويسُدُّ بها جَوعتَه. ولذلك كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أجْوَدَ الناسِ وكان أجْودَ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريلُ فيُدارِسُه القرآنَ.
ومن حِكَمِ الصيامِ التَّمرُّنُ على ضَبْطِ النَّفْسِ، والسَّيْطرةُ عليها، والْقوَّةُ على الإِمساكِ بزِمَامِهَا حتى يتمكنَ من التحكم فيها ويقودَها إلى ما فيه خيرُها وسعادتها، فإنَّ النَّفس أمَّارةٌ بالسوءِ إلاما رَحِمَ ربي، فإذا أطلقَ المرءُ لنَفْسِهِ عنَانها أوقعتْهُ في المهالك وإذا ملَكَ أمْرَها وسيْطر عليها تمكَّنَ من قيادتِها إلى أعلى المراتب وأسْنَى المَطَالب.
ومن حِكَمِ الصيام كسْرُ النفْس والحدُّ من كِبريائِها حتى تخضعَ للحق وتَلِيْنَ للخَلْق، فإنَّ الشَبعَ والرِّيَّ ومباشرةَ النساءِ يَحمِلُ كلٌ منها على الأشَرِ والْبَطرِ والعُلوِّ والتكبُّر على الخَلْقِ وعن الحقِّ. وذلك أنَّ النفسَ عند احتياجِها لهذه الأمورِ تشغلُ بتحصيلِها فإذا تَمكَّنتْ منها رأتْ أنَّها ظَفِرتْ بمطلوبها فيحصلُ لها من الفَرحِ المذمومِ والبطرِ ما يكونُ سبباً لِهلاكها، والمَعْصومُ مَنْ عَصَمَه الله تعالى.
ومن حِكَمِ الصيامِ أنَّ مجارِيَ الدَّم تضيقُ بسببِ الجوع والعطشِ فتضيقُ مَجارِي الشيطانِ من الْبَدنِ فإنَّ الشيطانَ يَجْري مِن ابن آدَمَ مجْرَى الدم، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم، فتسْكُنُ بالصيامِ وَسَاوسُ الشيطانِ، وتنكسرُ سَورةُ الشهوةِ والغضبِ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا مَعْشَر الشباب مَن استطاع منكم الْبَاءةَ فلْيتزوجْ فإنَّه أغَضُّ للبَصر وأحْصَنُ لِلفَرْجِ، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصومِ فإنه له وِجاءُ»، متفق عليه. فجعل الصوم وجاء لشهوة النكاح وكسراً لحدتها.
ومنْ حِكَمِ الصيامِ ما يترتَّبُ عليه من الفَوائدِ الصِّحِّيَّةِ الَّتي تحصل بتقليل الطعامِ وإراحَةِ جهازِ الهضْم لمدةٍ معينةٍ وترسُّبِ بعضِ الرطوباتِ والفضلات الضَّارَّةِ بالجسْمِ وغير ذلك. فما أعظمَ حكمةَ الله وأبلَغَها، وما أنفعَ شرائعَه للخلق وأصلحَهَا.
اللَّهُمَّ فقِّهْنا في ديِنك وألهمنا معرفةَ أسرارِ شريعتِك. وأصْلحِ لنا شُؤون ديننَا ودنيانا، واغْفِرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين وصلى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-01-2018, 03:45 PM
المجلس العاشر: في آداب الصيام الواجبة
الحمدُ لله الَّذِي أرْشَدَ الخلقَ إلى أكْملِ الاداب، وفتَحَ لهم من خزائنِ رحمتِهِ وجودِهِ كُلَّ باب، أنَار بصائرَ المؤمنينَ فأدركوا الحقائقَ وطلبُوا الثَّواب، وأعْمَى بصائرَ المُعْرِضين عن طاعتِهِ فصار بينهم وبين نوره حجاب، هدى أولئك بفضله ورحمته وأضلَّ الآخرين بعدله وحكمته، إن في ذلك لذِكْرى لأولى الألبَاب، وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له، له الملكُ الْعَزيزُ الوَهَّاب، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبده ورسولهُ المبعوثُ بأجَلِّ العباداتِ وأَكمَلِ الآداب، صلَّى الله عليه وعلى جميع الالِ والأصْحَاب، وعلى التابعين لَهم بإحْسَانٍ إلى يومَ المَآب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: اعْلَمُوا أنَّ للصيام آداباً كثيرةً لا يتمُّ إِلاّ بها ولا يكْمُلُ إِلاَّ بالقيامِ بها وهي على قِسمَين: آدابٌ واجبةٌ لا بُدَّ للصائم من مُراعاتِها والمحافظةِ عليها، وآداب مستحبةٌ ينبغي أن يُراعيها ويحافظَ عليها.
فمنَ الآداب الواجبةِ أنْ يقومَ الصائمُ بما أوجبَ الله عليه من العباداتِ القوْليَّةِ والفعليَّةِ ومن أهمِّها الصلاةُ المفروضةُ التي هي آكدُ أركانِ الإِسلامِ بعد الشهادَتَين، فتجبُ مراعاتُها بالمحافظةِ عليها والقيامِ بأرْكانِها وواجباتِها وشروطِها، فيؤديها في وقْتِها مع الجماعةِ في المساجِدِ، فإنَّ ذَلِكَ من التَّقْوى التي مِنْ أجْلها شُرعَ الصيامُ وفُرِضَ على الأمة، وإضاعةُ الصلاة مُنافٍ للتَّقْوى وموجبٌ للعقوبةِ. قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً الشَّهَوَتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً * إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 59، 60].
ومِنَ الصائمين مَنْ يتهاونُ بصلاة الجماعةِ مع وُجوبها عليه. وقد أمَرَ الله بها في كتابه فقال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ} (يعني: أتُّموا صلاتَهم) فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].
فأمر الله بالصلاةِ مع الجماعةِ في حالِ القتالِ والخوفِ. ففي حالِ الطُّمَأنينةِ والأمنِ أوْلَى. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه: «أنَّ رجُلاً أعْمَى قال: يا رسولَ الله ليس لي قائدٌ يقودنُي إلى المسجدِ. فرخَّصَ له. فلمَّا ولَّى دعاه وقال هلْ تسمعُ النِّداء بالصلاةِ؟ قال نَعَمْ قال فأَجِبْ»، رواه مسلم. فلم يُرخِّص له النبيُ صلى الله عليه وسلّم في تركِ الجماعةِ مع أنه رجلٌ أعمى وليس له قائد، وتاركُ الجماعةِ مع إضاعتِهِ الواجبَ قَدْ حَرَم نفْسَه خيراً كثيراً من مُضاعفةِ الحسنات، فإن صلاة الجماعة مضاعفة كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاةُ الجماعة تفضل على صلاةِ الْفذِّ بسبْعٍ وعشرين درجةً». وفوَّتَ المصالِحَ الاجتِماعيَّة التي تحصل للمسلمين باجتماعِهم على الصلاةِ من غرْسِ المَحَبَّةِ والأُلفةِ وتعليمِ الجاهلِ ومساعدةِ المحتاجِ وغير ذلك.
وبتركِ الجماعةِ يَعرِّضُ نفْسَه للعقوبةِ ومشابهةِ المنافقينَ، ففي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أثْقلُ الصَلَوَاتِ على المنافقين صلاةُ العشاءِ وصلاةُ الفجر، ولو يَعْلَمون ما فيهما لأتَوهُما ولوْ حَبْواً. ولقد هممْت أنْ آمُرَ بالصلاةِ فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق معي برِجالٍ معهم حِزَمٌ من حطبٍ إلى قوم لا يشهدون الصلاةَ فأحرق عليهم بيوتَهم بالنارِ». وفي صحيح مسلم عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: من سَرَّه أنْ يَلْقى الله غداً مسلماً فلْيحافظْ على هؤلاء الصلواتِ، حيث يُنادَى بهن فإنَّ الله شَرَعَ لنبيكم سُنَنَ الْهُدى وإنهنَّ مِنْ سُننِ الهُدى، قال: ولقد رأيتنا وما يتخلَّفُ عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النفاقِ. ولقد كَان الرجُلُ يُؤتْى به يُهادَى بين الرجلين حتى يقامَ في الصفَّ.
ومن الصائمين مَنْ يتجاوزُ بالأمر فينامُ عن الصلاةِ في وقتِها. وهذا منْ أعظمِ المنكرات وأشدِّ الإِضاعَةِ للصلواتِ حتى قال كثيرٌ من العلماءِ: إن مَنْ أخَّرَ الصلاةَ عن وقتِها بدونِ عذْرٍ شرعيٍّ لَمْ تقبلْ وإن صلى مئة مرَّةٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ عمِل عملاً ليس عليه أمْرُنا فهو رَدُّ»، رواه مسلم. والصلاةُ بعد وقتِها ليس عليها أمرُ النبي صلى الله عليه وسلّم فتكونُ مردودةً غيرَ مقبولةٍ.
ومن الآداب الواجبةِ: أن يجتِنبَ الصائمُ جميعَ ما حَرَّمَ الله ورسولُه مِنَ الأقوال والأفَعالِ، فيجتنبَ الكذبَ وهو الإِخبار بخلاف الواقع، وأعظمُه الكذبُ على الله ورسولِه كأنْ يَنْسُبَ إلى الله أو إلى رسولِهِ تحليَلَ حرامٍ أوْ تحريمَ حلالٍ بلا علم. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117]، وفي الصحيحين وغيرهما من حديثِ أبي هريرة وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقْعَدَه من النار». وحذَّر النبي صلى الله عليه وسلّم من الْكَذِب فقال: «إيَّاكُم والكذبَ فإنَّ الكَذبَ يَهْدِيْ إلى الفُجُورِ وإنَّ الفجورَ يهدِي إلى النار ولا يزالُ الرجلُ يكذِب ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَب عند الله كَذَّاباً»، متفق عليه.
ويجتنبُ الغِيْبَةَ، وهي ذكْركَ أخَاك بما يَكْرهُ في غَيْبتِهِ، سواءٌ ذكرتَه بما يَكرَه في خِلْقَتهِ كالأعْرَجِ والأعورِ والأعمى على سبيلِ الْعيْبِ والذَّم، أو بما يَكرهُ في خُلُقِه كالأحْمَق والسفيهِ والفاسِقِ ونحوه. وسواءٌ كان فيه ما تقُولُ أمْ لم يكُنْ، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سُئل عن الغِيْبةِ فقال: «هي ذكْرُك أخاك بما يكْره، قيل: أفَرأيتَ إنْ كان في أخِي ما أقول؟ قال: إنْ كان فيه ما تقولُ فقد اغتبتَه وإنْ لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّهُ»، رواه مسلم. ولقد نهى الله عن الغِيبةِ في القرآن وشبَّهها بأبشعِ صورةٍ؛ شبَّهها بالرَّجُل يأكلُ لحمَ أخيه ميتاً، فقال تعالى: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]. وأخْبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه مَرَّ لَيْلَةَ المعراجِ بقومٍ لهم أظْفارٌ من نُحاسٍ يخمشون بها وجوهَهم وصدورَهُمْ فقال: «مَنْ هؤلاء يا جبريلُ؟ قالَ: هؤلاءِ الذينَ يأكلونَ لحومَ الناسِ ويَقعونَ في أعْراضِهِم»، رواه أبو داود.
ويجتنبُ النَّمِيْمَةَ وهي نقْلُ كلامِ شخصٍ في شخصٍ إليهِ ليُفْسدَ بَينهما، وهي من كبائِر الذنوبِ. قال فيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «لا يدخلُ الجَنَّةَ نَمَّام»، متفق عليه. وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم مرَّ بقَبْرَين فقال: «إنَّهما ليُعَذَّبانِ وما يُعذَّبان في كبير (أي في أمرٍ شاقٍّ عليهما)، أمَّا أحَدُهما فكان لا يسْتنْزهُ من البولِ، وأمَّا الآخرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّميمة». والنميمةُ فَسَادٌ للفَرْدِ والمجتَمَع وتفريقٌ بينَ المسلمين، وإلقاءٌ للعداوةِ بينهم {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11] فمن نمَّ إليكَ نمّ فيك فاحذره.
ويجتنبُ الْغِشَّ في جميع المعاملاتِ من بيعٍ وإجارةٍ وصناعةٍ ورهنٍ وغيرها، وفي جميع المناصحاتِ والمشوراتِ فإنَّ الغشَّ من كبائِر الذنوبِ، وقد تبرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من فاعِلِه فقال صلى الله عليه وسلّم: «من غَشَّنَا فليس مِنَّا». وفي لفظٍ: «من غش فليس مِني»، رواه مسلم. والغشُّ خديعةٌ وضياعٌ للأمانةِ وفقْدٌ للثِّقَةِ بين الناسِ، وكلُّ كَسبٍ من الغشِّ فإنَّه كسبٌ خبيثٌ حرامٌ لا يزيدُ صاحبَه إلاَّ بُعْدَاً من الله.
ويجتنبُ المَعازِفَ وهي آلاتُ اللَّهْوِ بجميعِ أنواعِها كالْعُودِ والرَّبابةِ والقَانونِ والْكَمنجَةِ والبيانو والْكَمانِ وغيرها فإنَّ هذه حَرَام. وتزدادُ تحريماً وإثماً إذا اقترنت بالْغنَاءِ بأصواتٍ جميلةٍ وأغانٍ مثيرةٍ قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان: 6]. وقد صَحَّ عن ابن مسعودٍ أنَّه سُئِلَ عن هذِه الآية فقال: والله الذي لا إِلهَ غيرُه هو الغناء. وصح أيضاً عن ابن عباسٍ وابن عمرَ وذكره ابن كثيرٍ عن جابرٍ وعكرمةَ وسعيدِ بن جُبيْرٍ ومجاهِدٍ وقال الْحَسنُ: نزلتْ هذه الاية في الغناءِ والمزامير. وقد حذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم من المَعازفِ وقَرَنَها بالزِّنَا فقال صلى الله عليه وسلّم: «ليكونَنَّ من أمَّتي أقْوَامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ والحريرَ والخمْر والمعازفَ»، رواه البخاري. فالْحِرُ الفَرْجُ والمراد به الزِنا ومعنى يستحلون أي يفعلَونَها فعْلَ المستحِلِّ لها بدونِ مبالاةٍ،
وقد وقعَ هذَا في زمِننا فكان مِن الناسِ من يستعملُ هذه المعازفَ أوْ يَسْتَمِعُها كأنَّها شَيْءٌ حلالٌ، وهذا مما نجحَ فيه أعداء الإِسلام بكيدهم للمسلمين حتى صدوهم عن ذكر الله ومهامِّ دينهم ودنياهُم، وأصْبَحَ كثيرٌ منهم يستمعون إلى ذلك أكْثر مما يستمعونَ إلى قراءةِ القرآنِ والأحاديثِ وكلام أهْلِ العلم المُتضمِّنِ لبيانِ أحْكامِ الشريعةِ وحِكَمِها.
فاحذورا أيها المسلَمونَ نواقضَ الصومِ ونواقِصَهُ، وصُونُوه عن قول الزُّورِ والعملِ به. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أنْ يَدَع طعامَهَ وشرابَه». وقال جابرٌ رضي الله عنه: إذا صمتَ فليصمْ سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارِمِ، ودَع عنك أذَى الجارِ، وليكن عليك وقارٌ وسَكِينةٌ، ولا يكن يومُ صومِك ويومُ فِطْرِك سواءً.
اللَّهُمَّ احفظْ علينا دينَنَا. وكفَّ جوارحَنا عما يُغْضبُك. واغفرْ لنا ولِوالِدينا ولجميع المسلمينَ برحمتِكَ يا أرْحَمَ الراحمينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نَبِيَّنَا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-02-2018, 04:17 PM
المجلس الحادي عشر: في آداب الصيام المستحبة
الحمدُ لله مُبلِّغِ الراجِي فوقَ مأمُولِه، ومُعْطِي السائلِ زيادةً على مسؤولِه، أحمدُه على نيلِ الهُدَى وحصولِه، وأقِرُّ بوحدانيَّتِهِ إقرارَ عارفٍ بالدَّلِيل وأصُوله، وأصلِّي وأسَلِّم على نبينا محمدٍ عبدِه ورسولِه، وعلى صاحبه أبي بكرٍ الملازم له في ترحالِهِ وحُلُولِه، وعلى عُمَر حامِي الإِسْلامِ بعزْمٍ لا يُخَافُ من فُلولِه، وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاء حين نزولِه، وعلى عليٍّ بن أبي طالبٍ الذي أرهبَ الأعداءَ بشجاعتِهِ قبل نُضُولِه، وعلى جميع آلِه وأصْحابه الذين حازُوا قصَبَ السَّبْق في فروعِ الدينِ وأصُولِه، ما تَرَدَّد النسيمُ بين جَنوبِه وشمَالِهِ وغرْبِهِ وقُبولِه.
إخواني: هذا المجلسُ في بيانِ القسمِ الثانِي من آداب الصومِ وهي الآدابُ المُسْتحبَّةُ، فمنها:
السُّحُورُ وهو الأكلُ في آخِرِ الليل سُمِّي بذلكَ لأنَّه يقعُ في السَّحَرِ فقد أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم به فقال: «تَسحَّروا فإن في السحورِ بركةً»، متفق عليه. وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاصِ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «فَصْلُ ما بَيْنَ صيامِنَا وصيامِ أهلِ الكتاِب أكْلةُ السَّحَر». وأثْنَى صلى الله عليه وسلّم على سَحُورِ التَّمرِ فقال: «نِعْمَ سَحُورُ المؤمنِ التمرُ»، رواه أبو داود. وقال صلى الله عليه وسلّم: «السُّحُور كله بركةٌ فلا تَدَعُوْه ولو أن يجرع أحدكم جرعةً من ماءٍ فإن الله وملائكتَه يُصلُّون على المُتسَحِّرِين» رواه أحمد وقال المنذريُّ: إسنادُه قويٌّ.
وَيَنْبَغِي للمتسحر أنْ ينْويَ بِسُحُوره امتثالَ أمر النبي صلى الله عليه وسلّم، والاقْتداءَ بفعلِهِ، ليكونَ سُحُورُه عبادةً، وأنْ ينويَ به التَّقَوِّيَ على الصيام ليكونَ له به أجرٌ. والسُّنَّةُ تأخيرُ السُّحورِ ما لَمْ يخْشَ طلوعَ الْفَجْرِ لأنَّه فعلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فعن قتادة عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلّم وزَيْدَ بن ثابتٍ تسحَّرَا فلَّما فرغا من سُحُورهما قام نبيُّ الله صلى الله عليه وسلّم إلى الصلاةِ فصلَّى، قُلنا لأنس: كمْ كان بين فراغِهما من سُحُورهما ودخولهما في الصلاةِ؟ قال: قَدْرُ ما يقْرأ الرجلُ خَمسين آيةً، رواه البخاري. وعن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ بلاَلاً كان يؤذِّنُ بلَيْل، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «كُلُوا واشرَبُوا حتى يُؤذِّنَ ابن أمِّ مكتومٍ فإنَّه لا يؤذنُ حتى يطلُعَ الفجْرَ»، رواه البخاري.
وتأخيرُ السُّحور أرفْقُ بالصائِم وأسْلَمُ من النومِ عن صلاةِ الفجرِ. وللصائم أن يأكلَ ويشربَ ولو بَعْد السُّحورِ ونيَّةِ الصيام حتى يَتيقَّنَ طلوعَ الفجر لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 183]. ويحكم بطلوعِ الفجرِ إما بمشاهَدَتِهِ في الأُفقِ أو بخَبَرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فإذا طلع الفجرُ أمْسَكَ وينوي بقلبِه ولا يَتلفَّظ بالنيةِ لأنَّ التلفظ بها بدعةٌ.
ومن آداب الصيام المستحبةِ تعجيلُ الفُطور إذا تحقق غروبُ الشَّمْسِ بمُشَاهدتِها أو غَلَب على ظنِّه الغروبُ بِخبرٍ موثوقٍ به بأذانٍ أو غيرِه، فعن سَهْلِ بنِ سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يَزالُ الناسُ بخيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ»، متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلّم فيما يرْويهِ عن ربِّه عزَّ وجلَّ: «إن أحبَ عبادي إليَّ أعجلُهم فطراً»، رواه أحمد والترمذي (إسناده ضعيف وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب).
والسنَّة أنْ يفطِرَ على رُطَبٍ، فإن عُدِم فتمْر، فإنْ عُدِم فَمَاء، لقول أنسٍ رضي الله عنه: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُفطِرُ قبلَ أن يُصَلِّيَ على رُطباتٍ، فإنْ لَمْ تكنْ رطبات فَتَمَرَات، فإن لم تكن تمرات حَسَا حَسَواتٍ من ماءٍ»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي. فإن لم يجد رُطباً ولا تمراً ولا ماءً أفْطَر على ما تَيسَّر من طعام أو شرابٍ حلال. فإنْ لم يجد شَيْئاً نَوى الإِفطار بقلبِه ولا يمص إصْبَعَه أو يجمع ريقَه ويَبلعه كما يفعلُ بعضُ العَوَامِّ.
وينبغي أن يدعُوَ عند فِطرِه بما أحَبَّ، ففي سنن ابن ماجة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «إنَّ للصائِمِ عند فطْرِه دعوةً ما تُرَدُّ». قال في الزوائد: إسنادُه صحيح،(ضعفه بعضهم وسبب اختلافهم في صحته اختلافهم في تعيين أحد رواته لكن له شواهد في إجابة دعوة الصائم مطلقاً فالحديث بذلك حسن)
وروى أبو داودَ عن معاذَ بنِ زهْرَةَ مرسَلاً مرفوعاً: كان إذا أفطر يقولُ: اللَّهُمَّ لك صُمْت وعلى رزقك أفَطَرَتُ (معاذ بن زهرة تابعي وثقه ابن حبان فالحديث ضعيف لإرساله لكن له شاهد ربما يقوى به). وله من حديث ابنِ عمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا أفْطَر يقولُ:«ذَهَبَ الظَّمأُ وابْتَلَّتِ العروُقُ وثَبتَ الأجْرُ إنْ شاءَ الله». ( إسناده حسن)
ومن آدابِ الصيامِ المستحبةِ كثرةُ القراءةِ والذكرِ والدعاءِ والصلاةِ والصدقة. وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبَّان أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يُفْطِر، والإِمامُ العادلُ، ودعوةُ المظلومِ يرْفَعُها الله فوقَ الغمامِ وتُفتَحُ لها أبوابُ السماء ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتِي وجَلالِي لأنصُرنَّكِ ولو بَعدَ حينٍ»، ورواه أحمد والترمذي. (فيه ضعف ولبعضه شواهد)
وفي الصحيحين من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أجْوَد الناسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمضانَ حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن. فَلَرَسُولَ الله صلى الله عليه وسلّم حينَ يَلقاهُ جبريلُ أجْوَدُ بالْخيرِ من الريحِ المُرسلةِ. وكان جُوْدُه صلى الله عليه وسلّم يَجْمعُ أنْواعَ الجُودِ كُلَّها من بذْلِ الْعِلْمِ والنَّفْسِ والمالِ لله عزَّ وجلَّ في إظهارِ دينِه وهداية عبادِه وإيْصالِ النَّفْعِ إليهم بكَلِّ طريقٍ من تعْليم جاهِلِهِم وقضاءِ حوائِجِهم وإطعام جائِعهم. وكان جودُه يتضاعَفُ في رمضان لِشَرَفِ وَقتِهِ ومضاعَفَةِ أجْرِهِ وإعانَةِ العابدين فيه على عبادتهم والجمع بين الصيام وإطعامِ الطعام وهما مِنْ أسْبابِ دخولِ الجنَّةِ.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قالَ: «مَنْ أصبح منْكُمْ اليومَ صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ تبعَ منكم اليومَ جِنازةً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ أطعم منكم اليومَ مسكيناً؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمَنْ عادَ منكم اليومَ مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا. قال النبي صلى الله عليه وسلّم: مَا اجتمعْنَ في امرأ إلاَّ دَخَلَ الجنَّةَ».
ومن آداب الصيام المستحبةِ أنْ يَسْتحضِرَ الصائمُ قدْرَ نعْمة الله عليه بالصيام حيثُ وفَّقَه له ويَسَّره عليه حتى أتمَّ يومَه وأكْملَ شَهْره، فإنَّ كثيراً من الناسِ حُرمُوا الصيامَ إمَّا بموتِهِم قبل بلوغِهِ أو بعجْزهم عنه أو بضلالهم وإعْرَاضِهِم عن القيام به، فَلْيَحْمدِ الصائمُ ربَّه على نعمةِ الصيامِ التي هي سببٌ لمغفرةِ الذنوب وتَكْفير السيئاتِ ورفْعةِ الدرجاتِ في دارِ النعيم بجوارِ الربِّ الكريم.
إخواني: تأدبُوا بآداب الصيام، وتَخلَّوا عن أسْباب الغضب والانتقام، وتَحلوا بأوْصاف السَلَف الكرام، فإنَّه لن يُصْلِحَ آخر هذِه الأمة إلاَّ ما أصلَحَ أوَّلها منَ الطاعَة واجتنابِ الآثام.
قال ابن رجبٍ رحمه الله: الصائمون على طَبقَتَين: إحدَاهما: من ترك طعامَه وشرابَه وشهوتَه لله تعالى يرجو عنده عِوَضَ ذَلِكَ في الجنَّة، فهذا قد تاجَرَ مع الله وعَامله والله لا يضيعُ أجرَ منْ أحسنَ عملاً ولا يخيبُ معه من عامله، بل يربحُ أعظمَ الربح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لرجل: «إنك لن تدع شيئاً اتقاء الله إلا آتاك الله خيراً منه» أخرجه الإِمام أحمد. فهذا الصائم يُعطى في الجنةِ ما شاء من طعام وشرابٍ ونساءٍ. قال الله تعالى: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]. قال مُجاهدٌ وغيرُه: نَزَلتْ في الصائمين. وفي حديثِ عبدالرحمَن بنِ سَمُرةَ الَّذي رآه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في منامِه قال: «ورَأيتُ رجلاً من أمَّتِي يلْهثُ عَطَشاً كُلَّمَا دنا من حَوضٍ مُنِعَ وطُرِدَ فجاءه صيامُ رمضان فسقاهُ وأرواه»، خرجه الطبراني. (1)
يا قوم ألا خاطبٌ في هذا الشهرِ إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدَّ الله للطائِعين في الْجنَان؟
مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الْجِنَانِ ... فلْيَدعْ عنه التواني
ولْيَقْم في ظُلمةِ الليلِ ... إلى نورِ القُرآنِ
ولْيَصِلْ صوماً بصومٍ ... إن هذا العَيشَ فَانِ
إنَّما العيشُ جِوارُ الله ... في دارِ الأمانِ
الطَّبَقَةُ الثانيةُ مِنَ الصائِمين: منْ يصومُ في الدنيا عما سِوى الله فَيَحْفَظُ الرأسَ وما حَوى والْبطْنَ وما وَعَى ويَذْكُر الموتَ والْبِلى ويريد الاخِرةَ فَيتركُ زينةَ الدنيا، فهذا عيدُ فِطرهِ يوم لقاءِ ربِّه وَفَرَحته برُؤْيتِهِ.
من صام بأمر الله عن شهواته في الدنيا أدركها غداً في الجنة، ومن صام عما سوى الله فعيده يوم لقائه: {مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 5].
يا مَعْشَر التائبين صومُوا اليومَ عن شهواتِ الْهَوى لِتُدْرِكوا عيدَ الفطرِ يوم اللِّقاء.
اللَّهُمَّ جَمِّل بواطِنَنَا بالإِخلاصِ لك، وحَسِّنْ أعمالَنا باتِّباع رسولِكَ والتأدُّب بآدابه، اللَّهُمَّ أيْقِظْنا من الغَفَلات، ونجِّنا من الدَّركات، وكفِّر عنَّا الذنوبَ والسَيِّئات، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين الأحياءِ منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ.
-قمر الليالي-
06-02-2018, 04:20 PM
المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن
الحمدُ لله معطي الجزيلَ لمنْ أطاعه ورَجَاه، وشديد العقاب لمن أعرضَ عن ذكره وعصاه، اجْتَبَى من شاء بفضلِهِ فقرَّبَه وأدْناه، وأبْعَدَ مَنْ شاء بعَدْلِه فولاَّه ما تَولاَّه، أنْزَل القرآنَ رحمةً للعالمين ومَنَاراً للسالِكين فمنْ تمسَّك به نال منَاه، ومنْ تعدّى حدوده وأضاع حقُوقَه خسِر دينَه ودنياه، أحْمدُه على ما تفضَّل به من الإِحسانِ وأعطاه، وأشْكره على نِعمهِ الدينيةِ والدنيويةِ وما أجْدَرَ الشاكرَ بالمزيدِ وأوْلاه، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له الكاملُ في صفاتِهِ المتعالي عن النُّظَراءِ والأشْباه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي اختاره على البشر واصْطفاه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما انْشقَّ الصبحُ وأشْرقَ ضِياه، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبق في المَجْلِس الخامسِ أنَّ تِلاوةَ القرآنِ على نوعين تلاوةِ لفظِهِ وهي قراءته وتقدَّم الكلامُ عليها هُناكَ.
والنوعُ الثاني تلاوةُ حُكمِه بتصديقِ أخبارِهِ واتَّباعِ أحكامِهِ، فعْلاً للمأموراتِ وتركاً للْمنهِيَّات.
وهذا النَّوعُ هو الغايةُ الْكُبرَى من إنزال القرآن كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. ولهذا دَرَجَ السلف الصالحُ رضي الله عنهم على ذلك يتعلَّمون القرآن، ويصدِّقون بِهِ، ويُطبقون أحْكامَه تطبيقاً إيْجابيَّاً عن عقيدةٍ راسخةٍ ويقين صادق. قال أبو عبدالرحمنِ السُّلميُّ رحمه الله: حدَّثَنا الذين كانوا يُقرِؤوننا القرآن، عثمان بنُ عفانَ وعبدُالله بنُ مسعودٍ، وغيرهما، أنَّهم كانَوا إذا تعلَّمُوا منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم عَشرَ آياتٍ لم يتجاوزوها حتى يتعلَّموها وما فِيها من الْعلْم والْعَمَل، قالوا: فَتعلَّمنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعاً.
وهذا النوعُ من التلاوة هو الَّذِي عليه مَدار السعادةِ والشقاوةِ، قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 123 - 127].فَبيَّن الله في هذه الآيات الكريمةِ ثوابَ المتَّبِعينَ لِهُدَاه الَّذِي أوْحاه إلى رسُلِهِ، وأَعْظَمُه هذا القرآنُ العظيمُ، وبيَّنَ عقابَ المُعْرضين عنه.
أمَّا ثوابُ المتَّبعين له فلا يَضلِّونَ ولا يَشقَونَ، ونفْيُ الضلالِ والشقاءِ عنهم يتضمَّن كمالَ الهدايةِ والسعادةِ في الدُّنيا والآخرةِ، وأما عقاب المعرضين عنه المتكبِّرين عن العمل به فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإنَّ له معيشةً ضنْكاً، فهو في دُنياه في هَمٍّ وقَلقِ نَفْس ليس له عقيدةٌ صحيحةٌ، ولا عملٌ صالحٌ: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وهُو في قبرِه في ضيْقٍ وضَنكٍ قد ضُيِّق عليه قبرُه حتى تختلف أضْلاعُه، وهُو في حَشْره أعْمَى لا يُبصرُ {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإِسراء: 97].
فَهمْ لمَّا عَمُوا في الدُّنيا عن رُؤْيَةِ الحقِّ وصَمُّوا عن سَماعِه وأمْسكُوا عن النطق به {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] جازَاهُمُ الله في الآخرةِ بمثلِ ما كانوا عليه في الدُّنيا، وأضَاعهم كما أضَاعوا شَريعتَه {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه: 125، 126] {جَزَآءً وِفَاقاً} [النبأ: 26] {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [القصص: 84].
وفي صحيح البخاريِّ: عن سَمُرةَ بن جنْدُب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان إذا صلَّى صلاةً، وفي لفظٍ: صلاةَ الْغَداةِ أقْبلَ علينا بوَجْههِ فقال: «مَنْ رأى منكم الليلةَ رُؤْيا؟ قال: فإنْ رأى أحدٌ قَصَّها، فيقولُ: ما شاء الله، فسألنا يوماً فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لَكنِّي رأيْتُ الليلةَ رجُلين أتَيانِي (فساق الحديث وفيه) فانْطلقْنَا حتى أتيْنَا على مضْطَجِعٍ وإذا آخَرُ قائمٌ عليه بصَخْرةٍ وإذا هُوَ يَهْوي بالصَّخْرَةِ لِرَأْسِه فَيثْلغ رأسَه فَيَتدهْدَهُ الْحجرُ ههنا فَيتْبعُ الحجرَ فيأخذه فلا يَرجعُ إلى الرَّجُلِ حتى يصِحَّ رأسُه كَمَا كان، ثم يعودُ عليه فيفعلُ به مثل ما فعل به المرَّة الأولى، فقلتُ: سبحانَ الله! ما هذا؟ فقالاَ لي انْطلِق (فذكر الحديث وفيه) أمَّا الرجلُ الذي أتيت عليه يُثْلَغُ رأسُه بالحجرِ فهو الرجلُ يأخُذُ القرآنَ فَيَرْفُضُهُ وينامُ عن الصلاةِ المكتوبةِ».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خطبَ الناسَ في حجَّةِ الوَداع فقال: «إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعْبَدَ في أرضِكُم ولكنْ رَضِيَ أن يُطاع فيما سوى ذلك ممَّا تَحاقرُون من أعمالكم فاحذروا، إني تَركتُ فيكم ما إن تَمسَّكْتُم به فَلَنْ تضلوا أبداً كتابَ الله وسُنةَ نبيِّه»، رواه الحاكم وقال: صحيح الإِسناد .
وعن عَمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يُمثَّل القرآنُ يوم القيامةِ رجلاً فيُؤْتى بالرجلِ قد حَملهُ فخالفَ أمْرَه فيُمثَّلُ له خَصْماً، فيقولُ: يا ربِّ حمَّلْته إيَّاي فبئسَ الحاملُ، تَعدَّى حُدودي، وضيَّع فرائِضِي، وركب مَعْصِيتَي، وترَكَ طَاعتِي، فما يَزَالَ يُقذِف عليه بالحُجَجِ حتى يقالَ: شأنَكَ بِهِ، فيأخُذُه بيده فما يُرْسلُه حتى يُكِبَّه على مِنْخَره في النار» (ضعيف ونقل عن الحافظ ابن حجر تحسينه فإن ثبت أنه حسن فالممثل قراءة القارئ أو جزاؤها وهما مخلوقان أو يقال إن التمثيل يقتضي أن الممثل به به غير الممثل فلا يستلزم أن يخلق القرآن.).
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «القرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك». وقال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: القرآنُ شافعٌ مُشفَّعٌ فمَن جَعلَه أمَامَهُ قادهُ إلى الجنةِ ومن جعله خلفَ ظهرهِ ساقَه إلى النار (وقد روى عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
فيَا مَنْ كان القرآنُ خَصْمَه؛ كيفَ ترجو مِمَّنْ جعلْتَه خصْمَكَ الشفاعَةَ؟ ويْلٌ لمن شفعاؤه خُصماؤه يومَ تربحُ البضَاعة.
عبادَ الله: هذا كتابُ الله يُتْلى بَيْن أيْديكم ويُسْمَع. وهو القرآنُ الَّذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لَرأيْتَه خاشِعاً يَتَصَدَّع، ومع هذا فلا أُذُنٌ تسمع، ولا عينٌ تدْمع، ولا قلبٌ يخشع، ولا امتثالٌ للقرآنِ فيُرجَى به أنْ يَشْفع، قلوبٌ خَلتْ من التَّقْوى فهي خَرَابٌ بَلْقَع، وتَرَاكمتْ عليها ظُلْمةُ الذنوب فهي لا تُبْصِرُ ولا تَسْمع، كم تُتْلى علينا آيَاتُ القرآنِ وقُلوبُنا كالحجارةِ أو أشد قَسْوة، وكم يتوالى علينا شهرُ رمضانَ وحالُنا فيه كحالِ أهلِ الشَّقْوة، لا الشَّابُّ منا يَنِتَهي عن الصَّبوة، ولا الشيخُ ينْتَهي عن القبيح فيَلْحقُ بأهلِ الصَّفوَة، أينَ نحنَ من قومٍ إذا سمِعُوا داعيَ الله أجابُوا الدَّعْوة، وإذا تُليتَ عليهم آياتُه وَجلَتْ قُلوبُهم وجَلتْهَا جَلْوَة، أولئك قومٌ أنْعَمَ الله علَيْهم فعرفُوا حقَّه فاختارُوا الصَّفوة.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: ينبغي لقارئ القرآنِ أنْ يُعْرفَ بليلهِ إذا النَّاسُ يَنامُون، وبنَهَارِهِ إذا الناسُ يُفطِرُون، وببُكائِه إذا الناسُ يَضْحَكون، وبوَرَعِهِ إذا الناسُ يخلطون، وبِصَمْتِهِ إذا الناسُ يَخُوضون، وبِخشُوعِهِ إذا الناسُ يَخْتالُون، وبحْزْنِهِ إذا الناسُ يَفْرحون.
يا نفْسُ فازَ الصالحون بالتُّقَى ... وأبصَروا الحقَّ وقلبي قد عَمِىِ
يا حُسْنَهم والليلُ قد أجَنَّهُمْ ... ونورُهم يفُوقُ نورَ الأنْجُمِ
تَرَنَّموا بالذِّكْر في لَيْلِهُمُو ... فَعَيْشُهم قَدْ طابَ بالتَّرنُّمِ
قلوبُهُمْ للذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغتْ ... دمُوعُهم كلُؤْلُؤٍ منْتَظِمِ
أسْحارُهُمْ بنورِهِمِ قَدْ أشْرَقَتْ ... وخِلعُ الغفرانِ خَيْرُ القِسَمِ
قَدْ حَفِظوا صيامَهُم من لَغْوهِم ... وخَشَعُوا في الليلِ في ذِكْرِهِمِ
ويْحَكِ يا نفسُ أَلاَ تَيَقَّظِي ... للنَّفْعِ قبلَ أنْ تَزِلَّ قَدمِي
مضى الزَّمانُ في تَوَانٍ وَهَوى ... فاسْتَدْرِكِي ما قَدْ بَقِي واغْتَنِمِي
إخواني: احفَظُوا القرآنَ قبلَ فواتِ الإِمكان. وحافِظُوا على حدودِهِ من التَّفْرِيطِ والعِصْيان. واعْلَمُوا أنَّه شاهدٌ لكم أوْ عليكم عند المَلِكِ الدَّيَّان. ليس مَنْ شُكْر نعمةِ الله بإِنْزَالِهِ أنْ نَتَّخِذَه وراءَنا ظِهْريَّاً. وليس مِنْ تعظيمِ حرمات الله أنْ تتخذَ أحكامَه سِخْرياً. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يلَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * ياوَيْلَتَى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً * لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً * وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 27 - 31].
اللَّهُمَّ ارزقْنا تِلاوةَ كتابِكَ حقَّ التِّلاوة، واجْعَلنا مِمَّنْ نال به الفلاحَ والسَّعادة. اللَّهُمَّ ارزُقْنا إقَامَةَ لَفْظهِ ومَعْنَاه، وحِفْظَ حدودِه ورِعايَة حُرمتِهِ. اللَّهُمَّ اجْعلنا من الراسخين في الْعلم المؤمنين بمُحْكَمِهِ ومتشابههِ تصديقاً بأخْبَاره وتنفيذاً لأحْكامه. واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِيْنا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحَمَ الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وَعلَى آلِهِ وصحبِهِ أجْمعين.
-قمر الليالي-
06-06-2018, 02:25 PM
المجلس الثالث عشر: في آداب قراءة القرءان
الحمدُ لله الَّذِي لشرعه يَخْضَعُ مَنْ يعْبُد، ولِعَظَمتِه يخشعُ مَنْ يَرْكع ويسجُد، ولِطِيْب مناجاتِه يسهرُ المتَهْجِّدُ ولا يرْقُد، ولِطَلبِ ثوابِه يَبْذِلُ المُجَاهدُ نَفْسَه ويَجْهد، يتَكَلَّمُ سبحانَه بكلامٍ يجِلُّ أنْ يُشَابِه كَلاَمَ المخلوقين ويَبْعد، ومِنْ كلامِهِ كتابُه المُنَزَّلُ على نبيِّهِ أحمد، نقرؤه ليلاً ونهاراً ونُرَدِّد، فلا يَخْلَقُ عن كثرةِ التَّردَادِ ولا يَمُلَّ ولا يُفَنَّد، أحمده حَمْدَ مَنْ يَرْجُو الوقوفَ على بابِه غيرَ مُشَرَّد، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له شهادةَ مَنْ أخلصَ لله وتَعَبَّد، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذي قام بواجب العبادِة وتَزَوَّدْ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ الصديق الَّذِي ملأ قلَوب مُبْغِضيْهِ قَرحَاتٍ تُنْفِد، وعلى عُمَرَ الَّذِي لم يَزْل يُقَوِّي الإِسلامَ ويَعْضُد، وعلى عثمان الَّذِي جاءَتْه الشهادةُ فلم يترَدَّدْ، وعلى عليٍّ الَّذِي ينْسفُ زرْعَ الكُفرِ بسيفِه ويَحْصُد، وعلى سائرِ آلِهِ وأصحابِه صلاة مُسْتَمرَّة على الزمانِ الْمُؤبَّد، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إنَّ هذا القرآنَ الَّذِي بَيْنَ أيْدِيكم تتْلُونه وتسمعونَه وتحفَظُونه وتكتُبونَه هو كلامُ ربِّكُمْ ربِّ الْعَالِمِين، وإِله الأوَّلِين والآخِرِين، وهو حبْلُه المتينُ، وصراطُهُ المستقيم، وهو الذِّكْرُ المبارَكُ والنورُ المبين، تَكلَّمَ الله به حقيقةً على الوصفِ الَّذِي يَلِيْقُ بجلالِهِ وعظَمتِه، وألْقَاه على جبريل الأمينِ أحَدِ الملائكةِ الكرام المقَرَّبين، فنزلَ به على قلبِ محمدٍ صلى الله عليه وسلّم ليكون من المُنْذرِين بلسانٍ عربيٍّ مبينِ، وَصَفَهُ الله بأوصافٍ عظيمةٍ لِتُعظِّمُوه وتحترمُوه
فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 58] {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 15، 16] {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَلَمِينَ} [يونس: 37] {يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مَّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِى الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَفِظُونَ} [الحجر: 9] {وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ} [الحجر: 87، 88]
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 15] {إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإِسراء: 9، 10] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا} [الإِسراء: 82] {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإِسراء: 88] {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الأَرْضَ وَالسَّمَاوَتِ الْعُلَى} [طه: 2 - 4] {تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَلَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِى إِسْرَئيلَ} [الشعراء: 192 - 197] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210، 211]
{بَلْ هُوَءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49] {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 69، 70] {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ} [ص: 29] {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ لَمَّا جَآءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42] {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] {وَإِنَّهُ فِى أُمِّ الْكِتَبِ لَدَيْنَا لَعَلِىٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]
{وَالْقُرْءَانِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ * فِى كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 75 - 80]
{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] وقال تعالى عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 1، 2] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ * فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22].
فهذه الأوصافُ العظيمةُ الكثيرةُ التي نقَلْناها وغيرُها مِمَّا لم نَنْقُله تدُل كلُّها على عَظَمةِ هذا القرآنِ ووجوبِ تعظيمِه والتَّأدُّبِ عند تلاوتِه والبعدِ حال قراءتِه عن الهُزءِ واللَّعِب.
فمِنْ آداب التِّلاوَةِ إخْلاصُ النيِّةِ لله تعالى فيها لأنَّ تِلاَوَةَ القرآنِ من العباداتِ الجَليلةِ، كما سبقَ بَيَانُ فضلها، وقد قال الله تعالى {فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينِ} [الزمر: 2].
وقال تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ}، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «اقْرَؤُوا القرآنَ وابْتغُوا به وجهَ الله عزَّ وجلَّ مِن قبلِ أن يأتيَ قومٌ يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه»، رواه أحمد (اسناده حسن). ومعنى يتعجَّلونه يَطْلبون به أجْرَ الدُّنيا.
ومِنْ آدَابِها: أنْ يقرأ بقلْبٍ حاضرٍ يتدبَّرُ ما يقْرَأ ويتفهَّمُ معانِيَهُ ويَخْشعُ عند ذلك قَلْبُه ويَسْتحضر بأنَّ الله يخاطِبُه فيه هذا القرآن لأنَّ القُرْآنَ كلامُ الله عزَّ وجَلَّ.
ومِنْ آدَابِها: أنْ يَقْرَأ على طهارةٍ لأن هذا من تعظيم كلامِ الله عزَّ وجل، ولا يَقْرأ الْقُرآنَ وهو جُنُبٌ حَتَّى يَغْتَسِلَ إِنْ قدِر على الماءِ أو يَتيمَّم إنْ كان عاجزاً عن استعمال الماء لمرضٍ أوْ عَدَم. ولِلْجُنُبِ أن يذْكُرَ الله ويَدْعُوَهُ بِما يُوَافقُ الْقُرْآنَ إذا لم يقصدِ القرآنَ، مِثْلُ أن يقولَ: لا إِله إِلاَّ أنتَ سبحانَكَ إني كنتُ من الظالمين، أوْ يقولَ: ربنا لا تُزغْ قُلوبَنا بعد إذْ هَدَيتْنَا وهَبْ لَنَا من لَدُنْكَ رحمةً إنك أنتَ الوَهَّاب.
ومنْ آدَابِها: أنْ لا يقرأ القرآنَ في الأماكِنِ المسْتَقْذَرة أو في مجمعٍ لا يُنْصَتُ فيه لقراءتِه لأن قراءَتَه في مثل ذلكَ إهانةٌ له. ولا يجوز أن يقرأ القرآن في بْيتِ الخلاءِ ونحوه مما أُعِدَّ للتَّبَوُّلِ أو التَّغَوُّطِ لأنه لا يَلِيْقُ بالقرآنِ الكريمِ.
ومِنْ آدابِها: أن يستعيذَ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ عندَ إرادةِ القراءة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] ولئلاَّ يَصُدَّه الشيطانُ عن القراءةِ أوْ كمالِها. وأمَّا الْبَسْمَلةُ فإنْ كان ابتداءُ قِرَاءتِه منْ أثْنَاءِ السُّوْرَةِ فلا يُبَسْمِلُ، وإنْ كانَ من أوَّلِ السورةِ فَلْيُبَسْمِلْ إلا في سورةِ التَّوْبةِ فإنَّه ليس في أوَّلها بَسْملةٌ. لأنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم أشْكَلَ عليهم حينَ كتابةِ المِصْحفِ هل هي سورةٌ مُسْتَقِلَّةٌ أو بقيَّةُ الأنْفال ففَصَلُوا بينهما بدونِ بَسْمَلةٍ وهذا الاجتهاد هو المطابق للواقع بلا رَيْبٍ إذْ لو كانت البَسْمَلة قد نزلت في أولها لَبَقِيَتْ محفوظة بحفظ الله عزَّ وجل لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ومِن آدَابِها: أن يُحَسَّنَ صوتَه بالقُرآنِ ويترَّنَّمَ به، لمَا في الصحيحين من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ما أذِنَ الله لِشَيْء (أي ما اسْتَمَع لشيءٍ) كما أذِنَ لنَبِيٍّ حَسنِ الصوتِ يَتغنَّى بالقرآنِ يَجْهرُ به». وفيهما عن جبيرِ بن مُطْعمٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقرأُ في المَغربِ بالطُّورِ فما سمعتُ أحداً أحسنَ صوتاً أو قراءةً منه صلى الله عليه وسلّم. لكِنْ إنْ كان حوْلَ القارئ أحدٌ يتأذَّى بِجهْرهِ في قراءتِه كالنائم والمصليِّ ونحوهما فإنَّه لا يجْهرُ جهْراً يشَوِّشُ عليه أو يؤذيه، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم خَرجَ على الناسِ وهُمْ يُصَلُّون ويجهرون بالقراءةِ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن المُصَلّي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ في القرآن»، رواه مالك في المُوَطَّأ. وقال ابن عبدالبر: وهو حديث صحيح.
ومِن آدَابِها: أنْ يُرتِّلَ القرآنَ ترتيلاً لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] فيقْرأهُ بتَمهُّلٍ بدونِ سُرعةٍ لأنَّ ذلك أعْوَنُ على تدَبُّر معانِيه وتقويمِ حروفِه وألْفاظِه. وفي صحيح البخاريِّ عن أنس بن مالِك رضي الله عنه أنه سُئِل عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: كانتْ مَدَّاً ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمدُّ بسم الله ويَمدُّ الرحمن ويمدُّ الرحيم، وسُئِلتْ أمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها عنها عن قراءةِ النبي صلى الله عليه وسلّم فقالت: كان يُقَطِّعُ قراءتَه آيَةً آيةً، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، رواه أحمدُ وأبو داود والترمذي، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا تَنْثُروُه نثْرَ الرَّملِ ولا تهذُّوه هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوْا عند عجائِبِه وحَرِّكُوا بهِ القلوبَ ولا يكنْ هَمُّ أحَدِكم آخِرَ السورةِ. ولا بأْسَ بالسرعةِ الَّتِي ليس فيها إخْلالٌ باللفظِ بإسْقاط بعضِ الحروفِ أوْ إدغام ما لا يصح إدْغامُه. فإنْ كان فيها إخلالٌ باللفظِ فهي حرَامٌ لأنها تغييرٌ للقرآنِ.
ومِنْ آدَابِها: أنْ يسجدَ إذا مرَّ بآيةِ سَجْدةٍ وهو على وضوءٍ في أيِّ وقتٍ كان مِنْ ليلٍ أوْ نهارٍ، فيُكبِّرُ للسجودِ ويقولُ: سبحان ربِّي الأعلى، ويدْعُو، ثم يرفعُ مِنَ السجودِ بدونِ تكبير ولا سلامٍ، لأنَّه لم يردْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم إلاَّ أنْ يكونَ السجودُ في أثْناءِ الصلاةِ فإنه يكَبِّر إذا سَجَد وإذا قام، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه كان يُكبِّر في الصلاةِ كُلَّما خَفَضَ وَرفَعَ ويُحَدِّثُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يَفْعَلُ ذَلِك، رواه مسلم. وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يُكبِّر في كلِّ رَفعٍ وخَفْضٍ وقيامٍ وقعودٍ، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وهذا يعُمُّ سجودَ الصلاةِ وسجودَ التلاوةِ في الصلاةِ.
هذه بعض آدابِ القراءةِ، فتأدَّبُوا بِها واحرِصوا عليها وابتغُوا بها من فضلِ الله.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا من المعظِّمين لحرماتِك، الفائزين بهباتِك، الوارِثين لِجنَّاتِكَ، واغْفِرْ لَنَا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-06-2018, 02:32 PM
المجلس الرابع عشر: في مفطرات الصوم
الحمدُ لله المطَّلعِ على ظاهِر الأمْرِ ومكنونِه، العالم بسرِّ العبدِ وجهرهِ وظنونِه، المُتَفرِّدِ بإنْشَاءِ العالم وإبْداعِ فُنُونِه، المدبِّر لكلٍّ منهُمْ في حركتِه وسُكُوْنِه، أحْسَنَ كلَّ شَيْءٍ خَلق، وفتَق الأسماع وشقَّ الحَدَق، وأحْصَى عَدَدَ ما في الشَّجَرِ من وَرَق، في أعْوادِه وغُصُونِه، مد الأرْضَ ووضعَها وأوْسَعَ السماءَ وَرفعَها، وسَيَّرَ النجومَ وأطْلعهَا، في حنْدسِ اللَّيلِ ودُجُوْنه، أنزل القطْر وبلاً رَذاذاً، فأنْقَذَ به البِذْر من اليُبْسِ إنْقاذاً، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11]، أحْمُده على جوده وإحسْانِه، وأشْهد أن لا إِله إِلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له في أُلُوهِيَّتِهِ وسُلْطانِه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المؤيَّدُ ببُرهانِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ في جميع شأنه، وعلى عُمرَ مقْلقِ كِسْرى في إيوانِه، وعلى عثمانَ ساهرِ ليْلِهِ في قرآنِه، وعلى عليٍّ قالعِ بابِ خيْبرَ ومُزَلْزِل حُصونِه، وعلى آلِهِ وأصحابه المجتهد كلٌ منهم في طاعةِ ربِّه في حركتِه وسكونِه، وسَلَمَ تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {فَالئانَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187]. ذكَرَ الله في هذه الآيةِ الكريمةِ
أصُولَ مُفَطِّراتِ الصومِ وذكَر النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في السُّنَّةِ تمامَ ذلك.
والمُفَطِّرَاتُ سبعةُ أنْواع:
الأول: الجماعُ وهو إيلاجُ الذَّكَرِ في الْفَرْجِ، وهو أعْظَمُها وأكْبَرُها إثماً. فمَتَى جامع الصائمُ بطَل بصومُه فَرْضاً كان أوْ نَفْلاً. ثم إنْ كان في نهارِ رمضانَ والصومُ واجبٌ عليه لَزِمه مع القضاءِ الكفارةُ المغلَّظةُ وهي عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ فإنْ لم يَجدْ فصيام شهرينِ متتابعين لا يُفْطرِ بينهما إلاَّ لعُذْرٍ شرعيٍّ كأيَّام العيدين والتشريقِ أو لعُذْرٍ حسِّيٍّ كالمَرضِ والسفر لغيرِ قصدِ الْفِطْر، فإنْ أفطَرَ لغيرِ عذرٍ ولو يوماً واحداً لزمه استِئْنافُ الصيامِ مِنْ جديدٍ ليحصلَ التتابُع فإن لَم يستطعْ صيامَ شهرينِ متتابعين فإطعامُ ستِّين مسكيناً لِكُلِّ مسكينٍ نِصفُ كيلو وعَشرةُ غراماتٍ من الْبُرِّ الجيِّد (1)، وفي صحيح مسلم أن رجلاً وقع بامرأتِهِ في رمضانَ فاستَفْتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال: «هَلْ تجدُ رقبةً؟ قال: لا. قال: هل تستطيعُ صيامَ شهرين؟ (يعني متتابعين كما في الروايات الأخْرَى) قال: لا. قال: فأطْعِمْ ستين مِسْكيناً». وهو في الصحيحين مطولاً.
الثاني: إنزالُ المنيِّ باختياره بتقبيل أو لمسٍ أو استمناء أو نحو ذلك لأنَّ هذا مِنَ الشَّهْوةِ الَّتِي لا يكونُ الصوم إلاَّ باجتِنَابها كما جاء في الحديث الْقُدْسيِّ: «يَدَع طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجْلِي»، رواه البخاري. فأمَّا التقبيلُ واللَّمْس بدونِ إنْزالٍ فلا يُفَطِّرُ، لمَا في الصحيحين من حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُقَبِّلُ وهو صائمٌ ويباشر وهو صائمٌ، ولَكِنَّه كان أمْلَكَكُمْ لإِربِه». وفي صحيح مسلم أنَّ عُمرَ بن أبي سلمة سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم: أيُقَبِّلُ الصائمُ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «سَلْ هذه ـ يعني أمَّ سلمةَ ـ فأخْبَرتْهُ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصنعُ ذلك، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: أما والله إني لأتقاكم لله وأخَشاكم له»، لكن إنْ كان الصائمُ يخشى على نفْسِه من الإِنزالِ بالتقبيلِ ونحوِه أو مِنَ التدَرُّج بذلك إلى الجماعِ لعدمِ قوَّتِهِ على كَبْحِ شَهْوَتِهِ فإنَّ التقبيلَ ونَحْوَه يحرم حينئذٍ سَداً للذَّريعةِ، وَصوناً لصيامه عن الفسادِ، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المتوضأ بالمبالغة في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً خوفاً من تسرب الماء إلى جوفه.
وأمَّا الإِنزالُ بالاحتلام أو بالتَّفْكير المجرَّدِ عن العمل فلا يُفَطِّر لأنَّ الاحتلامَ بغيرِ اختيارِ الصائَم. وأمَّا التَفكيرُ فمعفوٌ عنه لقولِه صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تَجَاوزَ عن أمَتِي ما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا ما لم تَعْملْ أوْ تتكلمْ»، متفق عليه.
الثالث: الأكلُ أو الشربُ، وهو إيصالُ الطَّعامِ أو الشراب إلى الْجَوْف من طريقِ الْفَمِ أو الأنفِ أيَّاً كان نوعُ المأكولُ أو المَشروب، لقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة: 187] والسَّعُوط في الأنْفِ كالأكل والشرب لقوله صلى الله عليه وسلّم في حديث لَقِيْط بن صبرة: «وبالِغْ في الاستنشاقَ، إلاَّ أن تكون صائماً»، رواه الخمسة وصححه الترمذي. فأما شم الروائح فلا يفطِّر لأنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف.
الرابع: ما كان بمَعْنَى الأكْلِ والشربِ وهو شيئانِ:
أحَدُهما: حَقْنُ الدَّمِ في الصائمِ مثل أن يُصابَ بنزيفٍ فيُحقنَ به دمٌ فيفْطِرُ بذلك لأن الدَّمَ هو غايةُ الغِذاءِ بالطَّعامِ والشرابِ، وقد حصل ذلك بحقن الدَّم فيه. (1) الشيء الثاني: الإِبُر المغذِّيةُ الَّتِي يُكتَفَى بها عن الأكل والشرب فإذا تناوَلها أفْطَر لأنها وإنْ لم تكن أكْلاً وشرباً حَقِيْقةً، فإنَّها بمعناهُما، فَثَبَت لها حُكمهما. فأمَّا الإِبرُ غير المُغَذِّيةِ فإنَّها غيرُ مُفَطِّرةٍ سواءٌ تَنَاولها عن طريق العَضَلاتِ أو عن طريق الَعُرُوقِ حَتَّى ولو وجدَ حرارتها في حلْقِهِ فإنَّها لا تُفْطِّرَ لأنها ليست أكلاً ولا شُرباً ولا بمعناهما، فلا يثْبت لها حُكمهما، ولا عِبْرةَ بوجودِ الطَّعْمِ في الحلْقِ في غير الأكل والشربِ، ولذا قال فُقُهاؤنا: لو لَطخَ باطنِ قَدمِهِ بِحَنْظَلٍ فوجد طعْمَه في حلقِه لم يُفْطِر، وقال شيخ الإِسلام ابنُ تيميةَ رحمه الله في رِسالةِ «حقيقةُ الصيامِ»: ليس في الأدلة ما يَقْتضي أنَّ المُفَطِرَ الَّذِي جَعلهَ الله ورسوله مُفَطِّراً هو ما كَانَ واصِلاً إلى دماغٍ أو بَدنٍ أوْ ما كان داخِلاً مِنْ مَنْفَذٍ أو واصِلاً إلى جوفٍ ونحْو ذَلِك من المعاني التي يجعلُها أصحابُ هذه الأقاويل هي مَنَاطَ الْحُكْمِ عند الله ورسولِه. قال: وإذا لم يكنْ دليلٌ على تعليق الله ورسولِه الْحُكْمَ على هذا الْوَصفِ، كان قولُ القائلِ: إنَّ الله ورسوله إنَّما جعلا هذا مُفَطِّراً لِهذَا قولاً بلا عِلمٍ. انتهى كلامِه رحمه الله.
الخامسُ: إخْراجُ الدَّمِ بالحجامةِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «أفْطَر الحاجِمُ والمَحْجُومُ»، رواه أحمد وأبو داود من حديث شَدَّاد بن أوْسٍ، قال البخاريُّ: ليس في البابِ أصَحُّ منه. وهذا مذهبُ الإِمام أحمدَ وأكْثر فقهاءِ الحديث. وفي معنى إخراجِ الدَّمِ بالحجامِة، وعلى هذا فلا يجُوزُ للصائم صوماً واجباً أن يتبرعَ بإخراج دمه الكثير الَّذِي يؤثر على البدن تأثير الحجامة إلا أن يوجدَ مضطرٌ له لا تندفعُ ضرورته إلا به، ولا ضرر على الصائم بسحب الدم منه فيجوز للضرورة، ويفطر ذلك اليوم ويقضي. وأما خروج الدم بالرُّعافِ أو السعال أو الباسور أو قلع السن أو شق الجرح أو تحليل الدم أو غرز الإِبرة ونحوها فلا يفطر لأنه ليس بحجامة ولا بمعناها إذا لا يؤثر في البدن كتأثيرِ الحجامةِ.
السادسُ: التَّقَيُّؤ عَمْداً وهو إخراجُ ما في المَعِدةِ من طعام أو شرابٍ عن طريق الْفَم، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «منْ ذَرَعه الْقَيءُ فليس عليه قضاءٌ ومَن استقاء عمداً فلْيَقض»، رواه الخمسة إلا النسائيَّ وصححه الحاكم ومَعْنَى ذرعه غَلَبه ويفطر إذا تعمد القيء إما بالفعل كعصر بطنه أو غمز حلقه أو بالشم مثل أن يشم شيئاً ليقيء به أو بالنظر كأن يتعمد النظر إلى شيء ليقيء به فيُفْطِرُ بذلك كلِّه، أمَّا إذَا حصلَ القيءُ بدونِ سببٍ منه فإنَّه لا يَضرُّ، وإذا راجت مَعِدتُهُ لَمْ يلزمْه مَنْعُ القَيءِ لأنَّ ذلك يَضُرُّه ولكنْ يتركُه فلا يحاولُ القيءَ ولا منْعَه.
السابعُ: خروجُ دمِ الْحَيْضَ والنِّفَاسِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم في المَرْأةِ أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟ فمتى رأتْ دمَ الْحَيْض أو النِّفاس فَسدَ صومُها سَواءٌ في أوَّل النهارِ أمْ في آخرِهِ ولو قبل الغُروبِ بَلَحظةٍ وإنْ أحَسَّتْ بانتقال الدَّمِ ولم يَبْرُزْ إلاَّ بعد الغروبِ فصومُها صحيحٌ.
ويحرمُ على الصائمِ تناوُلُ هذه المفُطِّراتِ إن كان صَومُه واجباً كصومِ رمضان والكفارةِ والنَّذْرِ إلا أن يكون له عذرٌ يبيح الفطرَ كسفرٍ ومرضٍ ونحوهما لأن من تلبَّس بواجبٍ لزمه إتمامُه إلا لعذرٍ صحيح، ثم إن من تناولها في نهارِ رمضانَ لغيِر عذرٍ وجب عليه الإِمساكُ بقيةَ اليوم والقضاءُ وإلا لزمه القضاء دونَ الإِمساك. أما إن كان صومُه تطوعاً فإنه يجوز له الفطرُ ولو بدون عذر لكن الأولى الإِتمام.
إخواني: حافظُوا على الطَّاعات، وجانبُوا المعاصيَ والمحرَّمات، وابتهلوا إلى فاطرِ الأرض والسموات، وتعرَّضُوا لنفحاتِ جودِه فإنَّه جزيلُ الْهبات. واعلموا أنه ليسَ لكم من دُنْياكم إلا ما أمضَيْتُموه في طاعةِ مولاكم. فالْغَنِيْمةَ الغنيمةَ قبلَ فواتِ الأوَان. والمرابَحَةَ المرابحةَ قبل حُلولِ الخُسْران.
اللَّهُمَّ وفِّقْنَا لاغتنامِ الأوقات، وشغْلِها بالأعمالِ الصالحات، اللَّهُمَّ جُدْ علينا بالْفضلِ والإِحسان، وعاملنا بالعفوِ والغُفْران، اللَّهُمَّ يَّسرْنَا لليُسرى، وجنِّبْنا العُسْرى واغْفِرْ لنا في الآخِرةِ والأولى، اللَّهُمَّ ارزقنا شفاعةَ نبيِّنا وأوْردْنا حوضه وأسقِنَا منه شربةً لا نظْمأ بعدَها أبداً يا ربَّ العالمين.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وباركْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-07-2018, 03:22 PM
المجلس الخامس عشر: في شروط الفطر بالمفطرات وما لا يفطِّرُ وما يجوز للصائم
الحمدُ لله الحكيم الخالق، العظيم الحليم الصادق، الرحيِمِ الكريمِ الرازِق، رَفَعَ السَّبْع الطرائق بدون عمَدٍ ولا عَلائقِ، وثبَّتَ الأرضَ بالجبالِ الشواهِق، تَعرَّفَ إلى خلْقه بالبراهينِ والحقائِق، وتكفَّلَ بأرزاقِ جميع الخلائق، خلق الإِنسان من ماء دافق، وألزمه بالشرائع لوصل العلائق، وسامَحَه عنِ الخطأ والنسيانِ فيما لا يُوَافق.
أحْمَدُه ما سكتَ ساكتٌ ونطقَ ناطِق، وأشْهَد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ لا منافِق، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الذي عمَّتْ دعوتُه النازل والشَّاهِق، صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكرٍ القائمِ يومَ الرِّدَّةِ بالْحَزم اللائق، وعلى عُمَرَ مُدَوِّخ الكفارِ وفاتِح المَغْالِقَ، وعلى عثمانَ الذي مَا اسْتَحَلَّ حُرْمَتَه إلاَّ مارِق، وعلى عليٍّ الذي كان لِشَجاعَتِه يَسْلُك المَضَايق، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين كُلٌّ منهم على من سِواهُم فائِق، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن المُفطِّراتِ السابقةَ ما عدا الحيضَ والنِّفاس، وهي الجماعُ والإِنزالُ بالمباشرةِ والأكلُ والشربُ وما بمعناهما والحجامةُ والقيءُ لاَ يُفطِّرُ الصائمَ شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً فهذه ثلاثة شروطٍ:
الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يكونَ عالماً، فإن كان جاهِلاً لم يُفطِرُ، لقوله تعالى في سورةِ البقرةِ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} (286) فقال الله: قد فَعَلْت (1)، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5]. وسواءٌ كان جاهِلاً بالْحُكْمَ الشَّرْعِيِّ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ هذا الشيءَ غير مُفَطِّرٍ فيَفْعَلَه أو جاهِلاً بالحَالِ أيْ بالْوقْتِ، مِثْلُ أن يظُنَّ أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فيأْكُلَ وهو طالِعٌ، أو يظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فيأكلَ وهي لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه، لما في الصحيحين عن عَدِيِّ بن حاتِم رضي الله عنه قال: لمَّا نزَلتْ هذه الاية: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187] عمَدتُ إلى عِقالَين: أحَدُهما أسْودُ والآخَرُ أبْيَضُ فجعلتُهما تحت وِسادتِي وجعلتُ أنظُرُ إليهما فلما تبيَّن لِي الأبيضُ من الأسْودِ أمسكتُ، فلمَّا أصبحتُ غدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخْبرتُه بالَّذِي صَنعتُ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ وِسادَك إذنْ لعرِيضٌ إن كان الخيطُ الأبيضُ والأسودُ وسادك إنَّما ذلك بياضُ النهارِ وسوادُ الليل». فقد أكلَ عدّي بعد طلوعِ الْفَجْر ولم يمسكْ حتى تبين له الخيطانِ ولم يأمُرُه النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بالقضاءِ لأنه كان جاهلاً بالْحُكْمِ. وفي صحيح البخاريِّ من حديثِ أسْماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنهما قالَتْ: أفْطرْنَا في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يوم غيم ثم طلعت الشمس، ولم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمرَهُمْ بالقضاءِ، لأنهم كانوا جاهِلينَ بالوقتِ ولو أمَرهُمْ بالقضاءِ لنُقِلَ، لأنه ممَّا توَفَّرُ الدَّواعِي على نقلِهِ لأهميَّتِه، بل قالَ شيخُ الإِسلام ابن تيمية في رسالةِ (حقيقة الصيام): إنه نَقَل هشامُ بنُ عُرْوةَ أحدُ رواة الحديث عن أبيهِ عروةَ أنهم لم يؤمَرُوا بالقضاءِ. لَكنْ متى علِم ببقاءِ النهارِ وأن الشَّمسَ لم تغب أمْسكَ حتى تغيبَ.
ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ يظنُّ أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ، فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ، وقد أباحَ الله له الأكل والشربَ والجِماعَ حَتَّى يتبيَّنَ له الْفَجرُ، والمُباحُ المأذونُ فيه لا يُؤمَر فاعِلهُ بالقضاء، لكن متى تبيَّنَ له وهو يأكلُ أو يشربُ أن الشمسَ لم تغربْ أو أن الفجرَ قد طلع أمسكَ ولفَظَ ما في فمه إن كان فيه شيء لزوال عذرِه حينئذٍ.
الشَّرطُ الثاني: أنْ يكونَ ذاكِراً، فإنْ كان ناسياً فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لمَا سبق في آيةِ الْبقرةِ، ولما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «من نَسِي وهُوَ صائمٌ فأكَلَ أو شرِب فليُتِمَّ صَوْمَه فإنَّما أطْعمَه الله وسقاه»، متفق عليه واللَّفظ لمسلم. فأمْرُ النبي صلى الله عليه وسلّم بإتْمامِه دليلٌ على صحتِه، ونِسْبَةُ إطعام النَّاسِي وسقْيهِ إلى الله دليلٌ على عدم المؤاخذةِ عليه. لكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ أمْسَكَ ولَفَظَ ما في فَمِه إن كان فيه شيءٌ لِزَوال عُذْره حِيْنَئذٍ، ويجب على من رأى صائماً يأكلُ أو يشربُ أن يُنبِّههُ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 5].
الشَّرطُ الثالثُ: أنْ يكونَ مُخْتاراً، أي مُتَنَاولاً لِلْمُفَطِّر باخْتيَاره وإرادته، فإنْ كانَ مُكرَهاً فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّ الله سبحانَه رَفَعَ الْحُكمَ عَمَّنْ كَفَرَ مُكْرَهاً وقلْبُهُ مُطمَئِنٌّ بالإِيمانِ فقال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106] فإذا رَفَع اللهُ حكْمَ الكفرِ عمن أُكْرِهَ عليه فمَا دونه أوْلى، ولقولِهِ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله تجاوز عن أمَّتِي الْخَطأ والنسيانَ وما اسْتُكرهوا عليه»، رواه ابنُ ماجة والبيهقيُّ وحسَّنَه النَّوَوِيُّ. فلوْ أكْرَهَ الرجلُ زوجتَه على الوطءِ وهي صائمة فصيامها صحيح ولا قضاء عليها. ولا يحل له إكراهها على الوطءِ وهي صائمةٌ إلاَّ إنْ صامتْ تطوُّعاً بغير إذنه وهو حاضرٌ، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه.
ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والدواءِ في عينِه ولو وجد طعْمَه في حلْقِه لأنَّ ذلك ليس بأكْلٍ ولا شُربٍ ولا بمعناهُما، ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً، ولا بوضع دواءٍ في جرحٍ ولو وجد طعم الدواء في حَلْقِه لأنَّ ذلك ليس أكْلاً ولا شُرباً ولا بمعنى الأكْلِ والشُّرب.
قال شيخ الإِسلام ابن تيميةَ في رسالةِ (حقيقةُ الصيام): ونحْنُ نعلَمُ أنه ليس في الكتابِ والسُّنَّةِ ما يَدلُّ على الإِفْطارِ بهذه الأشَياءِ، فعَلِمْنَا أنَّها ليست مُفَطِّرةً، قال: فإنَّ الصيامَ من دينِ المسلمين الَّذِي يحتاج إلى معرفته الخاصُّ والعامُّ. فلَوْ كانتْ هذه الأمورُ مما حَرَّمه الله ورسولُه في الصيامِ ويفْسُدُ الصومُ بها لكانَ هذا مما يجبُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلّم بَيانُهُ، ولو ذكر ذلك لَعَلِمَهُ الصحابة وبَلَّغُوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقُلْ أحدٌ من أهْلِ العلمِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك لا حَديثاً صحيحاً ولا ضعِيفاً ولاَ مُسْنداً ولا مُرسَلاً عُلِم أنَّه لم يَذكُرْ شَيْئاً من ذلك، والحديث المَرويُّ في الكْحلِ يعني أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بالإِثمد المُرَوَّح عندَ النَّوم وقال: «ليتَّقهِ الصائِمُ»، ضعيفٌ، رواه أبو داود في السنن ولم يرْوهِ غيرُه. قال أبو داود: قال لي يحيى بن معين هذا حديث منكر. وقال شيخ الإِسلام أيضاً. والأحكام التي تحتاجُ الأمَّةُ إلى معرفتها لا بُدَّ أن يُبيِّنها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم بياناً عاماً ولا بُدَّ أنْ تَنْقُلها الأمَّةُ. فإذا انْتَفَى هذا عُلِمَ أن هذا ليس مِنْ دِيْنهِ. انتهى كلامُه رحمه الله وهو كلامٌ رَصِينٌ مبنيٌ على براهينَ واضحةٍ وقواعد ثابتةٍ.
ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه، ولا يُفْطِرُ بالمضمضمةِ والاستنشاقِ، لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما تَهَّرب شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، وعن لَقِيْطِ بن صَبَرَةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أسْبغِ الوضوء وخَلِّلْ بينَ الأصابع وبالِغْ في الاستنشاق إلاَّ أنْ تكون صائماً»، رواه أبو داود والنسائيُّ وصححه ابنُ خزيمةَ.
ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره كالمُفْطِرينَ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا أنْ أشقَّ على أمَّتِي لأَمرْتُهم بالسواكِ عندَ كلِّ صلاةٍ»، رواه الجماعة. وهذا عامٌ في الصائمينَ وغيرِهم في جميع الأوْقاتِ، وقال عَامِرُ بنُ ربيعةَ رضي الله عنه: «رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ما لا أحْصِي يتسوَّك وهو صائمٌ»، رواه أحمد وأبو داود والترمذي (1).
ولا يَنْبَغِي للصائمِ تَطْهيرُ أسنانِهِ بالمعجُون لأنَّ له نفوذاً قويَّاً ويُخشَى أنْ يتَسرَّبَ مع ريِقِهِ إلى جوفه وفي السِّواكِ غُنيْةً عنه.
ويجوزُ للصائمِ أنْ يفعلَ ما يخفِّفُ عنه شِدَّة الحرِّ والْعَطشِ كالتَّبَرُّدِ بالماءِ ونحوه لما رَوى مَالكٌ وأبو داودَ عن بعض أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بالُعَرْجِ (اسم موضع) يصبُّ المَاءَ على رأسهِ وهو صائم مِنَ الْعَطشِ، أوْ من الْحَر (صحيح). وبلّ ابنُ عُمَر رضي الله عنهما ثَوْباً فألْقَاه على نفْسِهِ وهو صائمٌ، وكان لأنس بن مالكٍ رضي الله عنه حجَرٌ منْقُورٌ يشبِهُ الحَوضَ إذا وجدَ الحرَّ وهو صائمٌ نَزلَ فيه وكأنه والله أعلم مملوءٌ ماءً. وقال الْحَسَنُ لا بأسَ بالمضمضمةِ والتَّبرُّدِ للصائمِ، ذكَرَ هذه الاثارَ البخاريُّ في صحيحِه تعْلِيقاً.
إخواني: تَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ فإنَّه لا يستوي الَّذِين يعلمون والَّذِين لا يَعْلمُون. ومنْ يُردِ الله به خيراً يُفَقِّههُ في الدِّينِ.
اللَّهُمَّ فقهْنا في ديْنِنا وارزقْنا العمل به، وثبِّتنَا عليه وتوفَّنَا مؤمِنين وألْحِقنَا بالصالحين. واغفر لنا ولِوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجْمعينَ.
-قمر الليالي-
06-07-2018, 03:25 PM
المجلس السادس عشر: في الزكاة
الحمدُ لله الَّذِي يمْحو الزَّلَلَ ويصْفح، ويغفر الخَطلَ ويسْمح، كلُّ منْ لاذَ بِهِ أفْلَح، وكلُّ من عَامَله يَرْبح، رَفَعَ السماءَ بغير عَمدٍ فتأمَّلْ والْمَح، وأنْزَلَ الْقَطرَ فإذا الزَّرعُ في الماءِ يسْبح، والمواشِي بعد الْجَدبِ في الْخصْب تَسرَح، وأقام الوُرْقَ على الوَرَقِ تُسَبِّح، أغْنَى وأفْقَر ورُبَّما كانَ الْفَقْرُ أصْلَح، فكم من غَنيٍّ طرحهُ الأشرُ والبطر أقْبحَ مطْرَحٍ، هذا قارونُ مَلَكَ الكثير لكنَّه بالقليل لم يَسْمح، نُبِّه فَلمْ يسْتَقيظْ ولِيم فلم ينْفعْه اللوم إذ قال له قومُه لا تَفْرحْ، أحْمَدُه ما أمْسَى النهارُ وما أصْبح، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله الْغَنِيُّ الجوادُ مَنَّ بالعطاءِ الواسعِ وأفْسَح، وأشْهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي جاد لله بِنَفْسِهِ ومالِه وأبانَ الحَقَّ وأوْضحَ، صلَّى الله عليه وعلى صاحبِه أبي بكرٍ الَّذِي لازَمَهُ حضراً وسفراً ولم يَبْرَحَ، وعلى عُمَرالَّذِي لم يزلْ في إعْزازِ الدِّينِ يكْدَحُ، وعلى عثمانَ الَّذِي أنفق الكثير في سبيلِ الله وأصْلَحَ، وعلى عليٍّ ابنِ عَمِّهِ وأَبْرَأ ممَّن يغلُو فيه أو يَقْدح، وعلى بقيةِ الصحابةِ والتابعين لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لأنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20]، وقال تعالى: {وَمَآءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَوةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39]. والآياتُ في وجوبِ الزكاةِ وفرْضِيَّتها كثيرةٌ، وأمَّا الأحاديثُ فمنها ما في صحيح مسلم عن عبدالله بن عُمرَ رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قال: «بُني الإِسلامُ على خمسةٍ: على أنْ يُوحَّدَ الله، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، وصيامِ رمضانَ، والحجِّ»، فقال رجلٌ: الحجِّ وصيامِ رمضانَ؟ قال: لاَ، صيامِ رمضانَ، والحجِّ، هكذا سمعته من رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم. وفي روايةٍ: شهادةِ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله وأنْ محمداً رسولُ الله (الحديث بمعناه).
فالزَّكاةُ أحدُ أركانِ الإِسْلامِ ومبانيِه العِظَام وهي قرينةُ الصلاةِ في مواضِعَ كثيرةٍ من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقد أجْمعَ المسلمونَ على فرْضِيَّتها إجماعاً قَطْعِيَّاً. فمنْ أنْكَر وجوبَها مع عِلْمِه به فهو كافرٌ خارجٌ عن الإِسْلامِ، ومن بخِلَ بها أو انْتَقصَ منها شيئاً فهو من الظَّالمينَ المتَعرضينَ للعقوبةِ والنَّكالِ.
وتجب الزكاةُ في أربعةِ أشياء:
الأوَّل: الخارجُ من الأرضِ من الحبوب والثمار لقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقولِهِ سبحانه: {وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]. وأعْظَمُ حقوقِ المالِ الزكاةُ. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «فِيْمَا سَقَتِ السماءُ أوْ كان عثريّاً الْعُشْرُ وفيما سُقِي بالنَّضح نصفُ العُشر»، رواه البخاري. ولا تجبُ الزكاةُ فيه حتى يبلُغَ نصاباً وهو خَمْسةُ أوْسقٍ، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ليسَ في حبٍّ ولا ثَمَرٍ صَدَقةٌ حَتَّى يبْلُغَ خمسةَ أوسق»، رواه مسلم. والْوَسَقُ سِتُّون صاعاً بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيكونُ النصابُ ثَلَثَمائَة صاعٍ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الَّذِي تبلغ زِنَتُه بالبُرِّ الجيِّدِ ألْفَين وأربَعينِ جَرَاماً؛ أيْ كِيْلُوين وخُمسي عُشر الْكِيلُو، فتكونُ زنةُ النصاب بالبُرِّ الجيِّد ستمائةٍ واثْنَي عَشَرَ كيْلو. ولا زكاةَ فيما دُوْنها. ومِقْدَارُ الزكاةِ فيها الْعُشْرُ كاملاً فيما سُقِيَ بدونِ كُلْفةٍ ونِصفُه فيما سُقيَ بكلْفةٍ، ولا تَجبُ الزكاةُ في الفواكِهِ والخضرواتِ والبِطِّيخِ ونحوها، لقولِ عمَرَ: ليس في الخُضْرواتِ صدقةٌ، وقولِ عليٍّ: ليس في التُّفَّاحِ وما أشبَه صدقةٌ، ولأنها ليست بحبٍّ ولا ثمرٍ لكن إذا باعها بدراهمَ وحالَ الحولُ على ثَمنِهَا ففيهِ الزكاةُ.
الثاني: بَهيمةُ الأنعامِ وهي الإِبلُ والبقرُ والغَنَمُ ضأنًا كانت أم مَعْزاً إذا كانت سَائِمةً وأُعِدت لِلدَّر والنَّسْلِ وبلغَت نِصاباً، وأقلُّ النصابِ في الإِبْلِ خَمْسٌ، وفي البقرِ ثلاثون، وفي الغنم أربعون. والسائمةُ هي التي ترعى الْكَلأ النابتَ بدون بذْرِ آدمِيً كلَّ السَّنَةِ أو أكْثَرَها، فإنْ لَمْ تَكُنْ سائِمةً فلا زكاةَ فيها، إلاَّ أنْ تكون للتجارةِ، وإن أعِدَّتْ للتَّكسُّب بالبيعِ والشراءِ والمُنَاقلةِ فيها فهي عروضُ تجَارةٍ تزكَّى زكاةَ تجارةٍ سواءٌ كانت سائمةً أوْ معلفة إذا بلغت نصابَ التجارةِ بِنَفْسِها أو بضَمِّها إلى تجارتِهِ.
الثالثُ: الذِّهَبُ والفضةُ على أيِّ حالٍ كانتْ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34، 35]، والمُرَادُ بِكَنْزِهَا عَدم إنفاقِها في سبيلِ الله، وأعظَمُ الإِنفاق في سبيل الله إنفاقُها في الزَكاةِ. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ صاحِب ذهب ولا فضةٍ لا يُؤدّي منها حقَّها إلاَّ إذا كان يومُ القيامة صُفِّحَتْ له صفائحُ من نارِ فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جَنْبُه وجبيْنُه وظهْرُه كلَّمَا برَدتْ أعِيدتْ له في يومٍ كان مِقْدَارُه خمْسِين ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضى بَيْنَ العباد».
والمرادُ بِحقِّها زكاتُها كما تُفَسِّرُه الروايةُ الثانيةُ: (عند مسلم) «ما مِنْ صاحِب كنْزٍ لا يؤدِّي زكاتَه» (الحديث).
وتجب الزكاةُ في الذهبِ والفضَّةِ سواءٌ كانت نقُوداً أو تِبْراً أو حليَّاً يُلْبسَ أو يُعَارُ أو غيرَ ذلك، لعموم الأدلة الدالة على وجوب الزكاة فيهما بدون تفصيل. فعن عبدِالله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنْهما أنَّ امْرأةً أتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم ومَعَهَا ابنةٌ لها وفي يد ابْنتِها مسكَتَان غليظتَان من ذهبٍ (أي سِوَارَان غليظَانِ) فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أتُعْطِينَ زكاةَ هذا؟ قالت: لا. قال: أيَسُرُّكِ أنْ يُسوِّركِ الله بهما يومَ القيامةِ سِوارينِ من نارٍ؟ قال: فَخَلَعَتْهُما فألقتها إلى النبي صلى الله عليه وسلّم وقالت: هما لله ورسوله»، رواه أحمدُ وأبو داودَ والنسائيُّ والترمذيُّ. قال في بلوغِ المَرَامِ: وإسنادُه قويٌ.
وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: «دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فرأى في يَدي فتخَاتٍ من وَرِقٍ (تعني من فِضةٍ) فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: مَا هَذَا؟ فقلتُ صَنَعْتُهنَّ أتَزيَّنُ لك يا رسول الله. قال: أتُؤدِّينَ زكاتَهن؟ قالتْ: لا. أوْ مَا شَاءَ الله. قال: هو حَسْبُكِ من النار»، أخرجه أبو داود والبيهقيُّ والحاكمُ وصححه وقال: على شرطِ الشَّيْخينِ، وقال ابنُ حَجَرٍ في التلخيصِ: على شرط الصحيح، وقال ابن دُقيقٍ: على شرطِ مسلمٍ.
ولا تجبُ الزكاة في الذهب حتى يَبْلُغَ نصاباً وهو عِشْرون دِيْنَاراً لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال في الذهبِ: «ليس عليكَ شيءٌ حتى يكون لك عشرون دينارً»، رواه أبو داود (في سنده ضعف لكن له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن فيكون حجة. وقد أخذ به عامة أهل العلم). والمراد الدينارُ الإِسلاميُّ الَّذِي يبلُغُ وزنُه مِثْقَالاً وزِنَهُ المثقالِ أرْبعةُ غراماتٍ وربْعٌ فيكونُ نصابُ الذهبِ خمسةً وثمانينَ غراماً يعادِلُ أحَدَ عَشَر جنيهاً سعودياً وثلاثةَ أسباعِ جُنيهٍ (2).
ولا تجبُ الزكاةُ في الفضةِ حتى تبلغَ نصاباً وهو خَمْسُ أواقٍ، لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس فِيْما دونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صدقةٌ»، متفق عليه. والأوقيَّةُ أرْبعونَ درهماً إسلاميّاً، فيكونُ النصاب مائتي درهم إسلاميٍّ، والدرهمُ سبعةُ أعْشَار مثقالٍ فيبلُغُ مائةً وأربعينَ مثقالاً وهي خَمْسُمائةٍ وخمسةٌ وتسعون غراماً تُعَادل ستَّةً وخمسينَ ريالاً عربياً مِن الفضةِ، ومقدارُ الزَّكاةِ في الذهبِ والفضةِ ربعُ الْعُشر فقط.
وتجبُ الزكاةُ في الأورَاقِ النَّقْدِيَّةِ لأنها بدلٌ عن الفضَّة فتقومُ مقامَها، فإذا بلغتْ نصابَ الفضةِ وجَبَتْ فيها الزَّكاةُ، وتجبُ الزكاةُ في الذهبِ والفضةِ والأوراقِ النقديةِ سواءٌ كانت حاضرةً عنده أمْ في ذِمَمِ الناس. وعلى هذا فتجبُ الزكاةُ في الدِّينِ الثابتِ سواءٌ كان قرضاً أمْ ثمَنَ مَبِيْع أمْ أجرةً أم غير ذلك، إذا كان على مَلَيء باذِلٍ فَيُزكِّيه مَعَ مَاله كلَّ سنةٍ أو يؤخر زكاتَه حتى يقبِضَهُ ثُمَّ يزكِّيهِ لكلِّ ما مضى من السِّنين، فإنْ كان على مُعْسِر أو مُمَاطلٍ يصعبُ اسْتخراجُه منه فلا زكاة فيه حتى يقْبِضَه فيُزَكِّيه سنَةً واحدةً سنةَ قبضِه ولا زكاةَ عليه فيما قبْلَها من السِّنِين.
ولا تجبُ الزَّكاةُ فيما سِوى الذهب والفضةِ من المَعَادِن وإنْ كانَ أغْلَى منهما إلاَّ أنْ يكونَ للتجارةِ فيزكَّى زَكاةَ تِجارةٍ.
الرابعُ: مما تجبُ فيه الزكاةُ عُرُوضُ التجارةِ وهي كلُّ ما أعدَّه للتَّكَسّبِ والتجارةِ من عقارٍ وحيوانٍ وطعام وشرابٍ وسياراتٍ وغيرها من جميع أصْناف المَال فيُقَوِّمُهِا كلَّ سَنةٍ بما تُسَاوي عند رأسِ الْحوْلِ ويُخْرجُ رُبْعَ عُشْر قِيْمتِها سواءٌ كانت قيمتُها بقدرِ ثَمَنِها الَّذِي اشتراها به أمْ أقلّ أمْ أكثرَ، ويجبُ على أهل البِقَالات والالاتِ وقِطَعِ الغيارات وغيرها أن يُحْصُوها إحصاءً دقيقاً شاملاً للصغير والكبير ويُخْرجوا زكاتَها، فإنْ شقَّ عليهم ذلك احْتاطُوا وأخرجوا ما يكون به براءةُ ذِمَمِهمْ.
ولا زكاةَ فيما أعدَّه الإِنْسانُ لحاجتِه منْ طَعامٍ وشرابٍ وفُرُشٍ ومَسْكنٍ وحيواناتٍ وسيارةِ ولباسٍ سوى حُليِّ الذهب والفضةِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «ليس على المُسْلِمِ في عبدِهِ ولا فَرسِه صدقةٌ»، متفق عليه.
ولا تجبُ الزكاةُ فيما أعِدِّ للأُجرةِ من عقاراتٍ وسياراتٍ ونحوها وإنَّما تجبُ في أجْرَتها إذا كانت نقوداً وحالَ عليها الحولُ وبلغَتْ نصاباً بِنَفْسِها أوْ بِضَمِّها لما عندَه من جِنْسِها.
إخواني: أدُّوا زكاةَ أموالِكم وطِيبُوا بها نَفْساً فإنها غُنْمٌ لا غُرْمٌ وربْحٌ لا خَسَارَةٌ، وأحْصوا جميعَ ما يلزمُكُمْ زكاتُه، واسْألُوا الله القبولَ لما أنْفقتُم والبركةَ لكم فيما أبْقَيْتُم، والحمدُ لله ربِّ العالمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجْمعين.
-قمر الليالي-
06-11-2018, 04:07 PM
المجلس السابع عشر: في أهْل الزكاة
الحمدُ لله الَّذِي لا رافعَ لما وَضَعَ، ولا واضِعَ لما رفع، ولا مانِع لما أعْطَى ولا مُعْطِي لما منَع، ولا قاطعَ لما وَصَل ولا وَاصِل لما قَطَعَ، فسبحانَهُ من مُدَبِّرٍ عظيم، وإِله حكِيم رحيم، فَبِحكْمتِه وقعَ الضررُ وبرحمته نَفَع، أحْمَدُه على جميع أفْعَاله، وأشْكُرُه على واسِع إفضالِه، وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحْدَه لا شريكَ له أحْكَمَ ما شَرَعَ وأبْدَعَ ما صَنَع، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أرْسلَه والْكُفْرُ قد عَلاَ وارتفع، وصالَ واجْتمع، فأهْبَطَه من عَلْيائِه وقَمعَ، وفَرَّقَ من شَرِّه ما اجْتَمع، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الَّذِي نَجمَ نَجْمُ شجاعَتِه يومَ الرِّدَّةِ وطَلَع، وعلى عُمَرَ الَّذِي عَزَّ به الإِسلامُ وامتنَع، وعلى عثمانَ المقتولِ ظلْماً وما ابْتَدَعَ، وعلى عليٍّ الَّذِي دحضَ الْكُفْرَ بجهادِهِ وقَمعَ، وعلى جميع آلِهِ وأصحابِه ما سَجَد مُصَلٍّ وركع، وسلَّم تسليماً.
إخواني: قال الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
في هذه الآيةِ الكريمةِ بيَّنَ الله تعالى مَصارفَ الزكاةِ وأهْلَهَا المسْتَحقينَ لها بِمُقْتَضَى عِلْمِه وحكمتِه وعَدْله ورحمتِه، وحَصَرها في هؤلاءِ الأصناف الثمانيةِ، وبيَّنَ أنَّ صرفَها فيهم فريضةٌ لازمةٌ وأنَّ هذه القِسْمَةَ صادرةٌ عن علمِ الله وحكمتِهِ، فلا يجوزُ تَعَدِّيها وصرفُ الزكاةِ في غيرِها؛ لأنَّ الله تعالى أعْلَمَ بمصالحِ خلقِه وأحكَمُ في وضْع الشَّيءِ في موضِعَه: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
فالصنف الأولُ والثاني: الفقراء والمساكين وهم الذين لا يجدون كِفَايتَهم، وكفايةَ عائلتهم لا مِنْ نقودٍ حاضِرةٍ ولا منْ رواتبَ ثابتةٍ ولا مِنْ صناعةٍ قائمةٍ ولا مِنْ غَلَّةٍ كافيةٍ ولا مِنْ نفقات على غيرهِم واجبة فهم في حاجةٍ إلى مواساةٍ ومعونةٍ. قال العلماءُ: فيعْطونَ مِنَ الزكاةِ ما يَكفيْهم وعائِلَتَهُمْ لمُدة سنةٍ كاملةٍ حتى يأتيَ حولُ الزكاةِ مرةً ثانيةً ويُعْطَى الفقيرُ لزواجٍ يحتاجُ إليهِ ما يَكْفِي لِزواجه، وطالبُ العلم الفقير لشراء كتب يحتاجها. ويعْطى منْ له راتب لا يكفيه وعائلته من الزكاة ما يُكمِّل كفايَتَهم لأنه ذو حاجة.
وأمَّا من كان له كفايةٌ فلا يجوز إعطاؤه من الزكاةِ وإنْ سألَها؛ بل الواجبُ نُصحُه وتْحذِيرُه من سُؤالِ ما لا يحلُّ له، فعن عبدِالله بن عُمَر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «لا تَزَالُ المسْألةُ بأحَدِكُم حتى يَلْقَى الله عزَّ وجلَّ وليس في وجههِ مُزعةُ لحمٍ»، رواه البخاري. وعن أبي هريرةَ رضيَّ الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سأل الناسَ أموالَهم تكثُّراً فإنما يسأل جمراً فَلْيَسْتقِلَّ أو ليسْتكثْر»، رواه مسلم.
وعَنْ حَكيمِ بنِ حزامٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال له: «إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حلوةٌ فمنْ أخَذَه بسَخاوةِ نَفْسٍ بُوركَ فيه، ومن أخذَه بإشراف نفْسٍ لم يباركْ له فيه وكان كالَّذِي يأكُلُ ولا يشْبع، واليَدُ العُلْيا خيرٌ مِنَ اليَدِ السُّفلى»، رواه البخاري ومسلم. وعن عبدالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يَفْتَحُ عبْدٌ بابَ مَسْألةٍ إلاَّ فتحَ الله عليه بابَ فقر»، رواه أحمد (حسن صحيح).
وإن سأل الزكْاةَ شخصٌ وعليه علامةُ الغنى عنها وهو مجهولُ الحَال جاز إعطاؤه منها بعد إعْلامِه أنَّه لا حظَّ فيها لغَنيٍّ ولا لِقَويِّ مُكْتَسبٍ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أتاه رجُلان يَسْألانه فقَلَّبَ فيهما البَصَر فَرآهما جَلدَين فقال: «إنْ شئتُما أَعْطيتُكُما ولا حَظَّ فيها لغنيٍّ ولا لقَويٍّ مُكْتَسِبٍ»، رواه أحمدُ وأبو داود والنسائيُّ.
الصنفُ الثالثُ مِنْ أهلِ الزكاةِ: العامِلُون عليها وهم الذينَ ينصِّبُهم وُلاَةُ الأمورِ لِجبايةِ الزكاةِ من أهلها وحِفْظِها وتصريفِها، فيُعْطَون منها بقدرِ عملِهِم وإنْ كانوا أغنِياءَ، وأمَّا الوكلاء لفَردٍ من الناس في توزيعِ زكاتِه فليسوا من العامِلين عليها فلا يستحقونَ منها شيئاً من أجْلِ وَكالتهم فيها، لكِنْ إن تَبرَّعُوا في تفريقِها على أهلِها بأمانةٍ واجْتهادٍ كانوا شركاءَ في أجْرِها لما روى البخاريُّ عن أبي موسى الأشْعَريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الخازِنُ المسْلِمُ الأمينُ الَّذِي يُنَفِّذُ أو قال: يُعْطِي ما أُمِرَ به كاملاً موفَّراً طيِّباً به نَفْسُه فيدفَعُه إلى الَّذِي أمَر به أحدُ المُتصَدقِّين، وإنْ لم يتبرَّعوا بتَفرِيقِها أعْطاهُمْ صاحبُ المال من مالِه لا مِنَ الزكاةِ».
الصنفُ الرابعُ: المؤلَّفَةُ قلوبُهم وهم ضعفاءُ الإِيْمانِ أو مَنْ يُخْشَى شَرُّهُمْ، فيُعْطَونَ مِن الزكاةِ ما يكونُ به تقوية إيمانم أوْ دفعُ شرهم إذا لم يندفع إلاَّ بإعطائِهِمْ.
الصنفُ الخامسُ: الرقَابُ وهم الأرقاء المكاتُبون الَّذِين اشْتَروا أنْفُسَهُم لِيُحَرِّروا بذلك أنْفُسَهم، ويجوزُ أنْ يُشْترى عَبْدٌ فيُعْتَق وأنْ يُفَكَّ بها مُسْلِمٌ من الأسْرِ لأنَّ هذا داخلٌ في عموم الرِّقَاب.
الصنفُ السادسُ: الغارِمُون الَّذِين يَتَحَمَّلُون غَرَامةً وهم نوعانِ:
الأول: مَنْ تَحمَّلَ حَمَالةً لإِصْلاحِ ذاتِ الْبَيْنِ وإطْفَاءِ الفتنةِ فيُعْطَى من الزكاةِ بقَدْرِ حَمَالتِه تشجيعاً له على هذا العملِ النَّبيْلِ الَّذِي به تأليفُ المسلمين وإصلاحُ ذاتِ بَيْنِهم وإطفاءُ الفتنةِ وإزالة الأحْقَادِ والتنافرِ. وعن قبيصةَ الهلاليِّ قال: تحمَّلتُ حمالةً فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أسْألُه فيها فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إقِمْ حتى تأتِينَا الصدقةُ فَنَأمُرَ لك بها»، ثم قال: «يا قبيصةُ إنَّ المسألةُ لا تحِلُّ إلاَّ لأحَدِ ثلاثةٍ: رجل تحمَّل حمالةً فحلَّتْ له المسألةُ حتى يصيبَها ثُمَّ يُمْسِكُ» وذكر تمام الحديث. رواه مسلم.
الثاني: مَنِ تَحمَّل حمالةً في ذمتِه لنَفْسِه وليس عنده وفَاءٌ فيُعْطَى من الزكاةِ ما يُوفي به دينَه وإنْ كَثُر أو يُوفَى طَالِبُه وإنْ لم يُسلَّمْ للمطلوب؛ لأنَّ تسليمَه للطالبِ يحصُل به المقصودُ من تبْرِئَةِ ذمةِ المطلوب.
الصنفُ السابعُ: في سبيلِ الله وهو الجهادُ في سبيل الله الَّذِي يُقْصَدُ به أنْ تكون كلمةُ الله هي العُلْيا لا لحميَّةٍ ولا لعصبيَّةٍ، فيُعْطَى المجاهدُ بهذه النِّيَّةِ ما يكْفِيهِ لِجِهادِهِ من الزكاةِ أوْ يُشْترى بها سلاحٌ وعَتَادٌ للمجاهدين في سبيلِ الله لحمايةِ الإِسْلامِ والذَّودِ عنه وإعلاءِ كلمةِ الله سبحانَه.
الصنفُ الثامنُ: ابنُ السَّبِيْل وهو المسافُرِ الَّذِي انقطع به السَّفرُ ونَفَد مَا في يَدِه فيُعْطَى مِن الزكاةِ ما يُوصَلَه إلى بلدهِ وإنْ كان غنياً فيها وَوَجَدَ من يُقْرضُه، لكنْ لا يَجُوز أنْ يَسْتَصْحِبَ معه نفقةً قليلةً لأجْل أن يأخذ من الزكاة إذا نفدت، لأنها حيلةٌ على أخذ ما لا يستحق. ولا تُدْفَع الزكاةُ لكافر إلا أن يكونَ من المؤلَّفةِ قلوبهم، ولا تُدفع لِغَنيِّ عنها بما يكفِيه من تجارةٍ أو صناعةٍ أوْ حرفةٍ أوْ راتبٍ أوْ مَغَلِّ أو نفقةٍ واجبةٍ إلا أن يكون من العامِلينَ عليها أو المجاهِدينَ في سبيلِ الله أو الغَارمينَ لإِصْلاحَ ذاتِ البَيْن. ولا تُدْفَع الزكاةُ في إسقاطِ واجبٍ سِوَاها فلا تُدْفَع للضَّيْفِ بدلاً عن ضيافتِه، ولا لمن تجب نفقتُهُ من زوجةٍ أو قريبٍ بدلاً عن نفقتهما، ولا يجوز دفُعها للزوجةِ والقريبِ فيما سوى النفقةِ الواجبةِ، فيجوز أن يَقْضِيَ بها ديناً عن زوجتِه لا تَسْتَطِيعُ وفاءَه وأنْ يَقْضِيَ بها عن والِديْهِ أو أحدٍ منْ أقاربه ديناً لا يستطيعُ وفاءَه. ويجوز أن يدفعَ الزكاةَ لأقاربه في سَدادِ نَفَقَتِهم إذا لم تكنْ واجبة عليه لِكَوْنِ مالِه لا يَتَحمَّلُ الإِنفاقَ عليهم أو نحو ذلك. ويجوزُ دفعُ الزوجةِ زكاتَها لزوجها في قضاءِ دينٍ عليه ونحوه؛ وذلك لأنَّ الله سبحانَه علَّقَ استحقاقَ الزكاةِ بأوصافٍ عامة تشملُ من ذكرنا وغيرهم، فمن اتَّصفَ بها كان مستحقاً، وعلى هذا فلا يخرج أحَدٌ منها إلا بنص أو إجماع.
وفي الصحيحين من حديث زيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ امْرَأة عبدِالله بن مسعودٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أمَرَ النِّساءَ بالصدقةِ فسَألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقالَتْ: يا رسولَ الله إنَّك أمَرْتَ بالصدقةِ وكان عندي حُلِيٌّ فأردتُ أنْ أتصدقَ به، فزَعم ابنُ مسعودٍ أنَّه وولَدَه أحَقُّ مَنْ تَصدَّقتُ به عليهم فقال النبيُّ: «صَدَقَ ابن مسعودٍ زوجُكِ وولَدُك أحقُّ مَنْ تصدَّقتِ به عليهم». وعن سلْمَانَ بنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الصدقةُ على الفقيرِ صدقةً وعلى ذَوِي الرَّحَمِ صدقةٌ وَصِلَةٌ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ خزيمةَ والحاكمُ وقال: صحيحُ الإِسناد. وذوو الرَّحمِ هم الْقَرابَةُ قربُوا أمْ بَعُدُوا.
ولا يجوز أن يُسْقِطَ الدَّيْنَ عن الفقير ويَنْويهُ عن الزكاةِ لأنَّ الزكاةَ أخْذٌ وإعطَاء. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَلِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ الله افْتَرَضَ عليهم صدَقةً تُؤخذُ مِنْ أغْنيائِهِم فَتُردُّ على فقرائِهم». وإسْقَاطُ الدَّيْنَ عن الفقير ليس أخذاً ولا رَدَّاً، ولأنَّ ما في ذمةِ الفقير دَيْنٌ غَائبٌ لا يَتَصَرَّفُ فيه فلا يجزأ عن مالٍ حاضرٍ يَتَصَرَّفُ فيه، ولأنَّ الدَّيْنَ أقلُّ في النَّفْسِ من الحاضرِ وأدْنَى فأداؤه عنه كأداءِ الرِدِيءِ عن الجيِّد. وإذا اجتهد صاحبُ الزَّكاةِ فَدَفَعَهَا لمنْ يَظُنُّ أنَّه من أهلِها فَتَبَيَّنَ بخلافِهِ فإنها تجزئُه؛ لأنَّه اتقى الله ما استطاعَ ولا يُكلِّف الله نفساً إلا وُسْعَها. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «قال رَجُلٌ: والله لأتَصَدَّقَّ (فَذَكَرَ الحديث وفيه) فَوَضَعَ صدقته في يد غَنِيٍّ فأصْبَحَ الناسُ يَتَحَدَّثُون تُصُدِقَ على غنِيٍّ فقال: الحمد لله على غَنِيٍّ فأُتِي فقيل أمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّه يَعْتَبِرُ فينْفقُ مما أعْطاه الله»، وفي رواية لمسلم: «أمَّا صدقتُكَ فقد تُقبِّلت». وعن مَعْن بن يزيدَ رضي الله عنه قال: كان أبي يُخْرجُ دنانيرَ يتصدقُ بها فوضعها عندَ رجُلٍ في المسجد، فجئت فأخَذْتُها فأتيتُه بها فقال: والله ما إيَّاك أَرَدْتُ فخاصَمته إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «لك ما نَوَيتَ يا يزيدُ ولك ما أخَذْتَ يا مَعْنُ»، رواه البخاريُّ.
إخواني: إن الزكاةَ لا تجزأ ولا تقْبَلُ حتى توضع في المَحَلِّ الَّذِي وَضَعَها الله فيه فاجْتَهدوا رحمكم الله فيها، واحْرصُوا على أنْ تَقَع موقَعها وتَحِلَّ مَحلَّها لِتُبْرئوا ذِمَمَكُمْ وتُطَهِّروا أمْوَالَكُمْ وتُنَفِّذُوا أمْرَ ربِّكم وتُقْبَلَ صَدَقاتُكُمْ والله المُوَفِّقُ والحمد لله ربِّ العالمِينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعينَ.
-قمر الليالي-
06-11-2018, 04:10 PM
المجلس الثامن عشر: في غَزوة بَدر
الحمدُ لله القويِّ المتين، القاهرِ الظاهرِ الملكِ الحقِّ المبين، لا يخفى على سمعِه خفيُّ الأنينِ، ولا يعزُب عن بصرِه حركاتُ الجنِين، ذلَّ لكبريائِه جبابرةُ السلاطين، وَقَضى القضاءَ بحكمتِه وهو أحْكَمُ الحاكمين، أحمده حمْدَ الشاكِرين، وأسْألُه مَعُونَةَ الصابِرين، وأشهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريكَ له إِلهُ الأوَّلين والآخرين، وأشَهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطَفَى على جميع المرسلين، المنصورُ ببَدرٍ بالملائِكةِ المنزَلين، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابه والتابِعين لهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدين، وسلم تسليماً.
إخواني: في هذا الشهرِ المُباركِ نصرَ الله المسلمينَ في غزوة بدرٍ الْكُبْرى على أعْدَائِهم المُشرِكينَ وسَمَّى ذلك اليومَ يومَ الفُرْقانِ؛ لأنَّه سبحانه فرَّقَ فيه بَيْنَ الحقِّ والبَاطِلِ بنَصْر رسولِهِ والمؤمنين وخَذْلِ الكفارِ المشركِين. كان ذلك في شهر رمضانَ من السَّنَةِ الثانية من الهِجْرةِ، وكان سببُ هذه الغزوة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بَلَغَهُ أنَّ أبا سفيانَ قد توجَّه من الشامِ إلى مكةَ بعيْرِ قريشٍ، فَدَعَا أصحابَه إلى الخروج إليه لأخْذِ العِيْرِ، لأنَّ قُريشاً حَربٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابِه ليس بَيْنَه وبينَهم عهْدٌ، وقد أخْرَجوهم من ديارِهم وأموالِهم وقامُوا ضِدَّ دعوتِهم دعوةِ الحقِّ، فكانُوا مُسْتَحقِّين لما أرادَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه بِعِيْرِهم. فخرجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابُه في ثَلاثِمائةٍ وبضعةَ عَشَرَ رجُلاً على فَرسَين وسَبْعِين بَعِيراً يتعقبونها منهم سَبْعون رجُلاً من المُهَاجرين، والباقُون مِن الأنصارِ، يَقْصُدونَ الْعِيْرَ لا يريدونَ الْحَرْبَ، ولَكنَّ الله جمَعَ بينهم وبينَ عَدُوِّهم على غيرِ ميْعاد لِيَقْضيَ الله أمراً كان مفعولاً ويتمَّ ما أرَاد. فإن أبا سفيانَ عَلمَ بهم فبعثَ صارخاً إلى قُريشٍ يَستنجدُهم لِيحْمُوا عِيْرَهُمْ، وتَركَ الطريقَ المعتادةَ وسلكَ ساحلَ البحرِ فَنَجا.
أما قريشٌ فإنَّه لما جاءهم الصارخُ خَرجُوا بأشْرافِهِم عن بَكْرَةِ أبِيهم في نحو ألفِ رجلٍ معهم مئةُ فرسٍ وسبعُمائة بَعِيرٍ {بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [الأنفال: 74] ومَعهَم الْقِيَانُ يُغَنِّينَ بهجاءِ المسلمينَ، فلما عَلِمَ أبو سفيانَ بخروجِهم بعثَ إليهم يُخْبرهُم بِنَجَاتِه، ويُشير عليهِم بالرجوعِ وعدم الْحَربِ، فأبَوْا ذلك وقال أبُو جهلٍ: والله لا نرجعُ حتى نبلُغَ بدراً ونُقِيمُ فيه ثَلاثاً، نَنْحَرُ الجُزُورَ، ونُطْعِمُ الطعامَ، ونسقِي الْخَمْرَ، وتسمعُ بنا العَرَبُ فلا يَزالون يهابونَنَا أبداً.
أمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم فإنه لما عَلِمَ بخروجِ قريشٍ جمعَ من معه من الصحابةِ فاستشارَهم وقال: إن الله قدْ وَعَدَني إحْدى الطائفتين إمَّا العيرَ أو الجيشَ، فقام المقْدَادُ بنُ الأسْودِ وكَان من المُهاجِرينَ وقالَ: يا رسول الله امْض لما أمرَكَ الله عَزِّ وجلِّ فوَالله لا نقُولُ كما قالتْ بنو إسْرائيلَ لمُوسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكِنْ نقاتلُ عن يمينِك وعن شمالِك ومن بَيْنَ يَدَيْكَ ومن خَلْفِك، وقام سعدُ بنُ مُعَاذٍ الأنْصاريُّ سيِّدُ الأوْس فقال: يا رسول الله لعلَّكَ تَخْشَى أنْ تكونَ الأنصارُ تَرَى حقْاً عليها أن لا تَنصُركَ إلاَّ في ديارِهم وإني أقُولُ عن الأنْصارِ وأجيبُ عنهم فاظْعَنْ حيثُ شئتَ، وصِل حبل مَنْ شئتَ، واقطعْ حبْلَ مَنْ شئتَ، وخذْ من أموالِنا ما شئتَ، وأعطِنا منها ما شئتَ، ومَا أخَذْتَ منَّا كان أحَبَّ إلينا مما تركتَ، وما أمْرت فيه من أمْرٍ فأمْرُنا فيه تَبَعٌ لأمْرك، فوالله لَئِن سِرْتَ بناحتى تبلُغَ الْبركَ من غَمْدانَ لنَسيرنَّ معك، ولئن اسْتعرضتَ بنا هذا البَحْرَ فخضْتَه لنخُوضَنَّه معك، وما نَكرَهُ أنْ تكونَ تَلَقَى العدوَّ بنا غداً، إنَّنا لصبرٌ عند الْحَربِ، صِدْقٌ عند اللِّقاءِ، ولعلَّ الله يُريكَ منا ما تَقَرُّ به عَيْنُك.
فسُرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لما سَمِعَ من كلامِ المهاجرينَ والأنصارِ رضي الله عنهم وقال: «سَيْرُوا وأبْشِرُوا فَوالله لَكَأنِّي أنْظُرَ إلى مَصارِعِ القومِ»، فَسَارَ النبي صلى الله عليه وسلّم بجنودِ الرحمنِ حتى نَزَلُوا أدنَى ماءٍ من مِيَاهِ بَدْرٍ، فقال له الْحبابُ بنُ المُنْذرِ بن عَمْرو بنِ الجموح: يا رسول الله أرأيت هذا المَنْزِلَ؟ أمَنْزلٌ أنْزَلَكَهُ الله ليس لنا أن نتقدمَ عنه أوْ نتأخر؟ أمْ هو الرَّأْيُ والْحَرْبُ والمَكيدةُ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: بل هو الرأْيُ والحربُ والمكيدةُ»، فقال: يا رسولَ الله إنَّ هذا ليس بمَنزِلٍ، فَانْهَضْ بنا حتى نَأتِيَ أدْنَى ماءٍ من القومِ فننزله ونُغَوِّر ما ورَاءه من الْقُلبِ ثم نَبْنِيَ عليه حوضاً فَنَمْلأه فنشربَ ولا يشربُونَ، فاسْتَحْسَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم هذا الرَّأيَ ونهض (هذه القصة أعني نزولهم أدنى ماء من مياه بدر وإشارة الحباب ضعيفة جداً سنداً ومتناً)، فنزلَ بالعْدُوَةِ الدُّنيا مما يلِي المدينةَ وقريشٌ بالْعُدْوةِ القُصْوى مما يلي مكةَ، وأنْزلَ الله تلك الليلة مطراً كان على المشركين وَابلاً شديداً وَوحَلاً زَلَقاً يمنعهم من التقدم، وكان على المسلمين طلاًّ طهرَهم ووطَّأ لهم الأرض وشَدَّ الرَّمْلَ ومَهَّدَ المَنْزِلَ وثَبَّتَ الأقدام.
وبنى المسلمون لِرسول الله صلى الله عليه وسلّم عَريْشاً على تل مُشْرِفٍ على مَيْدَانِ الحرب ثم نَزَلَ صلى الله عليه وسلّم من الْعَريشِ فَسَوَّى صفوف أصْحابِه، ومشى في موضِع المَعْرَكةِ، وجعَل يُشيرُ بيدهِ إلى مصارعِ المشركينَ، ومحلاَّتِ قَتْلِهم يقولُ: هذا مصرعُ فلانٍ إنْ شاء الله، هذا مصرعُ فلانٍ، فما جاوزَ أحَدٌ مِنْهُمْ موضعَ إشارتِه، ثم نَظَرَ صلى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وإلى قُرَيْشٍ فقال: اللَّهُمَّ هذه قريشٌ جاءت بفَخْرِها وخُيَلائِها وخَيْلِها تُحادُّك وتكذّبُ رسولَك، اللَّهُمَّ نَصْركَ الَّذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ انْجِزْ لي ما وعدتنِي، اللَّهُمَّ إني أنْشُدُك عَهْدَك ووَعْدَك، اللَّهُمَّ إنْ شئتَ لم تُعْبَدْ، اللَّهُمَّ إنْ تَهْلِكْ هذه العِصَابَةُ اليومَ لا تُعْبَد، واستَنْصَرَ المسلمون رَبَّهُمُ واستغاثوه فاستجابَ لهم: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الْمَلَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14].
ثُمَّ تقابَلَ الجَمَعانِ، وحَمِي الْوطِيسُ واستدارتْ رَحَى الحربِ، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلّم في العَرِيشِ، ومعه أبو بكرٍ وسَعْدُ بنُ مُعاذٍ يحرسانه، فما زالَ صلى الله عليه وسلّم يُنَاشِدُ ربَّه ويسْتَنْصِرُهُ ويَسْتَغِيْثُه، فأغْفَى إغْفَاةً ثم خرج يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ» وحَرَّضَ أصحابَه على القتال وقال: والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بيدِهِ لا يقاتلُهُمُ اليومَ رَجُلٌ فَيَقْتَلُ صابراً مُحْتَسِباً مُقْبلاً غَيْرَ مُدْبر إلاَّ أدخله الله الجنّةَ. فقام عُمَيرُ بنُ الحِمَام الأنصاريُّ وبِيَدِه تَمَرات يأكُلُهُنَّ فقال: يا رسولَ الله جنة عَرْضُها السمواتُ والأرْضُ قال النبي صلى الله عليه وسلّم: نَعَمْ. قال: بَخٍ بَخٍ يا رسولَ الله ما بَيْنِي وبَيْنَ أنْ أدخُل الجنةَ إلاّ أنْ يقتُلَني هؤلاءِ، لَئِنْ حِييتُ حتى آكُلَ تمراتِي هذهِ إنها لحَيَاةٌ طويلةٌ، ثم ألْقَى التمراتِ وقاتلِ حتى قُتِلَ رضي الله عنه.
وأخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم كفَّاً مِنْ تُرابٍ أو حصاً فرَمَى بها القومَ فأصابتْ أعْيُنَهم فما مِنْهم واحِدٌ إلاَّ مَلأتْ عيْنَه، وشُغلوُا بالتراب في أعْينهم آيةً من آياتِ الله عزَّ وجلَّ، فَهُزمَ جَمْعُ المشركين، ووَلَّوُا الأدْبارَ، واتَّبعهم المسلمون يقْتُلون ويأسرون. قَتْلُوا سَبْعينَ رجلاً وأسَروا سبعين. أمَّا الْقَتْلى فألْقِي منهم أربعةٌ وعشرون رجلاً مِنْ صَنَاديدهِم في قليبٍ من قُلْبَانِ بَدْر، منهم أبو جهلٍ وشَيْبَةُ بنُ رَبيعةَ وأخوه عُتْبة وابنُه الوَليدُ بنُ عتبةَ، وفي صحيح البخاريِّ: عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم استقْبَل الكعبةَ فدَعَا على هؤلاء الأربعةِ قال: فأشْهَدُ بالله لقد رأيتُهم صَرْعَى قد غيَّرتهم الشَّمسُ وكان يوماً حاراً.
وفيه أيضاً عن أبي طلحةَ رضي الله عنه أنَّ نَبيَّ الله صلى الله عليه وسلّم أمر يومَ بدرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلاً من صناديدِ قريشٍ فَقُذِفُوا في طَويٍّ من أطْواءِ بدرٍ خبيثٍ مُخْبثٍ، وكان إذا ظَهَر على قوم أقَامَ بالعَرْصَةِ ثلاثَ لَيالٍ، فلما كان ببدرٍ اليومَ الثالَثَ أمَرَ برَاحِلتِه فشُدُّ عليها ثم مشَى واتَّبعَهُ أصحابُه حَتَّى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ فجعل يُنَادِيْهم بأسمائِهِم وأسماءِ آبائِهِم يا فلانُ بنَ فلانٍ ويا فلانُ بنَ فلانٍ أيَسُرُّكُمْ أنَّكُمْ أطْعتُمُ الله ورسولَه، فإنا قد وَجَدْنَا ما وَعَدنَا ربُّنا حقَّاً فهل وجَدْتُم ما وَعَدَكُمْ ربُّكم حقَّاً؟ قال عُمَرُ: يا رسولَ الله مَا تُكلِّمُ مِنْ أجْسَادٍ لا أرواحَ لها؟ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «والَّذِي نَفْسُ محمدٍ بِيَدِه ما أنْتُم بأسْمَعَ لما أقولُ منهم».
وأمَّا الأسْرَى فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اسْتَشارَ الصحابةَ فيهم، وكان سعدُ ابن مُعاذٍ قد ساءَه أمْرُهُمْ وقال: كانتْ أوَّل وَقْعَةٍ أوْقَعها الله في المشركينَ وكان الإِثْخَانُ في الْحَربِ أحبَّ إليَّ من اسْتِبْقَاءِ الرِّجالِ. وقال عُمَرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنه للنبيِّ صلى الله عليه وسلّم: أرَى أنْ تُمَكِّنَنا فنضربَ أعْنَاقَهم فتُمَكِّن عليَّاً من عَقِيْل فيضربَ عنقَه، وتمكِّنَنِي من فلانٍ يعنِي قريباً له فأضْرِبَ عنقَه، فإنَّ هؤلاء أئِمَّةُ الْكُفْرِ وصناديدُها.
وقال أبو بَكْرٍ رضي الله عنه: هم بَنُو الْعِمِّ والعَشيْرةُ، وأرَى أن تأخُذَ منهم فِدْيةً فتكونُ لنا قُوةً على الكفارِ، فعسى الله أنْ يهديَهُم للإِسلامِ، فأخَذَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الفدية، فكان أكْثَرهم يفْتَدِي بالمَالِ مِنْ أربعةِ آلافِ درهمٍ إلى ألْفِ درهمٍ، ومنهم مَنْ افْتدى بتعليمِ صِبْيَانِ أهْلِ المدينةِ الكِتابَةَ والقِراءة، ومنهم مَنْ كان فِداؤُهُ إطْلاَقَ مأسورِ عند قريشٍ من المسلمينَ، ومنهم منَ قَتَله النبيُّ صلى الله عليه وسلّم صبراً لِشدَّةِ أذيِّتِه، ومنهم مَنْ مَنَّ عليه بدونِ فداءٍ لِلْمَصْلَحَةِ.
هذه غزوةُ بدرٍ انتصَرَتْ فيها فِئَةٌ قليلةٌ على فئةٍ كثيرةٍ {فِئَةٌ تُقَتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13]. انتصرت الفئةُ القليلةُ لأنها قائمةٌ بدِينِ الله تُقَاتِلُ لإِعْلاءِ كَلِمَتِهِ والدِّفاع عن ديْنِه، فنصَرَها الله عزَّ وجلَّ. فقومُوا بدِيْنِكَم أيُّها المسلمونَ لتُنْصَروا على أعدائِكم، واصْبِرُوا وصَابِرُوا وَرَابِطُوا واتقوا الله لعلَّكُمْ تفلِحُون.
اللَّهُمَّ انْصُرْنا بالإِسلامِ واجعلنا من أنصارِهِ والدعاةِ إليه وثبِّتَنا عليه إلى أن نلْقَاكَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعين.
-قمر الليالي-
06-12-2018, 04:13 PM
المجلس التاسع عشر: في غَزوة فتح مَكة شرّفها الله عز وجل
الحمدُ لله الَّذِي خلق كلَّ شَيْء فَقَدَّرَه، وعلِمَ مَوْردَ كلِّ مخلوقٍ ومصْدَرَه، وأثْبَتَ في أمِّ الكتاب ما أرَادَه وسَطَّره، فلا مُؤخرَ لِمَا قدَّمَه، ولا مُقَدِّم لما أخَّرَه، ولا ناصرَ لمَنْ خَذلَهُ ولا خاذِلَ لِمَنْ نَصَره، تفرَّد بالمُلْكِ والبقاءِ، والعزَّةِ والكبرياء، فمَنْ نازَعه ذلك أحْقَرَه، الواحدُ الأحَدُ الربُّ الصَّمَد، فلا شريكَ له فيْمَا أبْدَعَه وفَطَرَه، الحيُّ القَيُّومُ فما أقْومَهَ بشُؤُونِ خلْقِه وأبْصَرَه، العليمُ الخبيرُ فلا يخْفَى عليه ما أسَرَّه العبدُ وأضْمَرَه، أحْمَدُه على ما أوْلَى مِنْ فضلِهِ ويَسَّرَه.
وأشْهد أنْ لا إِله إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ، قَبِلَ تَوْبةَ العاصِي فعفَا عن ذَنْبِه وغَفَرَه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي أوْضَح به سبيلَ الهدايةِ ونَوَّرَه، وأزال به ظلماتِ الشِّرْكِ وقَتَرَه، وفَتحَ عليه مَكَّةَ فأزَال الأصنامَ مِن الْبَيْتِ وَطَهَّرَه، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه الكرامِ الْبَرَرَة، وعلى التابعينَ لهم بإحْسَانٍ ما بَلَغَ القَمَرُ بدرَه وسَرَرَه، وسلَّم تسليماً.
إخواني: كما كان في هذا الشهرِ المباركِ غزوةُ بدْرٍ الَّتِي انتصر فيها الإِسْلامُ وعلا منارُه، كان فيه أيضاً غزوةُ فتْحِ مكةِ البلدِ الأمينِ في السَّنَةِ الثامِنَةِ من الْهِجرَةِ فأنقَذَه الله بهذا الفتحِ العظيمِ مِنَ الشركِ الأثِيم، وصار بلداً إسلامياً حَلَّ فيه التوحيدُ عن الشِّرْكِ، والإِيْمَانُ عن الكُفْرِ، والإِسلامُ عن الاسْتِكْبَار، أعلِنَتْ فيه عبادةُ الواحدِ الْقَهَّار، وكُسِرَتْ فيه أوْثانُ الشركِ فمَالها بعْدَ ذَلِكَ انْجِبَار، وسَبَبُ هذا الفتحِ العظيمِ أنَّه لما تَمَّ الصلْحُ بَيْنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وبَيْنَ قريشٍ في الحُديْبيّةِ في السَّنَةِ السَّادسةِ كان مَنْ أحَبَّ أنْ يدْخُلَ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم فَعلَ، ومَن أحبَّ أنْ يدخُلَ في عهدِ قريشٍ فَعَلَ، فَدَخَلَتْ خُزَاعَةُ في عهْدِ النبي صلى الله عليه وسلّم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بَيْنَ القبيلتَين دماءٌ في الجاهليَّة فانْتَهَزَتْ بنو بكرٍ هذه الهُدنَةَ فأغَارتْ على خزاعةَ وهم آمِنُون، وأعَانَتْ قريشٌ حُلَفَاءها بَنِي بكرٍ بالرجالِ والسِّلاحِ سِرّاً على خزاعةَ حلفاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم، فقدِم جماعةٌ منهم إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فأخبروهُ بما صنعت بنو بكر وإعانة قريش لها.
أما قريش فسُقِط في أيدِيْهم ورَأوْا أنّهُمْ بِفِعْلِهم هذا نَقَضَوا عَهْدهم، فأرسَلُوا زعيمهم أبَا سُفْيَانَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم لِيَشُدَّ الْعَقْدَ وَيَزِيْدَ في المُدَّة، فَكَلَّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في ذلك، فلم يَرُدَّ عليه ثم كلَّمَ أبَا بَكْرٍ وعُمَرَ لِيَشْفَعَا له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يُفْلِحْ، ثم كَلَّمَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ فلم يُفلحْ أيْضاً، فقال له: ما تَرَى يَا أبا الحَسَنِ، قال: ما أرَى شَيْئاً يُغْنِي عنك ولَكنَّك سَيِّدَ بنِي كِنَانَةَ فَقُمْ فأجِرْ بَيْنَ الناس، قال: أتَرَى ذلك مُغْنِياً عني شيئاً، قال: لا والله ولَكِنْ ما أجِدُ لك غَيَره، فَفَعَل أبو سفيانَ، ثم رَجَعَ إلى مكة فقالتْ له قريشُ: ما وَرَاءَكَ؟ قال: أتَيْتُ محمداً فكَلَّمْتُه فوَالله ما رَدَّ عَليَّ شَيْئاً، ثم أتَيْتُ ابن أبي قُحافةَ وابنَ الخطاب فلم أجدُ خيراً، ثم أتيتُ علِيَّاً فأشارَ عَليَّ بشيء صنَعْتُه أجَرْتُ بَينَ النَّاسِ، قالوا: فهل أجاز ذلك مُحمدٌ؟ قال: لا. قالوا: وَيْحَكَ، ما زادَ الرَّجُلُ (يعْنُون عليّاً) أنْ لَعِبَ بك.
وأمّا النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فقد أمر أصحابَه بالتَّجَهُّزِ لِلْقتالِ، وأخْبرهم بما يُريد واستَنْفَرَ مَنْ حولَه من القبائلِ وقال: اللَّهُمَّ خُذِ الأخبارِ والْعُيونَ عَنْ قريشٍ حتى نَبْغَتَها في بلادِها، ثم خرَجَ من المدينةِ بنحو عَشَرةِ آلاف مُقَاتِلٍ، وَوَلَّى على المدينةِ عَبْدَالله بنَ أمِّ مَكْتُومٍ ولما كانَ في أثْنَاءِ الطريق لَقِيَهُ في الْجُحْفَةِ عَمُّهُ العَبَّاسُ بأهْلِهِ وعيالِه مهاجراً مُسْلماً، وفي مَكَانٍ يُسَمَّى الأبْواءَ لقيه ابن عَمّه أبو سفيانَ بنُ الحارثِ ابنُ عَبْدِالمُطَّلِبِ وابنُ عَمَّتِهِ عبدُالله بنُ أبي أمَيَّةَ، وكانا من أشَدِّ أعْدائِه فأسْلَمَا فَقَبِل منهما، وقال في أبي سفيانَ: أرجو أنْ يكونَ خَلَفاً مِنْ حَمْزَةَ.
ولمَّا بلغ صلى الله عليه وسلّم مكاناً يُسَمَّى مَرَّ الظَّهْرَانِ قريباً مِنْ مكةَ أمَرَ الْجَيْشَ فأوْقَدُوا عَشَرَةَ آلاف نارٍ، وجَعل على الْحرس عُمَرَ بنَ الخطابِ رضيَ الله عنه، وَرَكِبَ العباسُ بَغْلَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم لِيلْتَمِسَ أحَداً يُبَلِّغِ قريشاً لِيَخْرُجوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فيطلبوا الأمانَ منه ولا يحصُل القتالُ في مكةَ البلدِ الأمينِ، فَبَيْنَمَا هو يَسِيرُ سَمِع كلامَ أبي سفيانَ بن حرب يقول لِبُدَيلِ بن وَرْقَاءَ: ما رأيتُ كاللَيلةِ نِيراناً قطُّ فقال بُديْلٌ: هذه خزاعَةُ، فقال أبو سفيان: خزاعةُ أقل من ذلك وأذلُّ فعرف العباسُ صوت أبي سفيانَ فنَادَاه فقال: مالك أبَا الْفَضْلِ؟ قالَ: هذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم في الناسِ قال: فما الحيلَةُ؟ قالَ العباسُ: ارْكَبْ حَتَّى آتِيَ بك رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم فأسْتأمِنَه لك، فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فقال: وَيْحَكَ يا أبا سفيانَ أمَا آنَ لكَ أنْ تَعْلَمَ أن لا إِله إلاّ الله؟ فقال: بأبِي أنتَ وأمِّي ما أحْلَمَكَ وأكرَمَك وأوْصَلَكَ لَقَدْ علمْتُ أنْ لَوْ كانَ مع الله غَيْرهُ لأغْنَى عنِّي، قال: أمَا آنَ لك أنْ تَعْلَم أنَّي رسولُ الله؟ فَتَلَكَّأ أبوُ سفيانَ، فقالَ له العباسُ: وَيْحك أسْلِمْ فأسْلَمَ وشَهدَ شهادةَ الحَقِّ.
ثم أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم العباسَ أن يُوْقِفَ أبا سفيانَ بِمَضَيقِ الْوَادي عِنْد خَطْم الْجَبَل حَتَّى يمُرَّ به المسلمون، فَمَرَّتْ به الْقَبَائِلُ على رَايَاتِها ما تَمُرُّ به قَبيلةٌ إلاَّ سَأل عنها العَبَّاسَ فيُخْبِرُهُ فيقولُ: ما لي وَلَهَا حَتَّى أقْبَلَتْ كَتِيبةٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فقال: مَنْ هَذِهِ؟ قال العباسُ: هؤلاءِ الأنْصارُ عليهم سَعدُ بنُ عُبَادَةَ معه الرَّايةُ فلما حاذَاه سُعدٌ قال: أبا سفيان اليومُ يومُ الملحمةِ اليومَ تستحلُّ الكعبة، ثم جاءت كتِيْبَةٌ وهي أقلُّ الكتائبِ وأجَلُّها فيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم وأصْحَابُه ورَايَتُه مع الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ، فَلَّما مَرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأبي سفيان أخْبَرَه بِمَا قال سعْدٌ فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «كَذَبَ سَعْدٌ ولكِنْ هذا يومٌ يُعَظِّمُ الله فيه الْكَعْبةَ ويومٌ تكْسَى فيه الْكَعْبَة» (رواه البخاري).
ثمَّ أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أنْ تُؤْخَذَ الرَّايةُ من سَعْدٍ وتُدفَعَ إلى ابْنِهِ قَيْسٍ ورأى أنَّها لم تَخرُج عن سعْدٍ خروجاً كاملاً إذ صارت إلى ابنِه، ثم مضَى صلى الله عليه وسلّم وأمَرَ أن تُرْكَزَ رايتُه بالْحَجُونِ ثُمَّ دَخَلَ مكةَ فاتحاً مُؤَزَّراً منصوراً قد طأطأ رأسَه تَواضُعاً لله عزَّ وجلَّ حَتَّى إنَّ جبْهَتَه تَكَادُ تَمسُّ رَحْلَه وهو يَقْرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] ويُرَجِّعُهَا وبعثَ صلى الله عليه وسلّم على إحدى المَجْنَبَتين خالدَ بنَ الْوَلِيدِ وعلى الأخْرَى الزُّبيرَ بنَ العَوَّامِ وقال: مَنْ دَخَلَ المسجد فهو آمِنٌ، ومَنْ دخلَ دارَ أبي سفيانَ فهو آمِنٌ، ومن دخلَ بيْتَه وأغْلَقَ بابَه فهو آمِنٌ، ثم مضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم حتى أتى المَسْجِدَ الْحَرَامَ فطافَ به على راحِلَتِهِ وكان حوْلَ البيتِ ستون وثَلاثُمائَةِ صَنَم، فَجَعَلَ صلى الله عليه وسلّم يطْعُنُها بقَوْس معه ويُقول: {جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإِسراء: 81] {جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (رواه مسلم) [سبأ: 49]، والأصنامُ تَتساقَطُ على وجوهِها،
ثم دَخَلَ صلى الله عليه وسلّم الكعبة فإذَا فيها صورٌ فأمَرَ بها فَمُحِيَتُ ثم صلَّى فيها فلَّما فرغَ دَارَ فيها وكبَّرَ في نَواحِيْها وَوَحَّدَ الله عزَّ وجلَّ، ثُمَّ وَقَفَ على باب الكعبةِ وقُريشٌ تَحْتَه ينْتَظِرُون ما يَفْعَلُ، فأخذَ بعِضَادَتِي الباب وقال: لا إِله إِلاَّ الله وحدَّه لا شريكَ له، لَهُ المُلْكُ وله الحمدُ وهو على كَلِّ شَيْءٍ قديرٌ، صَدَقَ وَعْدَه ونَصرَ عَبْدَه وهَزمَ الأحزابَ وحْدَه، يا مَعْشَر قُريش إنَّ الله قد أذهَبَ عَنكم نَخَوَةَ الجاهِليَّةِ وتَعَظُّمَها بالآباءِ، الناسُ مِنْ آدمَ وآدمُ من تُرابٍ {يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]. يا مَعْشرَ قريشٍ، ما تَظُنُّونَ أني فاعِلٌ بكُمْ؟ قالوا: خيراً أخٌ كرِيمٌ، وابنُ أخٍ كريم، قال: فإنِّي أقُول لكم كما قال يوسفُ لإخوَتِه {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَحِمِينَ} [يوسف: 92] إذْهَبُوا فَأنْتم الطُّلَقَاء (صحيح البخاري).
ولما كان اليومُ الثاني من الفتح قام النبيُّ صلى الله عليه وسلّم خطيباً في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله حرم مكة ولم يحرمْها الناس فلا يحلٌ لأمرئ يؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دماً ولا يعضدَ بها شجرةً، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقولوا: إن الله أذنَ لرسولِه ولم يأذنْ لكم وإنما أذنَ لي فيها ساعةً من نهارٍ، وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتِها بالأمس، فَلْيُبَلِّغ الشاهدُ الغائب (رواه البخاري). وكانت الساعةُ التي أُحلِّتْ فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلّم من طلوعِ الشمس إلى صلاةِ العصرِ يومَ الفتح (رواه أحمد)، ثم أقامَ صلى الله عليه وسلّم تسعةَ عشرَ يوماً بمكةَ يقصرُ الصلاةَ ولم يصمْ بقيةَ الشهرِ (رواه البخاري مفرقا) لأنه لم ينوِ قطعَ السفرِ. أقامَ كذلك لتوطيدِ التوحيدِ ودعائمِ الإِسلام وتثبيتِ الإِيمان ومبايعةِ الناسِ. وفي الصحيح عن مجاشع قال: أتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح ليبايعَه على الهجرةِ فقال صلى الله عليه وسلّم: ذهبَ أهلُ الهجرةِ بما فيها ولكنْ أبايعَه على الإِسلامِ والإِيمانِ والجهادِ.
وبهذا الْفَتحِ المُبِين تمَّ نصرُ الله ودخل الناس في دينِ الله أفواجاً، وعادَ بلدُ الله بلداً إسلاميَّاً أعْلِنَ فيه بتَوْحِيْدِ الله وتصديق رسولِه وتحكيم كتابِه، وصارتِ الدولَةُ فيه لِلْمُسْلمينِ، وانْدَحَرَ الشركُ وتَبَدَّدَ ظلامُه، واللهُ أكبرُ وللهِ الْحَمْدُ وَذَلِكَ مِنْ فضلِ الله على عبادِه إلى يوم القيامةِ.
اللَّهُمَّ أرزُقْنا شُكْرَ هذه النعمةِ العظيمةِ، وحقِّق النِّصر للأمَّةِ الإِسلاميةِ كلَّ وقتٍ في كلِّ مكانٍ، واغفِرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرحَمَ الراحمينَ وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-12-2018, 04:17 PM
المجلس العشرون: في أسباب النصر الحقيقية
الحمدُ لله العظيمِ في قَدْرِه، العزيزِ في قهْرِه، العالمِ بحالِ العَبْدِ في سِرِّه وجَهْرِه، الجائِدِ على المُجَاهدِ بِنَصْرِه، وعلى المتَواضِعِ من أجْلِهِ بِرَفْعِه، يسمعُ صَريفَ القلمِ عند خطِّ سَطْرِه، ويرى النَّملَ يدبُّ في فيافي قَفْرِه، ومِن آياتِه أنْ تقوم السَماءُ والأرضُ بأَمْرِه، أحْمَدُهُ على القَضَاءِ حُلْوِه ومُرِّه، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له إقامةً لِذْكْرِهِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ بالبِرِّ إلى الخلْقِ في بّره وبَحْرِه، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبِه أبي بكرٍ السابقِ بما وَقَرَ من الإِيمانِ في صَدْرِه، وعلى عُمَر مُعزِّ الإِسلامِ بَحَزْمِه وقهرهِ، وعلى عثمانَ ذِي النُّورَينِ الصابِر من أمره على مُرِّه، وعلى عليٍّ ابن عمِّه وصِهْرِه، وعلى آلِهِ وأصحابه والتابعينَ لهم بإِحسانٍ ما جاد السحابُ بقطْرِه، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لقد نصرَ الله المؤمنينَ في مَواطنَ كثيرةٍ في بدرٍ والأحزابِ والفتحِ وحُنينٍ وغيرها، نصرَهُمُ اللهُ وفاءً بِوَعدِه {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ} [الروم: 47] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَءَامَنُواْ فِى الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّلِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 51، 52]. نَصرَهُمُ اللهُ لأنهم قائمونَ بدينِه وهو الظَّاهرُ على الأديانِ كلِّها، فمن تمسك به فهو ظاهرٌ على الأممِ كلِّها {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. نصَرَهم اللهُ تعالى لأنهم قاموا بأسبابِ النصرِ الحقيقيَّةِ المادَيةِ منها والمَعْنَويةِ، فكان عندهم من العَزْمِ ما بَرَزُوا به على أعْدائهم أخذاً بتوجيه اللهِ تعالى لَهُم وتَمشِّياً مع هديهِ وتثبيتِه إياهم {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 139، 140] {وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 104] {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ * إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 35، 36]. فَكانوا بهذِه التَّقْويَةِ والتثبيتِ يَسِرونَ بِقُوةٍ وعزْمٍ وجِدٍّ وأخَذُوا بكِلَّ نصيبٍ من القُوة امتثالاً لقولِ ربِّهم سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] من القُوَّةِ النفسيةِ الباطنةِ والقوةِ العسكريةِ الظاهرة. نصرهم الله تعالى لأنهم قامُوا بنصر دينِه {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41]. ففي هاتين الآيتين الكريمتين وعدَ اللهُ بالنصر من ينصرُه وعداً مؤكداً بمؤكدات لفظية ومَعنوية، أما المؤكدات اللفظية فهي القسمُ المقدَّرُ لأنَّ التقديرَ واللهِ لينصرنَّ اللهُ مَنْ ينصرُهُ وكذلك اللامُ والنونُ في «وَلَيَنصُرَنَّ» كلاهُما يفيدُ التوكيدَ، وأمَّا التوكيدُ المعنويُّ ففي قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ} فهو سبحانه قَويٌّ لا يضْعُفُ وعزيزٌ لا يُذَلُّ وكلُّ قوةٍ وعزةٍ تُضَادُّهُ ستكونُ ذُلاً وضعفاً وفي قولِه: {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} تثبيتٌ للمؤمِنِ عندما يسْتَبعِدُ النصر في نَظَره لِبُعد أسبابِه عندَه فإنَّ عواقبَ الأمورِ لله وحْدَهُ يغَيِّر سبحانَه ما شاءَ حَسْبَ ما تَقْتَضِيه حكمَتُه. وفي هاتين الايتين بيانُ الأوْصافِ التي يُستحقُّ بها النصرُ وهي أوصافٌ يَتَحَلَّى بها المؤمنُ بعدَ التمكين في الأرضِ، فلا يُغْرِيه هذا التمكينُ بالأشَرِ والْبَطرِ والعلوِّ والفسادِ، وإنما يَزيدُه قوةً في دين الله وتَمسُّكاً به.
الوصفُ الأول: {الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ} [الحج: 41] والتمكينُ في الأرض لا يكونُ إلاّ بعْدَ تحقيق عبادةِ الله وحْدَه كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً} [النور: 55]. فإذا قام العبدُ بعبادَةِ الله مخلصاً له في أقْوَالِه وأفعالِه وإرادَتِه لا يريدُ بها إلا وجه الله والدار الاخرة ولا يريد بها جاهاً ولا ثناءً من الناسِ ولا مالاً ولا شيئاً من الدُّنيا، واستمَرَّ على هذِه العبادة المخْلصة في السَّراء والضَراءِ والشِّدةِ والرَّخاءِ، مكَّنَ الله له في الأرض. إذَنْ فالتمكينُ في الأرضَ يستلزمُ وصفاً سابقاً عليه وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له.
وبعد التمكين والإِخلاص يَكُونُ: الوصفُ الثاني: وهو إقامةُ الصلاةِ بأن يؤدِّيَ الصلاة على الوجهِ المطلوب منه قائماً بشروطِها وأركانِها وواجباتِها وتمامُ ذلك القيامُ بمُسْتَحَبَّاتِها، فيحسنُ الطُّهورَ، ويقيمُ الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ، ويحافَظُ على الوقتِ وعلى الجمعةِ والجماعاتِ، ويحافظُ على الخشوعِ وهو حضورُ القلبِ وسكونُ الجوارح، فإِنَّ الخشوعَ رُوحُ الصلاةِ ولُبُّها، والصلاةُ بدونِ خشوعٍ كالجسمِ بدون روحٍ، وعن عمار بن ياسرٍ رضي الله عنه قال سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «إنَّ الرجل لينصرفُ وما كتِب له إلاَّ عُشْرُ صلاتِهِ تُسْعُها ثُمنْها سُبْعُها سُدسُها خُمْسُها ربْعُها ثلْثُها نصفها»، رواه أبو داود والنسائي .
الوصفُ الثالث: إيتاءُ الزكاةِ {وَآتُواْ الزَّكَوةَ} بأن يعْطوُهَا إلى مستحقِّيها طِّيبةً بها نفوسُهم كاملةً بدونِ نقصٍ يبتغُون بذلك فضلاً من الله ورضواناً، فيُزكُّون بذلك أنفسَهُم ويطهِّرون أموالَهم وينفعونَ إخوانهم من الفقراءِ والمساكينِ وغيرهم من ذوي الحاجات، وقد سبقَ بيانُ مُسْتحِقَّي الزكاةِ الواجبةِ في المجلِسِ السابعَ عَشر.
الوصفُ الرابعُ: الأمر بالمعروفِ {وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ} والمعروفُ كلُّ ما أمرَ اللهُ به ورسولُه من واجباتٍ ومستحبات، يأمرون بذلك إحياءَ لشريعةِ اللهِ وإصلاحاً لعباده واستجلاباً لرحمتِهِ ورضوانِهِ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيِان يشدُ بعضُه بعضاً، فكما أنَّ المؤمنَ يحبُّ لنفسِهِ أَنْ يكونَ قائماً بطاعَةِ ربِّه فكذلك يجبُ أن يحبَّ لإِخوانِه من القيام بِطاعةَ الله ما يحبُّ لنفسه، والأمرُ بالمعروفِ عن إيمانٍ وتصديقٍ يستلزمُ أن يكونَ الامرُ قائماً بما يأمرُ به لأنه يأمرُ به عن إيمانٍ واقتناعٍ بفائدتِهِ وثمراتِهِ العاجلة والآجلةِ.
الوصفُ الخامسُ: النَّهيُ عن المنكرِ {وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ} والمُنْكَرُ كلُّ ما نهى اللهُ عنه ورسولُه من كبائر الذنوبِ وصغائِرِها مما يتعلقُ بالعبادةِ أو الأخلاقِ أو المعاملةِ ينْهونَ عن ذلك كلِّه صِيانةً لدينِ الله وحمايةً لِعباده واتقاءً لأسْبابِ الفسادِ والعقوبةِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنَهْيُ عن المنكر دعَامَتَانِ قَوِيَّتانِ لبقاءِ الأمَّةِ وعزتِها ووحْدَتِها حتى لا تتفرَّق بها الأهواءُ وتَشَتَّتَ بها المسالكُ، ولذلك كانَ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من فرائِضِ الدين على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ مع القدرةِ {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105]. فَلَوْلا الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر لتَفَرَّق الناسُ شِيعاً وتمزَّقوا كل ممزَّق كلُّ حزبٍ بما لَدَيْهِمْ فرحون، وبه فُضِّلت هذه الأمةُ على غيرها {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. وبتَركه {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة: 78، 79].
فهذه الأوصافُ الخمسةُ متى تحقَّقتْ مع القيامِ بما أرشدَ الله إليه من الْحَزمِ والعزيِمَةِ وإعْدادِ القُوَّةِ الحسيَّة حصل النصرُ بإذنِ الله {وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الأَخِرَةِ هُمْ غَفِلُونَ} [الروم: 6، 7]. فيَحْصَلُ للأمَّةِ من نصْر الله ما لَمْ يخْطُرْ لهم على بالٍ، وإن المؤمنَ الواثقَ بوعدِ الله ليَعْلمُ أنَّ الأسباب المادِّيةَ مَهْما قويَتْ فليستْ بشيء بالنسبةِ إلى قُوةِ الله الذي خلقها وأوْجَدَها، افْتَخَرَتْ عادٌ بقوَّتِها وقالُوا منْ أشدُّ منا قوةً فقال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الأَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} [فصلت: 15، 16].
وافْتَخر فرعونُ بمُلكِ مصْرَ وأنْهَاره التي تْجري مِنْ تحته فأغرقَه الله بالماءِ الَّذِي كان يفْتَخرُ بِمثْلِهِ وأوْرث مُلْكهُ مُوسى وقومَه وهو الَّذِي في نظر فرعونَ مَهِيْن ولاَ يكادُ يُبِين، وافتَخرت قريشٌ بعظَمتها وَجَبروتِها فخرجوا من ديَارِهم برؤسائِهم وزعمائِهم بطراً ورِئاءَ الناس يقولون لا نَرْجعُ حتى نقدمَ بَدْراً فننحرَ فيها الجزور ونَسْقِيَ الخمورَ وتعزفَ الْقِيانُ وتسمعَ بنا العربُ فلا يزالُون يهابوننَا أبداً. فَهُزمُوا على يد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه شرَّ هزيمةٍ، وسُحبت جثثُهم جِيفاً في قليبِ بدرٍ، وصاروا حديثَ الناس في الذُّلِّ والهوانِ إلى يوم القيامةِ. ونحنُ المسَلمين في هذا العصرِ لو أخَذْنَا بأسباب النصرِ وقُمْنَا بواجبِ دينِنا وكنَّا قدوةً لا مُقْتَدين ومتبوعِين لا أتباعاً لِغَيرنا وأخَذْنَا بوسائِل الحرب الْعَصْريَّةِ بصدقٍ وإخلاصٍ لنصَرنَا الله على أعدائنا كما نصر أسلافَنا. صدقَ الله وعْدَه ونصر عَبْدَه وهزَمَ الأحزابَ وحْدَه. {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح: 23].
اللَّهُمَّ هييء لنا منْ أسبابِ النصرِ ما به نَصْرُنَا وعزتُنا وكرامتُنا ورفعةُ الإِسلام وذُل الكفرِ والعصيانِ إنك جوادٌ كريمُ وصلَّى الله وسلَّم على نبِينا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمَعين.
-قمر الليالي-
06-13-2018, 04:12 PM
المجلس الحادي والعشرون: في فضْل العشر الأخيرة من رمَضانُ
الحمدُ لله المتفردِ بالجلالِ والبقاء، والعظمةِ والكبرياء، والعزِّ الَّذِي لا يُرام، الواحد الأحدِ، الرب الصمدِ، الملِكِ الَّذِي لا يحتاجُ إلى أحَد، العليِّ عن مُداناةِ الأوهام، الجليل العظيم الَّذِي لا تدركُه العقولُ والأفْهامُ، الغنيِّ بذاتِه عن جميعِ مخلوقاتِه، فكلُّ مَنْ سواه مفتقرٌ إليه على الدَّوامَ، وَفَّقَ مَنْ شاء فأمَنَ به واستقام ثم وَجَدَ لذة مناجاةِ مولاهُ فَهَجَر لذيذَ المنام، وصَحِب رُفقةً تتجافى جنوبُهم عن المضَاجع رغبةً في المقام، فَلَوْ رأيتَهم وَقَدْ سارتْ قوافلُهم في حَنْدسِ الظَّلام، فواحدٌ يسْأَلُ العفَو عن زَلَّته، وآخَرُ يشكو ما يجدُ من لَوْعَتِهِ، وآخَرُ شَغله ذِكْرُه عن مسألتِه، فسبحانَ من أيْقَظَهُمْ والناسُ نيام، وتبارك الَّذِي غَفَرَ وعفَا، وستَر وكَفَى، وأسْبَل على الكافةِ جميعَ الإِنعام، أحمده على نَعمِهِ الجِسام، وأشكرهُ وأسألُه حفظَ نعمةِ الإِسلامِ،
وأشْهَدُ أن لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لاَ شريكَ لَهُ عَزَّ منْ اعتز به فلا يُضَام، وَذلَّ مَنْ تكبَّر عن طاعتِهِ ولَقِي الاثام، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي بَيَّنَ الحلالَ والحرام، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ الصدِّيق الَّذِي هو في الْغَارِ خيرُ رفيق، وعلى عمَر بنِ الخطَّاب الَّذِي وُفِّقَ للصواب، وعلى عثمان مصابِر الْبَلا ومن نال الشهادة العظمى مِنْ أيْدِي العدا، وعلى ابنِ عمَّه عليٍّ بن أبي طالب وعلى جميعِ الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ مَا غابَ في الأفقِ غَارِب، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لَقَدْ نَزَل بكم عشرُ رمضانَ الأخيرةُ، فيها الخيراتُ والأجورُ الكثيرة، فيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائصُ المذكورةُ.
فمنْ خصائِصها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ بالعملِ فيها أكثرَ مِن غيرها، ففي صحيح مسلم عن عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخِرِ ما لا يجتهدُ في غيره. وفي الصحيحين عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا دخلَ العَشرُ شَدَّ مِئزره وأحيا ليلَه وأيقظ أهلَه. وفي المسند عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يَخْلِطُ العِشْرين بصلاةٍ ونومٍ فإذا كان العشرُ شمَّر وشدَّ المِئزرَ.
ففي هذه الأحاديث دليلٌ على فضيلةِ هذه العشرِ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يجتهدُ فيها أكثر مما يجتهدُ في غيرِهِا وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميع أنواع العبادةِ من صلاةٍ وقرآنٍ وذكرٍ وصدقةٍ وغيرِها؛ ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَشدُّ مئزرَه يعْني يعتزلُ نساءَه ليتفَرغَ للصلاةِ والذكرِ، ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلباً لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَاً واحتساباً غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه. وظاهِرُ هذا الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلّم يُحْيِي الليلَ كلَّه في عبادةِ ربِّه مِنَ الذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والاستعدادِ لذلِكَ والسحورِ وغيرها، وبهذا يحْصُلُ الجمْعُ بَيْنَه وبينَ مَا في صحيح مسلمٍ عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما أعْلَمُهُ صلى الله عليه وسلّم قَامَ ليلةً حتى الصباحِ، لأنَّ إحياءَ الليل الثَّابتَ في العشرِ يكونُ بالقيامِ وغيرِه مِنْ أنْواعِ العبادةِ والَّذِي نَفَتْه إحياءُ الليلِ بالقيامِ فَقَطْ. والله أَعلم.
وممَّا يدُلُّ على فَضيلةِ العشرِ من هذه الأحاديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يُوقِظُ أهلَه فيها للصلاةِ والذكرِ حِرْصاً على اغتنام هذه الليالِي المباركةِ بِما هي جديرةٌ به من العبادةِ فإنَّها فرصةُ الْعُمرِ وغنيمةُ لمنْ وفَّقه الله عزَّ وجلَّ، فلا ينبغِي للمؤمن العاقلِ أنْ يُفَوِّت هذه الفرصةَ الثمينةَ على نفسِه وأهلِه فما هي إلاَّ ليَالٍ معدودةٌ ربَّمَا يدركُ الإِنسانُ فيها نفحةً من نَفَحَاتِ المَوْلَى فتكونُ سعادةً له في الدنيا والآخرةِ. وإنه لمِنَ الحرمانِ العظيمِ والخسارةِ الفادحةِ أنْ تَرى كثيراً مِنَ المسلمينَ يُمْضُونَ هذه الأوقاتَ الثمينة فيما لا ينفعُهم، يَسْهَرُونَ مُعْظَمَ الليلِ في اللَّهوِ الباطلِ، فإذا جاء وقتُ القيام نامُوا عنه وفوَّتُوا على أنفسهم خيراً كثيراً لعَلَّهُمْ لا يَدركونَه بعد عامِهم هَذَا أبَداً، وهذا من تلاعُبِ الشيطانِ بِهم ومَكْرهِ بهم وصَدِّهِ إياهُم عن سبيلِ الله وإغْوائِهِ لهم، قال الله تعالى: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَنٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]. والعاقلُ لا يتخذُ الشيطانَ ولِيّاً من دَونِ الله مع عِلْمِهِ بَعَدَاوَتِهِ لَهُ فإنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ للعقل والإِيمانِ. قَالَ الله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50]، وقال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
ومن خصائص هذه العشر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يعْتَكِفُ فيهَا، والاعتكافُ:
لُزُومُ المسجِد للتَّفَرُّغِ لطاعةِ الله عزَّ وجلَّ وهو من السنن الثابتة بكتاب الله وسنةِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وقد اعتكفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم واعتَكَفَ أصحابُه معه وبعْدَه، فَعَنْ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اعتَكَفَ العشرَ الأوَّلَ من رمضانَ ثم اعتكف العشر الأوسْط ثم قال: «إني اعتكِفُ العشرَ الأوَّل الْتَمِسُ هذه الليلةَ، ثم أعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ، ثم أُتِيْتُ فقيل لي: إنها في العشرِ الأواخرِ، فمن أحبَّ منكم أنْ يعتكِفَ فَلْيَعْتكفْ» (الحديث) رواه مسلم.
وفي الصحيحين عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ العشرَ الأواخرِ مِنْ رمضانَ حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ. ثم اعتكف أزواجُه مِن بعدِه. وفي صحيح البخاريِّ عنها أيضاً قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكفُ في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيامٍ. فلما كان العامُ الذي قُبِضَ فيه اعتكفَ عشرين يوماً، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يعتكِف العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ، فلم يعتكفْ عاماً، فلما كان العامُ المقبلُ اعتكفَ عشرينَ، رواه أحمد والترمذي وصححه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا أرادَ أن يعتكفَ صلَّى الفجرَ ثم دخل مَعْتَكَفَهُ فاستأذنَته عائشةُ، فإذِنَ لها، فضربتْ لها خِبَاءً، وسألت حفصة عائشةَ أنْ تستأذن لها، ففعلتْ، فضربتْ خِبَاءً، فلما رأتْ ذلك زينبُ أمَرَتْ بخباءٍ فضُرِبَ لها، فلما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم الأخْبِيَة قال: «ما هَذا؟» قالوا: بناءُ عائشةَ وحفصةَ وزينبَ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «آلبِرَّ أردْنَ بِهذا؟ انْزعُوها فلا أراها».
فنزعَتْ وترَك الاعتكاف في رمضانَ حتى اعتكف في العشر الأول من شوَالٍ. مِنْ البخَاريِّ ومسلم في رواياتٍ. وقال الإِمامُ أحمدُ بنُ حنبلَ رحمه الله: لا أعْلَمُ عن أحدٍ من العلماءِ خلافاً أنَّ الاعتكافَ مَسْنونٌ.
والمقصود بالاعتكاف: انقطاعُ الإِنسانِ عن الناسِ لِيَتَفَرَّغَ لطاعةِ الله في مسجدٍ من مساجِده طلباً لفضْلِهِ وثوابِهِ وإدراكِ ليلة القَدْرِ، ولذلك ينْبغِي للمعتكفِ أنْ يشتغلَ بالذكرِ والقراءةِ والصلاةِ والعبادةِ، وأن يتَجنَّب ما لا يَعْنِيه من حديثِ الدنيَا ولا بأسَ أنْ يتحدثَ قليلاً بحديثٍ مباحٍ مع أهْلِه أو غيرهم لمصلحةٍ، لحديث صَفِيَّةَ أمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معتكفاً فأتَيْتُه أزورُه ليلاً فحدثتُه ثم قمتُ لأنْقَلِبَ (أي لأنصرفَ إلى بيتي) فقامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم معِي» (الحديث) متفق عليه.
ويحرُمُ على المعتكفِ الجِماعُ ومُقَدَّمَاتُه من التقبيلِ واللَّمسِ لشهوةٍ لقولِه تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وأمَّا خُروجُه من المسجدِ فإنْ كان بِبَعْض بدنِه فلا بأسَ به لحديث عائشة رضي الله عنها قالتْ: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يُخرجُ رأسَه مِنَ المسجِدِ وهو معتكفٌ فأغسله وأنا حائض»، رواه البخاري. وفي رواية: «كانت تَرجّل رأس النبيَّ صلى الله عليه وسلّم وهي حائضٌ وهو معتكف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه»، وإن كان خروجه بجميع بدنه فهو ثلاثة أقسام:
الأوَّلُ: الخروجُ لأمرٍ لا بُدَّ منه طبعاً أوْ شرعاً كقضاءِ حاجةِ البولِ والغائِط والوضوءِ الواجبِ والغُسْلِ الواجِب لجنابَةٍ أوْ غيرها والأكلِ والشربِ فهذا جائزٌ إذا لم يُمْكنْ فعْلُهُ في المسجدِ فإنْ أمكنَ فِعُلُه في المسجدِ فلاَ. مثلُ أنْ يكونَ في المسجدِ حَمَّامٌ يمكنُه أنْ يقضيَ حاجتَه فيه وأن يغتسلَ فيه، أوْ يَكونَ له من يأتِيْهِ بالأكِل والشربِ فلا يخرجُ حينئذٍ لعدمِ الحاجة إليه.
الثاني: الخروج لأمْر طاعةِ لا تجبُ عليهِ كعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ ونحو ذلك فلايفعله إلاَّ أنْ يشترطَ ذلك في ابتداءِ اعتكافِه مثل أن يكون عنده مريض يحب أن يعودَه أو يخشى من موته فيشترط في ابتداء اعتكافه خروجَه لِذَلِكَ فلا بأْسَ به.
الثالث: الخروجُ لأمْرٍ ينافي الاعتكافَ كالخروج للبيعِ والشراءِ وجماعِ أهْلِهِ ومباشرتِهم ونحو ذلك، فلا يفعله لا بشرطٍ ولا بغيرِ شرطٍ، لأنه يناقضُ الاعتكافَ وينافي المقصودَ منه.
ومن خصائِص هذه العشر أنَّ فيها ليلةَ الْقَدْرِ التي هي خيرٌ من ألفِ شهرٍ فاعْرفوا رحمكم الله لهذه العشر فَضْلَها ولا تضيِّعُوها، فوَقْتُها ثمينٌ وخيرُها ظاهِرٌ مبينٌ.
اللَّهُمَّ وفقْنَا لِمَا فيهِ صلاحُ دينِنا ودنيانَا، وأحْسِنْ عاقَبَتَنا وأكْرِمْ مثَوانا، واغفر لنَا ولوالِدِينَا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ وصَلَّى الله وسلّم على نبيِّنا محمدٍّ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-13-2018, 04:22 PM
المجلس الثاني والعشرون: في الاجتْهاد في العشر الأواخر ولَيْلَة القدر
الحمدُ لله عالمِ السِّر والجهر، وقاصِمِ الجبابرةِ بالعزِّ والقهر، مُحْصِي قطراتِ الماءِ وهو يَجْرِي في النَّهْر، وباعثِ ظلامِ الليلِ ينسخُه نورُ الفجر، موِفِّر الثواب للعابدِينَ ومكملِّ الأجْر، العَالمِ بخَائَنَةِ الأعينِ وخافية الصدر، شَمل برزقِه جميعَ خلقِه فلَم يْترُكِ النملَ في الرَّمْلِ ولا الفرخَ في الْوَكر، أغنى وأفْقَرَ وبحِكْمَتِهِ وقوع الغِنَى والفَقر، وفَضَّل بعضَ المخلوقاتِ على بعض حتى أوقاتَ الدَّهر، لَيلةُ القدْر خيرٌ مِنْ ألفِ شهر، أحمدُه حمداً لا مُنتَهى لعَدَدِه، وأشكره شكراً يسْتجلِبُ المزيدَ من مَددِه، وأشهد أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةَ مخْلِص في مُعْتَقَده، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الَّذِي نَبع الماءُ منْ بينَ أصابع يدِه صلى الله عليه وسلّم وعلى أبي بكرٍ صاحبه في رخائِه وشدائده، وعلى عمرَ بن الخطاب كهْفِ الإِسلامِ وعَضُدِه، وعلى عثمانَ جامِع كتاب الله ومُوحِّدِه، وعلى عليٍّ كافي الحروبِ وشجعَانِها بِمُفْرَدِه، وعلى آلِهِ وأصحابِه المحسنِ كلٌ منهمْ في عملِه ومقصِده، وسلَّم تسليماً.
إخواني: في هذِه العشرِ المباركة ليلةُ القَدْرِ الَّتِي شرَّفها الله على غيرها، ومَنَّ على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشادَ الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَهُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبِّ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْىِ وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّءَابَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ} [الدخان: 3 - 8]. وصفَها الله سبحانَه بأنها مباركةٌ لكَثْرةِ خيرِها وبَركتِها وفضلها، فمِن بركتها أنَّ هذا القرآنَ المباركَ أُنْزِلَ فيها ووصَفَها سبحانَه بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم، يعني يفصَل من اللوح المحفوظِ إلى الْكَتَبةِ ما هو كائنٌ مِنْ أمرِ الله سبحانَه في تلك السنةِ من الأرزاقِ والآجالِ والخير والشرِّ وغير ذلك من كلِّ أمْرٍ حكيمٍ من أوامِر الله المُحْكَمَةِ المتْقَنَةِ التي ليس فيها خَلَلٌ ولا نقصٌ ولا سَفَهٌ ولا باطلٌ ذلك تقديرُ العزيز العليم. وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَمٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 1 - 5]. الْقَدرُ بمعنَى الشرفِ والتعظيم أوْ بمعنى التقديرِ والقضاءِ؛ لأنَّ ليلةَ القدر شريفةٌ عظيمةٌ يقدِّر الله فيها ما يكون في السنةِ ويقضيهِ من أمورِهِ الحكيمةِ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يعني في الفضل والشرفِ وكثرةِ الثواب والأجر ولذلك كانَ مَنْ قامَهَا إيماناً واحتساباً غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه. {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} الملائكة عبادٌ من عباد الله قائمون بعبادته ليلاً ونهار {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19، 20] يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة {وَالرُّوحُ} هو جبريل عليه السلام خصَّه بالذكر لشرفه وفضله. {سَلَامٌ هِىَ} يعني أن ليلة القدر ليلةُ سلامَ للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتقُ فيها من النار، ويَسْلمُ مِنْ عذابِها. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} يعني أن ليلة القدرِ تنتهي بطلوعِ الفجرِ لانتهاءِ عملِ الليلِ به، وفي هذه السورةِ الكريمةِ فضائلُ متعددةٌ لليلةِ القدرِ:
الفضيلةُ الأولى: أن الله أنزلَ فيها القرآنَ الَّذِي بهِ هدايةُ البشرِ وسعادتُهم في الدُّنَيا والاخرِهِ.
الفضيلةُ الثانيةُ: ما يدُل عليه الاستفهامُ من التفخيم والتعظيم في قولِه: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}.
الفضيلةُ الثالثةُ: أنَّها خيرٌ مِنْ ألفِ شهرٍ.
الفضيلةُ الرابعةُ: أنَّ الملائكةَ تتنزلُ فيها وهُمْ لاينزلونَ إلاَّ بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ.
الفضيلةُ الخامسةُ: أنها سَلامٌ لكثرةِ السلامةِ فيها من العقابِ والعذابِ بما يقوم به العبدُ من طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الفضيلة السادسةُ: أنَّ الله أنزلَ في فضِلِها سورةٌ كاملةً تُتْلَى إلى يومِ القيامةِ.
ومن فضائل ليلةِ القدرِ ما ثبتَ في الصحيحين من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «من قَامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه»، فقوله إيماناً واحتساباً يعني إيماناً بالله وبما أعدَّ اللهُ من الثوابِ للقائمينَ فيهَا واحتساباً للأجرِ وطلب الثواب.
وهذا حاصلٌ لمنْ علِمْ بها ومَنْ لم يعلَمْ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم لَمْ يَشْترطِ العلمَ بهَا في حصولِ هذا الأجر.
وليلةُ القدرِ في رمضانَ، لأنَّ الله أنزلَ القرآنَ فيهَا وقد أخْبَرَ أنَّ إنزالَه في شهرِ رمضانَ، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وقال: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185]. فبهذا تَعَيَّن أنْ تكونَ ليلةُ القدرِ في رمضانَ، وهي موجودةٌ في الأمَم وفي هذه الأمةِ إلى يومِ القيامةِ لما روى الإِمامُ أحْمَدُ والنسائيُّ عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال: «يا رسولَ الله أخْبرنِي عن ليلةِ القَدْرِ أهِي في رمضانَ أمْ في غيرهِ؟ قال: بلْ هِي في رمضانَ. قال: تكونُ مع الأنبياءِ ما كانُوا فإذا قُبِضُوا رُفِعَتْ أمْ هي إلى يومِ القيامةِ؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة» (رواه أيضا الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) (الحديث). لَكِنْ فضلُها وأجْرُها يختَصُّ والله أعَلْمُ بهذه الأمةِ كما اختصتْ هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل ولله الحمدِ.
وليلةُ القَدْر في العشر الأواخر من رمضانَ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تَحَرِّوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخر من رمضانَ»، متفقٌ عليه. وهي في الأوْتار أقْرب من الأشفاعِ لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «تحروا ليلةَ القدرِ في الْوِترِ من العشرِ الأواخر من رمضان»، رواه البخاري. وهي في السَّبْعِ الأواخرِ أقْرَبٌ، لحديث ابنِ عمر رضي الله عنهما أنَّ رجالاً من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أُرُوا ليلةَ القدرِ في المنام في السبعِ الأواخر فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أرَى رُؤياكُمْ قد تواطأت (يعني اتفقت) في السبعِ الأواخرِ فمن كانَ مُتَحرِّيَها فَلْيتحَرَّها في السبعِ الأواخرِ»، متفق عليه. ولمسلم عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «التمِسُوَها في العشر الأواخر (يعني ليلةَ القدْرِ) فإن ضعف أحدُكم أو عجز فلا يُغْلَبَنَّ على السبعِ البواقِي». وأقربُ أوْتارِ السبعِ الأواخرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ لحديثِ أبيِّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «والله لأعلم أيُّ ليلةٍ هي الليلةُ التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقيامِها هي ليلةُ سبعٍ وعشرينَ»، رواه مسلم. ولا تَخْتَصُّ ليلةُ القدرِ بليلةٍ معينةٍ في جميعِ الأعوامِ بل تَنتَقِّلُ فتكونُ في عامٍ ليلةَ سبع وعشرينَ مثلاً وفي عام آخرَ ليلة خمسٍ وعشرينَ تبعاً لمشيئةِ الله وحكمتِه، ويدُلُّ على ذلك قولُه صلى الله عليه وسلّم: «الُتمِسُوها في تاسعةٍ تبقى في سابعةٍ تبقَى في خامسةٍ تبقَى»، رواه البخاري. قال في فتح الباري: أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشرِ الأخيرِ وأنها تَنْتَقِلُ. اهـ.
وقد أخُفَى الله سبحَانه عِلْمَها على العبادِ رحمةً بهم ليَكْثُر عملُهم في طلبها في تلك الليالِي الفاضلةِ بالصلاةِ والذكرِ والدعاءِ فيزدادُوا قربةً من الله وثواباً، وأخفاها اختباراً لهم أيضاً ليتبينَ بذلك مَنْ كانَ جادَّاً في طلبها حريصاً عليها مِمَّنْ كانَ كسلانَ متهاوناً، فإنَّ مَنْ حرصَ على شيءٍ جدَّ في طلبِه وهانَ عليه التعبُ في سبيلِ الوصولِ إليهِ والظَفر به، وربَّما يظهرُ اللهُ عِلْمَهَا لبعضِ الْعبَادِ بأماراتٍ وعلاماتٍ يرَاهَا كما رأى النَبيُّ صلى الله عليه وسلّم علامتَها أنه يسجُدُ في صبيحتِها في ماءٍ وطينٍ فنزل المطرُ في تلك الليلةِ فسجد في صلاةِ الصبحِ في ماءٍ وطينٍ.
إخواني: ليلةُ القدرِ يُفْتح فيها الْبَاب، ويقرَّبُ فيها الأحْبَابُ، ويُسْمَع الخطابُ، ويردُّ الجواب، ويُكْتَبُ للعاملينَ فيها عظيمُ الأجرِ، ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألف شَهْر، فاجتهدُوا رحمكم الله في طلبِها، فهذَا أوانُ الطَّلب، واحذَرَوا من الغفلةِ ففي الغفلة العَطَب.
تَوَلَّى العُمُر في سهو ... وفي لَهْوٍ وفي خُسْر
فيا ضيعةَ ما أَنْفَقْـ ... ـتُ في الأيام من عُمْري
وما لِي في الَّذِي ضيَّعْـ ... ـتُ من عمريَ من عُذْرِ
فما أغْفَلَنَا عن واجبـ ... ـاتِ الحمدِ والشكرِ
أمَا قد خَصَّنا اللهُ ... بشهرٍ أيِّما شهرِ
بشهرٍ أنْزَلَ الرحمـ ... ـنُ فيهِ أشرفَ الذِّكْرِ
وهل يُشبِهُه شهرٌ ... وفيه ليلةُ القدرِ
فكمْ مِنْ خَبرٍ صَحَّ ... بما فِيها من الخير
رَوَيْنَا عن ثقاتٍ أنَّهـ ... ـا تُطْلَبُ في الوِتر
فطُوبى لأمْرىءٍ يطلُـ ... ـبُهَا في هِذِه العَشرِ
فَفِيْهَا تنزلُ الأملاكُ ... بالأنوار والبرِ
وقد قَالَ سلامٌ هيَ ... حتى مَطْلعِ الفجرِ
ألاَ فادَّخِروها إنِّـ ... ـها من أنْفَسِ الذُّخر
فكمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيها ... من النارِ ولا يَدْرِي
اللَّهُمَّ اجْعلْنَا ممن صامَ الشهر، وأدركَ ليلةَ القدرِ، وفاز بالثوابِ الجزيلِ الأجرِ.
اللَّهُمَّ اجْعلْنَا من السابقينَ إلى الخيراتِ، الهاربينَ عن المنكَرات، الآمنينَ في الغرفات، مع الَّذِينَ أنعمتَ عليهم وَوَقَيْتَهُمْ السيئاتِ، اللَّهُمَّ أعِذْنا من مُضلاَّتِ الفتنِ، وجنبنا الفواحشَ ما ظهَرَ منها وما بطَن.
اللَّهُمَّ ارزُقْنَا شكرَ نعمتِك وحسنَ عبادتكَ، واجْعلْنَا من أهل طاعتِك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنةً وفي الاخرة حسنةً وقنَا عذَابَ النار، واغفر لنَا ولوالِدِينا ولِجميعِ المسلمينَ برحمتك يا أرحمَ الرَّاحمين وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-14-2018, 03:57 PM
المجلس الثالث والعشرون: في وصف الجنة جعلنا الله من أهلها
الحمدُ لله مبلِّغ الراجِي فوق مأمولِه، ومعطي السائِل زيادةً على سُؤلِه، المنَّانِ على التائب بصَفحِه وقَبولِه، خَلق الإِنسانَ وأَنشأَ داراً لِحُلُولِه، وجعل الدنيا مرحلةً لِنُزولِه، فتوَطَّنها مَنْ لم يعرفْ شَرفَ الأخرى لخُمُوُلِه، فأخذَ منها كارهاً قبل بلوغِ مأموله، ولم يُغْنِه ما كسَبه من مالٍ وولدٍ حتى انهْزَم في فُلولِه، أوَ مَا تَرى غِربانَ الْبَين تَنُوحُ على طُلُولِه، أمَّا الموفَّقُ فَعَرَفَ غرورَها فلمْ ينخدِع بمُثُولِه، وسابَقَ إلى مغفرةٍ من الله وجنةٍ عرضُها السماء والأرضُ أعِدَّتْ للذينَ آمنوا بالله ورسولِه، وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ عارفٍ بالدليلِ وأصُولِه، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ما ترَدَّد النسيمُ بين شمالِه وجنوبِه ودَبُورِه وقَبولِه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكر صاحبِه في سفرِهِ وحلولِه، وعلى عمرَ حامِي الإِسلامِ بسيفٍ لا يخافُ من فُلولِه، وعلى عثمانَ الصابرِ على البلاءِ حينَ نزولِه، وعلى عليٍّ الماضِي بشجاعتِه قبلَ أن يصولَ بنصُولِه، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ ما امتَدَّ الدهرُ بِطُوله، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سارعُوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها كعرضِ السماءِ والأرض، فيها ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سمِعتْ ولا خَطرَ على قلبِ بشرٍ. قال الله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَرُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 53]، وقال تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [محمد: 15]، وقال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَذَا الَّذِى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَبِهاً وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25]، وقال تعالى: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً * وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً * عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَنٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً * وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإِنسان: 14 - 20]،
وقال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 10 - 16]، وقال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]، وقال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإِنسان: 21]، وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76]، وقال تعالى: {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإِنسان: 13]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى مَقَامٍ أَمِينٍ * فِى جَنَّتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍءَامِنِينَ} [الدخان: 51 - 55]، وقال تعالى: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَبٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [الزخرف: 70 - 74]،
وقال تعالى: {فِيهِنَّ قَصِرَتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 56 - 58]، وقال تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ * فَبِأَىِّءَالاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * حُورٌ مَّقْصُورَتٌ فِى الْخِيَامِ} [الرحمن: 70 - 72]، وقال تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، وقال تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} [يونس: 26]. فالْحُسنَى هي الجنةُ لأنَّهُ لا دارَ أحسنُ منها، والزيادةُ هي النظرُ إلى وجهِ الله الكريمِ رزقَنَا الله ذلك بِمنِّهِ وكرمِه. والآياتُ في وصفِ الجنةِ ونعيمها وسرورها وأنْسِهَا وحبُورِها كثيرةٌ جداً.
وأما الأحاديثُ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قُلْنَا: يا رسولَ الله حدِّثنَا عن الجنةِ ما بناؤُهَا قال: «لَبِنَةٌ ذهبٍ ولبنةٌ فضةٍ، ومِلاَطُها المسكُ، وحَصباؤها اللؤلؤُ والياقوتُ، وترابُها الزَعفرانُ، مَنْ يدخلُها ينعمُ ولا يبأسُ، ويخلُدُ ولا يموتُ، لا تَبْلَى ثيابه ولا يَفْنى شبابُه»، رواه أحمد والترمذي. وعن عِتَبةَ بن غزوانَ رضي الله عنه أنه خطَب فحمد الله وأثْنَى عليه، ثم قالَ: «أمَّا بعدُ فإن الدنيا قد آذَنَتْ بِصُرْمِ ووَلَّتْ حذَّاءَ ولم يبْقَ منها إلا صُبابةٌ كصُبابةِ الإِناء يصطبُّها صاحبُها،وإنَّكُمْ منتقِلونَ منها إلى دارٍ لا زوالَ لها فانتقلوا بخير ما يَحْضُرَنكُمْ. ولَقَدْ ذُكِرَ لنا أنَّ مِصراعينِ منْ مصاريعِ الجنةِ بيْنَهما مسيرةُ أربعينَ سَنَةً، وليأتِينَّ عليه يومٌ وهو كَظِيظٌ مِنَ الزحامِ»، رواه مسلم. وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «في الجنةِ ثمانيةُ أبوابٍ فيها بابٌ يسمَّى الريَّانَ لا يدخلُه إلا الصائمون»، متفق عليه. وعن أسامةَ بن زيدٍ رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ألاَ هَلْ من مُشَمِّرٍ إلى الجنةِ، فإنَّ الجنةَ لا خطر لها (أي لا مثيل له ولا عديل)، هي وَرَبِّ الكعبةِ نورٌ يَتَلأْلأُ وريحانةٌ تَهْتزُّ وقصرٌ مشِيدٌ ونهرٌ مطَّردٌ وثَمَرةٌ نضِيْجَةٌ وزوجةٌ حسناءُ جميلةٌ وحُلَلٌ كثيرةٌ ومُقَامٌ في أبدٍ في دارٍ سليمةٍ وفاكهةٌ وخضرةٌ وحَبْرةٌ ونعمةٌ في مَحَلَّةٍ عاليةٍ بهيَّةٍ، قالوا: يا رسولَ الله نحن المشمِّرون لها. قال: قولوا إنْ شاء الله. فقال القوم: إنْ شاء الله»، رواه ابن ماجةَ والبيهقيُّ وابنُ حبَّانَ في صحيحه (اسناده ضعيف).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنةِ مئة درجةٍ أعَدَّها الله للمجاهدِين في سبيلِه بينَ كلِّ درجتين كما بينَ السماءِ والأرض. فإذَا سألتُمُ الله فأسألُوه الفِرْدوسَ فإنَّهُ وسطُ الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجَّرُ أنهار الجنة وفوقَه عرشُ الرحمنِ»، رواه البخاريُّ وله عن أبي سعيدٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن أهْلَ الجنةِ يَتراءَوْنَ أهل الغرَفِ فوقَهم كما تَتَراءَوْنَ الكوكبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأفُق من المشرق أو المغرب لتفاضلِ ما بيْنَهم. قالوا: يا رسولَ الله تلك مَنازلُ الأنبياءِ لا يبلغُها غيرُهم قال: بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقُوا المرسلينَ». وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن في الجنةِ غُرَفاً يُرَى ظاهرُها من باطِنُها وباطنُها مِن ظاهرِها أعَدَّها الله لمَنْ أطْعَمَ الطعامَ وأدامَ الصيامَ وصلَّى بالليلِ والناس نيامٌ»، أخرجه الطبراني (1). وعن أبي موسَى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «إنَّ للمؤمِن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدةٍ مجوفة طولها في السماء ستون ميلاً للمؤمن فيها أهلُون يطوفُ علِيهمْ فلا يَرَى بعضُهم بعضاً»، متفق عليه.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ أوَّلَ زُمْرَةٍ تدخلُ الجَنةَ على صُورةِ القمر ليلةَ البدْرِ، ثم الذينَ يلونَهُمُ على أشَدِّ نجمِ في السماءِ إضاءةً، ثم همْ بعَدَ ذلك منازلُ لا يتَغَوَّطُونَ، ولا يبولُونَ، ولا يمتخِطون، ولا يبصُقون، أمشاطُهُم الذهبُ، ومجامِرُهم الأُلوَّة، ورشْحُهمُ المِسْكُ، أخلاقُهم على خَلْقِ رجلٍ واحدٍ على طولِ أبيْهم آدمَ ستُون ذِراعاً». وفي روايةٍ: «لا اختلافَ بينَهم ولا تباغِضَ، قلوبُهُم قلبٌ واحدٌ يسبِّحونَ الله بُكرةً وعشِياً». وفي روايةٍ: «وأزُواجُهُم الحورُ العِين». وله مِن حديث جابر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنةِ يَأكلُون فيها ويشْرَبُون ولا يتفُلُون ولا يبُولونَ ولا يَتَغَوَّطونَ ولا يمْتَخِطون، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: جُشاءٌ ورَشْحٌ كَرشحِ المسكِ يُلْهَمُونَ التسبيحَ والتحميدَ كما يُلْهَمُونَ النَّفس».
وعن زيدِ بن أرقمَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسُ محمدٍ بيدِه إن أحدَهُمْ (يعني أهل الجنةِ) ليُعْطَى قوةَ مئةِ رجلٍ في الأكل والشرب والجماعِ والشهوةِ تكون حاجةُ أحدهم رَشْحاً يفيض مِنْ جلودهم كرشْحِ المسْكِ فَيَضْمُر بطنه»، أخرجه أحمد والنسائي (1). وعن أنس رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لقاب قوسِ أحدِكم أو موضعِ قدمٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيهَا، ولَوْ أنَّ امرأةً من نساءِ الجنة اطلعتْ إلى الأرض لأضاءت ما بيْنَهُمَا ولملأت ما بينهما ريحاً ولنَصِيِفُها (يعني الخمارَ) خيرٌ من الدنيا وما فيها»، رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجنة لسُوقاً يأتونَها كُلَّ جمعةٍ فتَهبُّ ريحُ الشَّمالِ فتحثو في وجوهِهِم وثيابِهم فيزدادُونَ حُسناً وجَمَالاً، فيرجعونَ إلى أهلِيْهمْ فيقولُونَ لهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدَنا حسنا وجمالاً»، رواه مسلم. وله عن أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا دخل أهل الجنةِ الجنة ينادِي منادٍ: إن لكمْ أنّ تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أبداً وإن لكم أن تَحْيَوْا فلا تموتوا أبداً، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تَهرموا أبداً. وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً وذلك قولُ الله عز وجل: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]».
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «قال الله عزَّ وجلَّ: أعْدَدْتُ لعبادي الصالحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ ولا أذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلب بَشَر. وأقْرَؤوا إن شئتُم {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]». وعن صُهَيب رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا دخلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ نادىَ منادٍ يا أهلَ الجنةِ إن لكم عندَ الله مَوْعِداً يريدُ أن يُنْجِزَكُمُوهُ، فيقولونَ: ما هُو ألَمْ يُثَقِّلْ موازينَنَا ويُبَيِّضْ وجوهَنا ويدخلْنا الجنةَ ويزحْزحْنا عن النار؟ قال: فيكشفُ لهم الحِجَاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحبَّ إليهمْ من النظرِ إليه ولا أقَرَّ لأعينِهم منهُ»، رواه مسلمٌ. وله من حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنَّ الله يقول لأهلِ الجنةِ: «أحِلُّ عليكم رضوانِي فلا أسخطُ عليكم بعدَه أبداً».
اللَّهُمَّ ارزقنا الخُلْدَ في جنانِك، وأحِلَّ علينا فيها رضوانَك، وارزقْنا لَذَّة النظرِ إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك من غيرِ ضرَّاءَ مُضِرَّة ولا فتنةٍ مُضلةٍ.
اللَّهُمَّ صلِّ وسلَّم وبارِكْ على عبدِك ونبيِّك محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-14-2018, 03:59 PM
المجلس الرابع والعشرون: في أوصاف أهل الجنة
ـ جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه ـ
الحمدُ لله الَّذِي كوَّنَ الأشياءَ وأحْكمهَا خَلْقاً، وفتقَ السموات والأرضَ، وكانتا رَتْقاً، وقسَّمَ بحكمتِه العبادَ فأسعدَ وأشْقى، وجعلَ للسعادةِ أسباباً فسَلكهَا منْ كانَ أتْقَى، فَنَظَر بعينِ البصيرةِ إلى العواقبِ فاختارَ ما كَان أبْقَى، أحمدُه وما أقْضِي له بالحمدَ حقَّاً، وأشكُره ولم يزَلْ لِلشُّكر مستحِقَّاً، وأشْهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له مالكُ الرقاب كلِّها رِقَّاً، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه أكمل البشر خُلُقاً وخَلْقَاً صلى الله عليه وعلى صاحبه أبي بكر الصديق الحائز فضائلَ الأتباعِ سَبْقاً، وعلى عُمرَ العادلِ فما يحابِي خَلْقاً، وعلى عثمانَ الَّذِي استسْلَمَ للشهادةِ وما تَوَقَّى، وعلى عليٍّ بائعِ ما يَفْنَى ومشترِي ما يبْقى، وعلى آلِهِ وأصحابِه الناصرينَ لدينِ الله حقاً، وسلَّمَ تسليماً.
إخواني: سمعتْمْ أوصافَ الجنةِ ونعيمَها وما فيها من السرورِ والفرحِ والحبورِ، فوالله إنَّها لجديرةٌ بأنْ يَعْملَ لها العاملُون، ويتنافَس فيها المتنافِسُونَ، ويُفْنِي الإِنسانُ عمرَه في طَلبهَا زاهداً في الدُّون، فإنْ سألتُمْ عن العمل لها والطريقِ الموصل إليها فقد بيَّنه اللهُ فيما أنزلُه من وحيهِ على أشرفِ رسله. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 133 - 135].
فهذه عدة أوصاف من أوصاف أهل الجنة:
الوصفُ الأوّلُ: (الْمُتَّقِينَ) وهم الذين اتَّقوا ربَّهم باتخاذ الوقايةِ من عذابهِ بفعلِ ما أمَرهم بهِ طاعةً له وَرَجَاءً لثوابِه، وتركِ ما نهاهُمْ عنه طاعةً لَهُ وخوفاً من عقابه.
الوصفُ الثاني: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ) فهُمْ ينفقونَ ما أمِروا بإنفاقِه على الوجهِ المطلوبِ منهمْ مِنَ الزكاةِ والصدقاتِ والنفقاتِ على مَنْ له حقٌ عليهم والنفقاتِ في الجهادِ وغيره من سُبُل الخيرِ ينفقونَ ذلك في السَّراءِ والضَّراءِ لا تحملهم السَّراءُ والرَّخاءُ على حُبِّ المالِ والشحِّ فيهِ طمَعاً في زيادتِه، ولا تحملُهم الشِّدةُ والضراءُ على إمساكِ المالِ خوفاً من الحاجةِ إليهِ.
الوصفُ الثالثُ: (وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ) وهم الحابِسُونَ لغَضَبِهم إذا غضِبُوا فلا يعْتَدون ولا يحقِدون على غيرِهم بسببه.
الوصفُ الرابعُ: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) يعْفُون عمَّنْ ظلَمهم واعتَدَى عليهمْ فلا ينتقمون لأنفسِهم مع قدْرَتِهِم على ذلك وفي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} إشارةٌ إلى أنَّ العفَوَ لا يُمْدَح إِلا إذا كان من الإِحسانِ وذلكَ بأن يقعَ مَوْقِعَهُ ويكونَ إصلاحاً. فأما العفوُ الَّذِي تزدادُ بِه جريمةُ المعتدِي فليس بمحمودٍ ولا مأجورٍ عليه. قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].
الوصفُ الخامسُ: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ) الفاحشةُ ما يُسْتَفْحَشُ من الذنوبِ وهي الكبائرُ كقتلِ النفسِ المُحَرَّمَةِ بغيرِ حقٍّ وعقوقِ الوالدين وأكل الرِّبا وأكل مالِ اليتيمِ والتَّوَلِّي يومَ الزَّحفِ والزِّنَا والسرقةِ ونحوها من الكبائرِ. وأمَّا ظُلْمُ النفس فهوَ أعَمُّ فيشمَلُ الصغائرَ والكبائِرَ. فهمْ إذا فَعَلُوا شيئاً من ذَلِكَ ذَكرُوا عظمةَ مَنْ عَصَوْه فخافوا منه، وذَكرُوا مغفرتَه ورحمتَه فَسَعَوْا في أسبابِ ذلك فاسْتَغْفَروا لذنوبهم بطلب سترِها والتجاوزِ عن العقوبةِ عليها وفي قوله: (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ) إشارةٌ إلى أنهم لا يَطلبُونَ المغفرةَ من غيرِ اللهِ لأنَّه لا يغفرُ الذنوبَ سِواه.
الوصفُ السادسُ: (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي لم يسْتَمِرُّوا على فعلِ الذنبِ وهم يعْلَمون أنَّه ذنبٌ ويَعْلَمُون عظمةَ من عصَوْه ويَعلَمونَ قُرْبَ مغفرَتِه بل يبادِرون إلى الإِقلاع عنه والتوبةِ منه. فالإِصرارُ على الذنوب مع هذا العلمِ يجعلُ الصغائرَ كبائرَ ويتدرَّجُ بالفاعلِ إلى أمورٍ خطيرةٍ صعبةٍ. وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَرِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11] فهذه الآياتُ الكريمةُ جمَعَتْ عِدَّةَ أوصافٍ مِن أوصافِ أهلِ الجنةِ:
الوصفُ الأولُ: (الْمُؤْمِنُونَ) الذين آمَنُوا بالله وبكلِّ ما يجبُ الإِيمانُ به مِن ملائكةِ الله وكتبِه ورسلِهِ واليومِ الآخرِ والقدرِ خيرهِ وشرِّه، آمَنُوا بِذَلِكَ إيماناً يستلزمُ القبولَ والإِذعانَ والانقيادَ بالقولِ والعمل.
الوصفُ الثاني: (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ) حاضرةٌ قلوبُهم ساكنةٌ جوارحُهم يستحضرون أنهم قائمونَ في صلاتهِم بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ يخاطِبونَّهُ بكلامه، ويتقربُون إليهِ بذكرهِ، ويَلجؤُون إليه بدعائِه، فهم خاشعُون بظواهِرِهم وبواطِنِهم.
الوصفُ الثالثُ: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ) واللَّغْوُ كلُّ ما لا فائدة فيهِ ولا خيرَ من قولٍ أو فعلٍ، فهم معرضونَ عنه لقوةِ عزيمتِهم وشِدَّةِ حْزمِهم لا يُمضُونَ أوقاتَهم الثمينةَ إلاَّ فيما فيه فائدةٌ، فَكَمَا حفظُوا صلاتَهم بالخشوعِ حفظُوا أوقاتَهم عن الضياع وإذا كانَ مِنْ وصفِهم الإِعراض عن اللَّغوِ وهو ما لا فائدةَ فيه فإعراضُهَم عما فيه مضرةٌ من باب أوْلى.
الوصفُ الرابعُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاوةِ فَاعِلُونَ) يحتملُ أنَّ المرادَ بالزكاةِ القسطُ الواجبُ دفعُه من المالِ الواجبِ زكاتُه، ويحتملُ أنَّ المرادَ بها كلُّ ما تَزْكُوْ به نفوسُهم من قولٍ أو عمل.
الوصفُ الخامسُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) فهم حَافِظُون لفُروجِهم عَنِ الزِّنَا واللواطِ لما فيهما من معصيةِ الله والانحطاطِ الخُلُقِيِّ والاجتماعيِّ. ولعلَّ حفظَ الفرجِ يَشْمَلُ ما هو أعَمُّ من ذلك فيشمَلُ حِفْظَهُ عن النظر واللمس أيضاً وفي قوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} إشارةٌ إلى أنَّ الأصْلَ لومُ الإِنسانِ على هذا الفعلِ إلاَّ على الزوجةِ والمملوكة لما في ذلك مِن الحاجة إليه لدفعِ مُقْتَضَى الطَبيعةِ وتحصيل النسل وغيرهِ من المصالحِ وفي عموم قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} دليلٌ على تحريم الاستمناءِ الذي يُسَمَّى (العادة السريةَ) لأنه عملِيَّةٌ في غيرِ الزوجاتِ والمملوكاتِ.
الوصفُ السادسُ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) الأمانةُ ما يُؤتَمَنُ عليه مِنْ قولٍ أو فعلٍ أو عينٍ. فمن حدَّثَكَ بِسِرٍّ فقد ائتمنَكَ، ومنْ فعَل عندَك مَا لاَ يُحِبُّ الاطلاع عليه فقد ائتمنك ومن سلَّمكَ شيئاً من مالِه لِحِفْظِه فقد ائتمنك، والْعَهْدُ ما يلتزمُ به الإِنسانُ لغيرهِ كالنذرِ لله والعهودِ الجاريةِ بينَ الناس. فأهلُ الجنةِ قائمون برعايةِ الأماناتِ والعهدِ فيما بينَهم وبينَ الله وفيما بينهم وبينَ الخلق، ويدخلُ في ذلك الوفاءُ بالعقودِ والشروطِ المباحةِ فيها.
الوصفُ السابعُ: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) يُلازِمونَ على حفظِها من الإضاعةِ والتفريطِ، وذلك بأدَائِها في وقتِها على الوجهِ الأكملِ بشروطِها وأركانها وواجباتِها. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أوصافاً كثيرةً في القرآن لأهلِ الجنةِ سوى ما نقلناه هنا، ذَكَر ذَلِكَ سبحانَهُ ليتَّصفَ به مَنْ أرادَ الوصولَ إليهَا. وفي الأحاديثِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ذلك شيءٌ كثيرٌ.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ سَلَكَ طريقاً يلتمس فيه عِلْمَاً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنة»، رواه مسلم. وله عنه أيضاً أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايَا ويرفعُ به الدرجاتِ؟ قالوا: بَلَى يا رسول الله. قال: إسباغُ الوضوءِ على المَكَارهِ وكثرةُ الْخُطَا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاةِ». وله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْكم مِنْ أحدٍ يتوضَّأُ فيُسْبغُ الوضوءَ ثم يقولُ أشهد أنْ لا إِله إلا الله وحده لا شريكَ له وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجنةِ الثمانيةُ يدخلُ من أيِّها شاءَ». وعن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أيضاً «فيمَنْ تَابعَ المؤذنَ من قلْبه دَخَلَ الجنةَ»، رواه مسلم.
وعن عثمانَ بن عفَّانَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ بَنى مسجداً يبْتغِي به وجهَ الله بَنَى الله لَهُ بيتاً في الجنةِ»، متفق عليه. وعن عُبَادة بن الصامتِ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العبادِ فمن جاءَ بهِنَّ ولم يُضَيِّعْ منهن شيئاً استخفافاً بحقِّهن كان له عندَ الله عهداً أنْ يدخلَه الجنةَ»، رواه الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ والنسائي.
وعن ثَوْبَانَ رضي الله عنه أنَّه سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عن عَمَلٍ يدخلُه الله به الجنةَ فقالَ: «عليكَ بكثْرَة السجودِ فإنكَ لا تسجد لله سجدةً إلاَّ رَفَعَكَ الله بها درجةً وحطَّ عنك بها خطِيئةً»، رواه مسلم. وعن أمِّ حبيبةَ رضي الله عنها أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْ عبدٍ مسلمٍ يصلَّي لله تعالى في كلِّ يومٍ اثنتي عَشْرَة ركعةً تطوُّعاً غيرَ فريضةٍ إلاَّ بَنَى الله له بيتاً في الجنةِ»، رواه مسلم. وهنَّ أربعٌ قبلَ الظهر، وركعتانِ بعدَها، وركعتانِ بعدَ المغربِ، وركعتانِ بعدَ العشاءِ، وركعتانِ قبلَ صلاة الصبح.
وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه أنه قالَ لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أخْبِرنِي بعملٍ يدخلُني الجنةَ ويباعدُني عن النارِ. قال: «لقد سَألْتَ عن عظيمٍ وإنه لَيَسيرٌ على منْ يسَّرَهُ الله عليه، تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتقيمُ الصلاةَ، وتؤتِي الزكاةَ، وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيت»، (الحديث) رواه أحمدُ والترمذيُّ وصححه. وعن سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ في الجنةِ باباً يقالُ له الريَّانُ يدخلُ منه الصائِمون يومَ القيامةِ لا يدخل منه أحدٌ غيرُهُمْ» (الحديث) متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «العمرةُ إلى العمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحجُ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة»، متفق عليه. وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ كان له ثلاثُ بناتٍ يُؤْوِيهنَّ ويرحمهنَّ ويَكفَلُهُنَّ وَجَبَتْ له الجنةُ الْبَتَّةَ. قيل: يا رسولَ الله فإن كانتا اثنتين قال: وإن كانتا اثنتين. قال: فَرَأى بعض القومِ أن لو قالَ: واحدةً لقالَ واحدة»، رواه أحمد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ عن أكثر ما يُدْخِلُ الجنةَ، فقال: «تَقْوى اللهِ وحسنُ الْخُلق»، رواه الترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ في صحيحه . وعن عياض بن حمارٍ المجاشعيِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أهلُ الجنةِ ثلاثةٌ: ذو سلطانٍ مُقْسطٌ متصدِّقٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيقُ القلبِ لكل ذِي قُرْبَى، ومُسْلِمٌ عَفِيفٌ متَعفِّفٌ ذو عيالٍ»، رواه مسلم في حديث طويل.
فهذه أيُّها الإِخوان طائفةٌ من أحاديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم تُبَيِّنُ شيئاً كثيراً من أعْمالِ أهْلِ الجنةِ لمنْ أرادَ الوصولَ إليها.
أسْأل الله أن يُيَسِّرَ لنَا وَلَكُمْ سُلوكَها ويُثَبتَنَا عليها إنهُ جوادٌ كريمٌ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ.
-قمر الليالي-
06-16-2018, 07:03 PM
المجلس الخامس والعشرون: في وصف النار
ـ أعاذنا الله منها ـ
الحمدُ لله الحيِّ القيومِ، الباقِي وغيْرُه لا يدوم، رَفَعَ السماءَ وزيَّنَها بالنجوم، وأمْسَك الأرض بجبالٍ في التُّخوم، صوَّر بقدرتِه هذه الجُسوم، ثمَّ أماتها ومحا الرُّسوم، ثم ينفخُ في الصُّورِ فإذا الميْتُ يقُوم، ففريقٌ إلى دار النعيمِ وفريقٌ إلى نارِ السَّمومِ، تفْتَحُ أبوابُها في وجوهِهِم لكلِّ بابٍ منهم جزْءٌ مقسوم، وتُوْصَدُ عليهم في عَمَدٍ ممَدَّدَةٍ فيها للهمُوم والغُموم، يوم يغْشاهُمُ العذاب مِنْ فوقِهم ومن تحتِ أرجُلِهمْ فما منهم مرْحُوم، وأشهدُ أن لا إِله إِلاَّ الله وحده لا شريكَ له شهادةَ مَنْ للَنجاةِ يَرُوم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، الَّذِي فَتحَ الله بدينِه الْفُرْسَ والرُّوم، صلَّى الله عليه وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن تبعهم بإحسانٍ ما هطَلَتْ الغُيوم، وسلَّم تسليماً.
إخواني: لقد حذَّرنا اللهُ تعالى في كتابه من النارِ وأخبرَنا عن أنواعِ عذابِها بما تَتَفَطَّرُ منه الأكبادُ وتتفجرُ منه القلوب، حَذَّرنَا منها وأخْبَرَنا عن أنواع عذابِها رحمةً بنا لنزدَادَ حَذراً وخوْفاً، فاسمَعوا ما جاء في كتاب الله تعالى وسنةِ رسولِهِ صلى الله عليه وسلّم من أنْواع عذابِها لعلكم تذَكَّرُون. وأنيبُوا إلى ربكم وأسلمُوا له من قبل أنْ يأتِيَكم العذابُ ثم لا تُنصرون. قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، {إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَلاً وَسَعِيراً} [الإِنسان: 4]، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]، وقال تعالى مُخاطباً إبليسَ: {إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 42 - 44]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} [الملك: 6 - 8]، وقال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55]، وقال تعالى: {لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يعِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16]،
وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِى سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ} [الواقعة: 41 - 44]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِى الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} [التوبة: 81]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10، 11]،وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 47، 48]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ} [المدثر: 27 - 29]، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وقال تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 32، 33]، وقال تعالى: {وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ} [إبراهيم: 49، 50]، وقال تعالى: {إِذِ الأَغْلَالُ فِى أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِى الْحَمِيمِ ثُمَّ فِى النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 71،72]، وقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 19 - 22]،
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 15]، وقال تعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ * كَغَلْىِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 43 - 46]، وقال في تلكَ الشجرةِ: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 64، 65]، وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ * هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 51 - 56]، وقال تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف: 29]، وقال تعالى: {وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ} [محمد: 15]،
وقال تعالى: {وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 16، 17]، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْاْ يمَالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 74 - 77]، وقال تعالى: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا جَهَنَّمُ} [الإِسراء: 97]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [النساء: 168، 169]، وقال تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكٍّ مُّرِيبِ} [الأحزاب: 64، 65]، وقال تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [الجن: 23]، وقال تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمزة: 5 - 9].
والآياتُ في وصفِ النارِ وأنواعِ عذابِها الأليمِ الدائمِ كثيرةٌ.
أما الأحاديثُ فعنْ عبدِالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يُؤتى بالنارِ يومَ القيامةِ لها سبعون ألفَ زمامٍ مع كلِّ زمامٍ سبعون ألفَ ملَكٍ يجرُّونَها»، رواه مسلم. وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «نَارُكم هذِه ما يُوقدُ بنُو آدمَ جُزْءٌ واحدٌ من سبعين جزءاً من نار جهنَّم، قالوا: يا رسولَ الله إنَّها لَكَافيةٌ قال: إنها فُضِّلَتْ عليهَا بِتِسْعَةٍ وستينَ جزءاً كلُّهن مثلُ حرِّها». وعنه رضي الله عنه قال: كنَّا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فسَمِعنَا وَجبَةً، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أَتَدْرُونَ ما هَذَا؟ قلْنَا: الله ورسولُه أعلمُ. قال: هذا حجرٌ أرْسَلَه الله في جهنَّمَ مُنْذُ سبعينَ خَريفاً (يَعْنِي سبعينَ سنةً) فالان حينَ انتَهَى إلى قعْرها»، رواه مسلم.
وقال عُتْبَة بنُ غَزوانَ رضي الله عنه وهو يَخْطب: «لَقَدْ ذُكِرَ لنَا أنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِير جَهَنَّمَ فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدركُ لها قَعْراً والله لتُمْلأنّ أفعَجِبْتُم؟»، رواه مسلم. وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لَوْ أنَّ قطْرةً من الزَّقُّومِ قَطَرَتْ في دار الدُّنْيَا لأفْسَدَتْ على أهلِ الدنيا مَعَايِشَهُمْ»، رواه النسائيُّ والترمذيُّ وابنُ ماجة (1). وعن النعمانِ بن بَشِيرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ أهْوَنَ أهل النارِ عذاباً مَنْ لَهُ نَعْلانِ وشِرَاكانِ من نارٍ يَغلي منهما دماغُه كما يغلي المِرْجَل ما يَرَى أنَّ أحداً أشدُّ منهُ عَذَاباً وإنَّهُ لأهْونُهمْ عذاباً»، رواه مسلم وللبخاريِّ نحوه.
وعن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قالَ: «يُؤتَى بأنْعَم أهل الدنيا مِنْ أهل النار فيُصْبَغُ في النارِ صَبْغَةً ثم يُقَال: يا ابنَ آدمَ هل رأيتَ خيراً قطُّ هل مَرَّ بكَ نعيمٌ قط؟ فيقولُ لا والله يا ربِّ، ويؤْتَى بأشَدِّ الناسِ بؤساً في الدنيا مِنْ أهل الجنة فيصبغُ صبغةً في الجنة فيقال: يا ابن آدمَ هل رأيتَ بؤساً قط؟ هل مَرَّ بك من شدة قط؟ فيقولُ: لا والله يا ربِّ ما رأيتُ بؤساً ولا مرّ بِي مِنْ شدةٍ قَطُّ»، رواه مسلم. يعني أنَّ أهل النارِ ينسُون كلَّ نعيمٍ مَرَّ بِهِم في الدُّنيا، وأهْلَ الجنة ينسون كلَّ بؤْسٍ مرّ بهم في الدنيا.
وعنه رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يُقَالُ للرجلِ من أهل النارِ يومَ القيامةِ: أرأيْتَ لو كانَ لكَ ما على الأرض من شيء أكنتَ تفتدي به؟ فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردتُ منكَ ما هُو أهْونُ من ذلكَ، قد أخذتُ عَلَيْك في ظهرِ آدم أن لا تُشْرِكَ بي شيئاً فأبيتَ إلاَّ أنْ تشركَ بي»، رواه أحمدُ ورواه البخاريُّ ومسلمٌ بنحوه. وروى ابنُ مَرْدَوَيْهِ عن يَعْلِي بنِ مُنْيَة وهو ابنُ أمَيَّةَ، ومنية أمُّهُ قال: «يُنْشِيءُ الله لأهل النار سحابةً فإذا أشْرَفَتْ عليهم نادَاهُمْ: يا أهل النَّارِ أيُّ شيءٍ تطلبون وما الَّذِي تسْألون فيذكرونَ بها سحائبَ الدنيا والماءَ الَّذي كان ينزلُ عليهم، فيقولون: نَسْأَلُ يا ربِّ الشرابَ فيُمطرُهم أغلالاً، تزيد في أغلالهم وسلاسل تزيدُ في سلاسِلِهم وجمراً يُلْهبُ النارَ عليهم».
وعن أبي موسى رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثةٌ لا يَدْخُلون الجنّةَ: مُدْمِنُ خمرٍ، وقاطعُ رحم، ومُصدِّقُ بالسحرِ. ومَنْ مات مدمنَ الخمرِ سقاه الله من نَهْرِ الغوْطَةِ. قيل: وما نهرُ الغوطةِ؟ قال: نهرٌ يجري من فروج المُومِسَاتِ يؤذي أهلَ النار ريحُ فروجهن»، رواه أحمد.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن على الله عهداً لمنْ شرب المسكرات لَيَسقيِه من طِينةِ الخبَالِ. قالوا: يا رسولَ الله وما طينةُ الخبَالِ؟ قال: عَرقُ أهل النار أو عُصَارةُ أهلِ النارِ». وفي الصحيحين عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: «يُقَال لليهودِ والنصارى ماذا تَبْغُون؟ فيقولونَ: عطِشْنَا ربَّنَا فأسقنا فيُشارُ إليهم: ألا تَرِدُوْنَ؟ فيُحْشَرونَ إلى جهنَم كأنها سرابٌ يحطِمٌ بعضُها بعضاً، فيتَساقطونَ في النار». قال الْحَسَنُ: ما ظَنُّك بقومٍ قاموا على أقدامهم خمسينَ ألْفَ سنةٍ لم يأكلوا فيها أكلةً ولم يشربوا فيها شربةً حتى انقطعت أعناقُهم عطشاً واحتَرقَتْ أجوافُهم جوعاً، ثم انْصُرفَ بهم إلى النارِ فيُسْقَون من عينٍ آنِيَةٍ قد آنَ حَرُّها واشتد نُضْجُها.
وقال ابن الجوزيِّ رحمه الله في وصفِ النار: دارٌ قَدْ خُصَّ أهلُها بالبِعادِ، وحرمُوا لذةَ المُنَى والإِسْعاد، بُدِّلَتْ وضاءةُ وجوهِهِم بالسَّواد، وضُرِبُوا بمقَامِعَ أقْوى من الأطواد، عليها ملائكةٌ غِلاظٌ شداد، لو رأيتَهم في الحميمِ يسرحون، وعلى الزمهرير يُطْرَحون، فحزنُهم دائمٌ فما يفْرَحون، مُقَامهُم محتومٌ فما يبْرَحون، أبَدَ الآباد، عليها ملائِكةٌ غلاظ شداد، يبكُون على تضييع أوقات الشباب، وكلَّما جَادَ البكاءُ زاد، عليها ملائكة غلاظٌ شِداد، يا حسرتهم لِغَضَبِ الخالق، يا محنَتهُمْ لِعظَمِ البَوَائِق، يا فضيحتَهم بين الخلائق، على رؤوس الأشْهاد، أينَ كسْبُهُم للْحُطام، أينَ سعيُهم في الاثام، كأنَّه كان أضغَاثَ أحْلام، ثم أُحْرِقَتْ تلك الأجسام، وكلما أحْرِقَتْ تُعَاد، عليها ملائكةٌ غلاظٌ شِداد.
اللَّهُمَّ نَجِّنا من النار، وأعِذْنَا من دارِ الخزْيِ والْبَوَار، وأسكنَّا برحمتِك دارَ المتقينَ الأبرار، واغفرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحمَ الراحمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمداً وعلى آله وصحبه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-16-2018, 07:05 PM
المجلس السادس والعشرون: في أسباب دخول النار
الحمدُ لله القويِّ المتين، الظاهر القاهر المُبين، لا يعزب عن سمْعِه أقَلُّ الأنين، ولا يخْفَى على بصرِه حركَاتُ الجَنِين، ذَلَّ لكبريائِه جبابرة السلاطين، وبطلَ أمَام قدرتِه كَيدُ الكائِدين، قضى قضاءه كما شاء على الخاطِئين، وسبقَ اختيارهُ من اختاره من العالمِين، فهؤلاء أهلُ الشِّمَالِ وهؤلاءِ أهلُ اليمين، جرَى الْقَدَرُ بذلك قبلَ عمَلِ العامِلين، ولولا هذَا التقسيمُ لبطلَ جهادُ المجاهِدين، وما عُرِف أهلُ الإِيمانِ مِن الكافِرين، ولا أهلُ الشكِّ من أهل اليقين، ولولا هذا التقسيمُ ما امتلأتِ النارُ من المُجْرمين. {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. تلكَ يا أخِي حكمةُ الله وهو أحْكمُ الحاكِمين، أحمدُه سبحانَه حمدَ الشاكِرين، وأسأله معونَة الصابِرِين، واسْتَجِيرُ بِهِ من العذابِ المُهين، وأشهد أنْ لا إِله إِلاَّ الله الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى الأمين، صلَّى الله عليه وعلى صاحِبه أبي بكرٍ أول تابعٍ من الرجال على الدِّين، وعلى عمرَ القويِّ في أمر الله فلا يَلِين، وعلى عثمانَ زوجِ ابنتِي الرسولِ ونعمَ القرِين، وعلى عليٍّ بَحْر العلومِ الأنزع البطين، وعلى جميع آل بيت الرسول الطاهرين، وعلى سائِر أصَحابِه الطَّيِّبين، وعلى أتباعِه في ديِنه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً.
إخواني: اعلمُوا أنَ لدخولِ النار أسباباً بيَّنها اللهُ في كِتابِه وعلى لسانِ رسولِه صلى الله عليه وسلّم ليَحْذَرَ الناسُ منها ويَجتنبُوها. وهذِه الأسبابُ على نوعين:
النوعُ الأولُ: أسبابٌ مُكَفِّرةٌ تُخرِج فاعلَها من الإِيمانِ إلى الكفرِ وتوجبُ له الخلودِ في النار.
النوعُ الثاني: أسبابٌ مُفَسِّقَةٌ تُخْرجُ فاعلَها مِنَ العدالةِ إلى الْفِسق ويَسْتَحِقُ بها دخولَ النارِ دونَ الخلودِ فيها.
فأمَّا النوعُ الأولُ فنَذْكُرُ منه أسباباً:
السبب الأولُ: الشركُ بالله: بأنْ يجعلَ لله شريكاً في الرُّبوبيةِ أو الألُوهيةِ أو الصِّفَاتِ. فمَن اعتقد أنَّ مع الله خالقاً مشاركاً أو منفرداً، أو اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أنَ يُعْبَد، أو عَبَد مع الله غيره فصرف شيئاً من أنواع العبادة إليه، أو اعتقد أنَّ لأحدٍ من العلمِ والقدرةِ والعظمةِ ونحوها مثل ما لله عزَّ وجلَّ فقد أشركَ بالله شرْكاً أكْبَرَ واستحقَّ الخلودَ في النار، قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة: 72].
السبب الثاني: الكفرُ بالله عزَّ وجلَّ أوْ بملائكتِه أوكتبِه أو رسلِه أو اليومِ الآخرِ أو قضاءِ الله وقدرِه، فمَنْ أنكر شيئاً من ذلك تكذيباً أو جَحْداً أو شكَّ فيه فهو كافرٌ مخلَّدٌ في النار. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 150، 151]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَفِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَلِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يلَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ * وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَآءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 64 - 68].
السبب الثالثُ: إنكارُ فرض شيء من أركانِ الإِسلامِ الخمسةِ، فَمَنْ أنكرَ فَرِيضَةَ توحيدِ الله أو الشهادةِ لرسولِه بالرسالِة أو عمومِها لجميع الناسِ أو فريضةَ الصلواتِ الخمسِ أو الزكاةِ أو صوم رمضانَ أو الحجِ فهو كافرٌ لأنه مُكذِّبٌ لله ورسولِه وإجماع المسلمين، وكذلك مَنْ أنكر تحريمَ الشركِ أو قتلِ النفسِ التي حَرَّم الله أو تحريمِ الزِّنا أو اللواطِ أو الخمرِ أو نحوها مما تَحْريمُه ظاهرٌ صريحٌ في كتاب الله أو سنة رسولِه صلى الله عليه وسلّم لأنه مُكَذِّبٌ لله ورسولِه، لكن إن كان قريبَ عهدٍ بإسلامٍ فأنكر ذلك جهلاً لم يَكفُر حتى يُعَلَّم فينكرُ بعد عِلْمِهِ.
السبب الرابعُ: الاستهزاءُ بالله سبحانه أو بدينهِ أو رسولِه صلى الله عليه وسلّم، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 64، 65] والاستهزاء هو السُّخْريَّةُ وهو من أعظم الاستهانةِ بالله ودينه ورسولِه وأعظمِ الاحتقارِ والازدراءِ تعالَى اللهُ عَنْ ذلك عُلوَّاً كبيراً.
السبب الخامسُ: سبُّ الله تعالى أو دينِه أو رسولِه وهو القَدْحُ والْعَيْبُ وذِكْرُهُمْ بما يقتضي الاستخفافَ والانتقاصَ كاللَّعنِ والتَقْبِيحِ ونحوِ ذلك.
قال شيخُ الإِسلام ابن تيميةَ رحمه الله: مَنْ سَبَّ الله أو رسوله فهو كافرٌ ظاهراً وباطناً سواءُ كان يعتقد أنَّ ذلك محرمٌ أو كان مُسْتَحِلاًّ له أو كان ذاهلاً عن اعتقاد. وقال أصحابنا: يكفر سواء كان مازحاً أوجاداً. وهذا هو الصواب المقطوع به، ونقل عن إسحق بن راهويه: أن المسلمين أجمعوا على أن من سبّ الله أو سبَّ رسولَه أو دفع شيئاً مما أنزَل الله فهو كافرٌ وإن كان مقرَّاً بما أنزل الله، وقال الشيخ أيضاً: والْحُكْمُ في سَبِّ سائِر الأنْبياءِ كالحكم في سبِّ نبيِّنا صلى الله عليه وسلّم، فمَنْ سبَّ نبيَّاً مُسَمَّى باسمه من الأنبياء المعروفينَ المذكورينَ في القرآنِ أو مَوْصُوفاً بالنُّبوةِ بأن يُذْكرَ في الحديثِ أن نبيَّاً فَعلَ أو قَالَ كذا فَيَسُبَّ ذلك الفاعلَ أو القائل مع عِلمِهِ أنه نبيٌّ فحكمه كما تقدم. اهـ.
وأما سبُّ غير الأنبياء فإن كان الغرض منه سبَّ النبي مثلُ أن يَسبَّ أصحابَه يقصد به سبَّ النبيِّ لأنَّ المقارِنَ يقتدي بمَنْ قارنَه، ومثلُ أن يقذِفَ واحدةً من زوجاتِ النبي صلى الله عليه وسلّم بالزِّنا ونحوه فإنَّه يكفرُ لأن ذلك قَدْحٌ في النبيِّ وسبٌّ له، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26].
السبب السادسُ: الْحُكْمُ بغير ما أنزلَ الله مُعْتَقِداً أنَّه أقربُ إلى الْحَقِّ وأصلحُ للخلْق، أو أنه مساوٍ لحكم الله أو أنه يجوز الحكم به، فهو كافرٌ لقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وكذا لو اعتقَدَ أنَّ حكمَ غيرِ الله خيرٌ من حكم الله أو مساوٍ له أو أنه يجوزُ الحكمُ به فهو كافرٌ وإن لم يَحْكَمْ به لأنه مكذِّبٌ لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]، ولما يقتضيه قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.
السبب السابعُ: النفاقُ وهو أنْ يكونَ كافراً بقلبِه ويظهرَ للناسِ أنه مسلمٌ إما بقولِه أو بفعلِه، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء: 145]. وهذا الصنفُ أعظم مما قَبْلَه، ولذلك كانَتْ عقوبةُ أصحابه أشَدَّ، فهمْ في الدركِ الأسفل من النار، وذلك لأن كُفْرَهم جامعٌ بين الكفر والخِداع والاستهزاءِ بالله وآياتِهِ ورسولِه. قال الله تعالى عَنْهُمْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الأْخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَءَامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْءَامِنُواْ كَمَآءَامَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السُّفَهَآءُ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَآءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَءَامَنُواْ قَالُواءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 8 - 15].
وللنفاق علاماتٌ كثيرةٌ منها: الشَّكُّ فيما أنزلَ الله وإن كان يُظْهِرُ للناس أنه مؤمنٌ. قال الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة: 45] ومنها كراهةُ حُكْم الله ورسوله، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْءَامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} [النساء: 60، 61]، ومنها كراهةُ ظهورِ الإِسلامِ وانتصار أهلِه والفرحُ بخُذْلانِهم، قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} [التوبة: 50]، وقال تعالى: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: 119، 120].
ومنها طلبُ الفتنةِ بينَ المسلمينَ والتفريق بينهَم ومحبَّة ذلك. قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
ومنها محبةُ أعْداءِ الإِسلامِ وأئِمَّةِ الكفرِ ومدحُهم ونشرُ آرائِهم المخالفة للإِسلام. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14].
ومنها لمز المؤْمِنِينَ وعيبُهم في عباداتِه. قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] فيعيبونَ المجتهدينَ في العبادةِ بالرِّياءِ ويعيبون العاجِزينَ بالتَّقْصِير.
ومنها الاستكبارُ عن دُعاءِ المؤمنينَ احتقاراً وشكّاً. قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5].
ومنها ثِقَلُ الصلاةِ والتكاسلُ عنها. قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَفِقِينَ يُخَدِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَوةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 142]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «أثقلُ الصلاةِ على المنافقينَ صلاةُ العشاءِ وصلاة الفجرِ»، (الحديث) متفق عليه.
ومنها أذِيَّةُ الله ورسولِهِ. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ} [التوبة: 61]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً * وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [الأحزاب: 57، 58]. فهذه طائفةٌ من علاماتِ المنافقينَ ذكرناها للتحذيرِ منها وتطهيرِ النفسِ من سلوكِها.
اللَّهُمَّ أعذْنَا من النفاق وارزقنا تحقيقَ الإِيمَان على الوجهِ الَّذِي يرضيكَ عنَا واغَفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ يا ربَّ العالمين وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-18-2018, 06:39 AM
المجلس السابع والعشرون: في النوع الثاني من أسباب دخول النار
الحمدُ لله الَّذِي أنْشَأَ الخلائِقَ بقدرتِه، وأظهر فيهِم عجائبَ حكمتِهِ، ودَلَّ بآياتِه على ثبوتِ وحدانيَّته، قضى على العاصِي بالعقوبةِ لِمُخَالفته، ثم دَعَا إلى التوبةِ ومَنَّ عليه بقبول توبتِه، فأجيبوا داعيَ الله وسابقوا إلى جنتِه، يغفرْ لكم ذنوبَكم ويؤتِكم كفْلينِ من رحمتِه، أحمدُه على جلالِ نعوتِه وكمال صِفَتِهِ، وأشكرُه على توفيقِه وسوابغ نعمتِهِ، وأشهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لَهُ في ألوهيته وربوبيتِه، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه المبعوثُ إلى جميع بَريَّته، بشيراً للمؤمنين بجنتِه، ونذيراً للكافرين بنارِه وسطْوتِه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكرٍ خليفتِه في أمتِه، وعلى عمرَ المشهورِ بقَّوتِه على الكافرينَ وشدَّتِه، وعلى عثمانَ القاضي نحَبه في محنتِه، وعلى عليٍّ ابن عمه وزوج ابنته، وعلى سائر آله وأصحابه ومن تبعه في سنته، وسلَّم تسليماً.
إخواني: سبقَ في الدرسِ الماضِي ذِكرُ عدَّةِ أسبابٍ من النوع الأوَّل من أسباب دخولِ النار المُوجِبَةِ للخلودِ فيها، وها نحنُ في هذا الدرس نذكرُ بمعونَةِ الله عدةَ أسباب من النوع الثاني، وهي الأسبابُ التي يستَحِقُّ فَاعلُها دخول النار دونَ الخلودِ فيها.
السببُ الأوَّلُ: عُقُوقُ الوالِدَين وهما الأُمُّ والأبُ، وعقوقُهما أنْ يقطعَ ما يجبُ لهما من بِرٍّ وصلةٍ أو يُسيءَ إليهما بالقولِ أو الفعلِ. قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَلِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا} [الإِسراء: 23، 24]. وقال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَلِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «ثلاثةٌ قد حرَّمَ اللهُ عليهم الجنَّةَ مدمِنُ الخمرِ والعاقُّ لوالديهِ والدَّيُّوثُ الَّذِي يُقِرُّ الخُبثَ في أهلِهِ»، رواه أحمدُ والنسائي (1).
السببُ الثاني: قطيعةُ الرَّحِمِ وهي أنْ يُقَاطِع الرجلُ قرابته فيمنَعَ ما يجبُ لهم من حقوقٍ بدنيةٍ أو ماليةٍ. ففي الصحيحين عن جُبَير بن مُطعِمٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخلُ الجنَّة قاطِعٌ». قال سفيانُ: يعني قاطعَ رَحِمٍ. وفيهما أيضاً عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الرَّحِمَ قامتْ فقالت لله عزَّ وجلَّ: هذا مقامُ العائِذ بكَ من القطيعةِ قال: نَعَمْ أما ترضَينَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ، وأقطعَ مَنْ قطعكِ؟ قالت: بَلَى، قال: فذلِكَ لكِ، ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم اقرؤوا إن شئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23].
ومن المُؤْسِفِ أنَّ كثيراً من المسلمين اليومَ غفَلُوا عن القيامِ بحقِّ الوالدينِ والأرحامِ وقطَعوا حبْلَ الْوَصْل، وحُجَّةُ بعضِهِم أنَّ أقاربَه لاَ يصِلُونَه. وهذه الحجةُ لا تنفعُ لأنه لو كانَ لا يصلُ إِلاَّ مَنْ وصلَه لم تكنْ صلتُه لله وإنما هي مُكافَأةٌ كما في صحيح البخاريِّ عن عبدالله ابن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ليسَ الوَاصِلُ بالمُكَافأ ولكنَّ الواصل الَّذِي إذا قُطِعتْ رَحِمُه وَصَلَها». وعن أبي هريرةَ رضي الله عَنْهُ أنَّ رجلاً قال يا رسول الله إنّ لي قرابةً أَصِلُهم ويَقطُعونني وأحسِنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويَجْهَلون عليَّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن كنتَ كما قُلتَ فكأنما تُسِفُّهُم الملَّ (تدخل في أفواههم. والمل: الرماد الحار) ولا يزالُ مَعَكَ من الله ظهيرٌ عليهم ما دمتَ على ذلك»، رواه مسلم.
وإذا وصَلَ رَحِمَه وهم يقطعونَه فإنَّ له العاقبةَ الحميدةَ وسَيَعُودون فيصلُونَه كما وصَلَهم إن أراد الله بهم خيراً.
السبب الثالثُ: أكْلُ الرِّبا. قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 130 - 132]، وقد تَوَعَّدَ الله تعالى مَن عَادَ إلى الرِّبا بعد أن بلغتْهُ موعظةُ الله وتحذيُره توعَّده بالخلودِ في النار، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ} [البقرة: 275].
السبب الرابع: أكل مُال اليتامى ذكوراً كانوا أم إناثاً، والتلاعب به. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَلَ الْيَتَمَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10]. واليتيم هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ.
السبب الخامسُ: شهادةُ الزُّور فقدْ روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لَنْ تزولَ قدمُ شاهد الزورِ حَتَّى يُوجب الله له النار»، رواه ابن ماجه والحاكم وقال: صحيح الإِسناد (هذا تساهل من الحاكم رحمه الله والصواب أنه ضعيف الإسناد جداً، لكن روى الإمام أحمد ما يؤيده بسند رواته ثقات غير أن تابعيه لم يسم). وشهادةُ الزور أنْ يشهدَ بما لا يَعْلَمُ أو يشهدَ بما يَعْلَمُ أن الواقعَ خلافُه لأن الشهادة لا تجوزُ إلاَّ بما عَلِمه الشاهدُ. وفي الحديث قال لرجلٍ: «تَرَى الشمس؟ قال: نَعَم، قال على مثلِها فاشْهَدْ أو دَعْ».
السببُ السادسُ: الرِّشوةُ في الحُكْمِ، فعن عبدِالله بن عمْرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «الراشِي والمرتشِي في النّار»، رواه الطبراني ورُوَاتُهُ ثقات معروفونَ، قاله في الترغيبِ والترهيب قال في النهايةِ: الراشِي من يُعْطِي الذي يُعِيْنُه على الباطِل والمرتِشي الاخذ. فأَمَّا ما يُعطَى تَوَصُّلاً إلى أخذِ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغيرُ داخلٍ فيه. اهـ.
السببُ السابعُ: اليمينُ الغَموسُ فعن الحارثِ بن مالكٍ رضي الله عنه قال سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم في الحَجِّ بينَ الجمْرَتَين وهو يقولُ: «منَ اقتطعَ مالَ أخيِه بيمين فاجرةٍ فلْيَتَبَوَّأ مقعدَه من النارِ لِيُبَلِّغ شاهِدُكمْ غائَبكم (مرتَّين أو ثلاثاً)»، رواه أحمدُ والحاكمُ وصحَّحَه. وسُميتْ غَموساً لأنها تَغْمِس الحالفَ بهَا في الإِثمِ ثُم تغمسِهُ في النارِ. ولا فرقَ بينَ أنْ يحلِف كاذباً على ما ادَّعاهُ فيُحْكمَ له به أو يحلفَ كاذباً على ما أنكَرَه فيُحكَمَ ببراءته منه.
السببُ الثامنُ: القضاءُ بين الناسِ بغير علمٍ أو بِجورٍ وميلٍ لحديثِ بريدةَ بنِ الحصيب رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «القضاةُ ثلاثةٌ واحدٌ في الجَنّة واثنان في النارِ، فأمَّا الَّذِي في الجنةِ فرجل عَرَفَ الحقَّ وقضَى به. ورجلٌ عرفَ الحقَّ فجارَ في الحكمِ فهو في النارِ. ورجلٌ قضَى للناسِ على جهلٍ فهوَ في النارِ»، رواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجة.
السبب التاسعُ: الغِشُّ للرعيَّةِ وعدمُ النصحِ لهم بحيثُ يَتَصَرّفُ تصرُّفاً ليس في مصلحتهم ولا مصلحةِ العملِ لحديث مَعْقلِ بن يسارٍ رضي الله عنُه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «مَا مِنْ عبدٍ يسترْعِيِه الله على رعيةٍ يموتُ يوم يموت وهو غاشٌّ لِرَعيَّته إلاَّ حرَّمَ الله عليه الجنَّةَ»، متفق عليه. وهذا يعمُّ رعايةَ الرجلِ في أهلِه والسلطانَ في سلطانِه وغيرهم لحديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «كُلُّكُمْ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، الإِمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والرجلُ راعِ في أهلِه ومسؤولٌ عن رعيَّتِه، والمرأةُ راعية في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتِهَا، والخادمُ راع في مال سيِّده ومسؤول عن رعيّتِه، وكُلُّكُم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتِه»، متفق عليه.
السبب العاشر: تصويرُ ما فيهِ رُوْحٌ من إنسانٍ أو حيوانٍ فعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقول: «كلُّ مُصوِّرٍ في النارِ يَجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرَها نَفْساً فتْعَذِّبُه في جهنم»، رواه مسلمٌ. وفي روايةٍ للبخاري: «مَنْ صوَّر صورةً فإن الله مُعذِّبُه حتى ينفخ فيها الروحَ وليس بنافخٍ فيها أبداً». فأما تصوير الأشجار والنباتِ والثمراتِ ونحوها مما يخلقُه الله من الأجسام الناميِة فلا بأسَ بِه على قول جمهورِ العلماءِ. ومِنهمْ مَنْ مَنع ذلك لما في صحيح البخاريِّ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقول: قال الله عزَّ وجلَّ: «ومَنْ أظلمُ مَّمن ذهبَ يخلقُ كخلقِي فلْيَخْلُقوا ذرَّةً أوْ لِيخلقوا حبةً أو شَعِيرةً».
السبب الحادي عشر: ما ثبتَ في الصحيحين عن حارثةَ بنِ وهْبٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركُم بأهل النارِ؟ كلُّ عُتُل جَوَّاظٍ مستكبرٍ»، فالعتلُّ الشديدُ الغليظُ الذي لا يلين للحَقِّ ولا للخلقِ، والجَّواظُ الشحيحُ البخيل فهو جمَّاعٌ منَّاعٌ، والمستكبرُ هو الذي يردُّ الحقَّ ولاَ يتواضعُ للخلقِ فهو يرَى نفسه أعلى من الناس ويرى رأيَه أصوبَ من الحقِّ.
السبب الثاني عشر: استعمالُ أواني الذَّهب والفضةِ في الأكلِ والشرب للرجالِ والنساءِ. ففي الصحيحين من حديث أمِّ سلمة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «الذي يشربُ في آنية الفضةِ إنما يجرجرُ في بطنِه نارَ جهنم». وفي رواية لمسلم: «إن الَّذِي يأكل أو يَشرب في آنيةِ الذهب والفضةِ إنما يجرجرُ في بطنِه نارَ جهنمَ».
فاحذرُوا إخواني أسبابَ دخولِ النار، واعملُوا الأسبابَ التي تُبْعِدُكم عنها لتفوزُوا في دارِ القرارَ، واعلمُوا أن الدنيا متاعٌ قليلٌ سريعةُ الزوالِ والانهيار، واسألوا ربَّكم الثباتَ على الحقِّ إلى الممات، وأن يحشُرَكم مع الذين أنعمَ الله عليهمْ من المؤمنين والمؤمنات.
اللَّهُمَّ ثبّتْنَا على الحقِّ وتوفَّنا عليه، واغفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ برحمتِك يا أرحم الراحمين. وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبهِ أجمعين.
-قمر الليالي-
06-18-2018, 06:41 AM
المجلس الثامن والعشرون: في زكاة الفطر
الحمدُ لله العليم الحكيم، العليِّ العظيم، خلقَ كلَّ شَيْءٍ فقَدَّره تقديراً، وأحْكَمَ شرائعَه ببالغِ حكمتِهِ بياناً للْخَلق وتَبْصيراً، أحمدُه على صفاتِه الكامِلة، وأشكرُه على آلائِه السابغة، وأشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلاّ الله وحده لا شريكَ له لَهُ الملكُ وله الحمدُ وهوَ على كلِّ شَيْء قدير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه البشيرُ النذير، صلَّى الله عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ المآبِ والمصِير، وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن شهرَكُمُ الكريمَ قد عزَم على الرحيل، ولم يبقَ منه إلاَّ الزمنُ القليلُ، فمَنْ كان منكم محسِناً فليحمدِ اللهَ على ذلك ولْيَسْألْه القَبولَ، ومَنْ كان منكم مهملاً فلْيتبْ إلى اللهِ ولْيَعْتَذِرْ من تقصيرِه فالعذرُ قبْلَ الموتِ مَقْبولٌ.
إخواني: إن الله شرعَ لكم في ختامِ شهرِكم هذا أنْ تؤَدُّوا زكاةَ الفطر قبْلَ صلاةِ العيدِ، وسنتكلم في هذا المجلسِ عن حُكْمِها وحكمتِها وجنسِها ومقدارِها ووقتِ وجوبِها ودفعِها ومكانِها.
فأما حكمُها فإنها فريضةٌ فرضَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم على المسلمينَ، وما فرضَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلّم أوْ أمَرَ به فلَهُ حكمُ ما فرضَه الله تعالى أو أمَرَ به. قال الله تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80]، وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]، وقال تعالى: {وَمَآءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} [الحشر: 7]. وهيَ فريضةٌ على الكبيرِ والصغيرِ والذكرِ والأُنثى والحرِّ والعَبْدِ من المسلمينَ. قال عبدُالله ابنُ عَمرَ رضي الله عنهما: فرض رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر من رمضانَ صاعاً من تَمْرٍ أو صاعاً من شعيرٍ على العبدِ والحرِّ والذكر والأنثى والصغيرِ والكبيرِ من المسلمين. متفق عليه.
ولا تجبُ عن الحمل الذي في البطن إلاَّ أنْ يتطوعَ بها فلا بأسَ، فقدْ كانَ أميرُ المؤمنينَ عثمانُ رضي الله عنه يخرجُها عن الحمل. ويجبُ إخراجُها عن نفسِه وكذلك عمن تَلْزَمُه مَؤُونَتُه من زوجةٍ أو قريبٍ إذا لم يستطيعوا إخراجَها عن أنفسِهم. فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجُوهَا عن أنفسِهم لأنَّهُم المخاطَبُون بها أصْلاً، ولا تَجِبُ إلاَّ على مَنْ وَجَدَها فاضلةً زائدةً عما يحتاجُه من نفقةِ يومِ العيدِ وليلتِه. فإنْ لم يجد إلاَّ أقلَّ من صاعٍ أخْرَجَه لقولِه تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم»، متفق عليه.
وأما حِكمتُها فظاهرةٌ جدّاً ففيها إحسانٌ إلى الفقراءِ وكفٌّ لهم عن السؤالِ في أيام العيدِ ليُشَاركوا الأغنياءَ في فرحِهم وسرورِهم بِه ويكونَ عيداً للجميع. وفيها الاتصافُ بخلق الكرمِ وحبِّ المواساة وفيها تطهيرُ الصائمِ مما يحصلُ في صيامِه من نقصٍ ولَغْوٍ وإثْمٍ، وفيها إظهارُ شكرِ نعمةِ الله بإتْمامِ صيامِ شهرِ رمضانَ وقيامِه وفعلِ ما تَيَسَّرَ من الأعمالِ الصالحةِ فيه.
وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاةَ الفطرِ طُهرةً للصائمِ من اللغوِ والرفثِ وطعمةً للمساكين، فمن أدَّاها قبل الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعدَ الصلاةِ فهي صدقةٌ من الصدقاتِ. رواه أبو داودَ وابنُ ماجة (1).
وأمَّا جنسُ الواجبِ في الفطرةِ فهو طعامُ الادميين من تمرٍ أوْ بُرِّ أوْ رزٍّ أو زبيبٍ أوْ أقِطٍ أو غيرها من طعامِ بِني آدمَ، ففي الصحيحين من حديث ابن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: فرضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم زكاةَ الفطر من رمضانَ صاعاً من تمرٍ أوْ صاعاً من شعيرٍ. وكانَ الشَّعيرُ يومَذَاك مِنْ طعامِهم كما قال أبو سعيدٍ الخدريُّ رضي الله عنه. كنا نُخْرِجُ يومَ الفطرِ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم صاعاً من طعامٍ وكان طعامُنَا الشعيرَ والزبيبَ والأقِطَ والتمرَ. رواه البخاري.
فلا يُجزِئُ إخراجُ طعامِ البهائمِ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فرضَها طعمةً للمساكين لا للبهائم.
ولا يجزئُ إخراجُها من الثياب والفُرُش والأواني والأمتعةِ وغيرِهَا مما سوى طعام الآدميين لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم فرضَها من الطعامِ فلا يُتَعَدَّى ما عيَّنَه الرسولُ صلى الله عليه وسلّم.
ولا يُجزِئُ إخراجُ قيمةِ الطعامِ لأنَّ ذلك خلافُ ما أَمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم. وقد ثبتَ عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قالَ: «مَنْ عَمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»، وفي روايةٍ: «من أحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ»، رواه مسلم. وأصلُه في الصحيحين ومعنى رَدٌّ مردودٌ. ولأنَّ إخراجَ القيمةِ مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم حيث كانوا يخرجونَها صاعاً من طعامٍ، وقد قال النَبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «عليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعْدِي» (1) ولأن زكاةَ الفطرِ عبادةٌ مفروضةٌ مِن جنسٍ مُعيَّن فلا يجزئُ إخراجها من غير الجنسِ المعيَّن كما لا يُجْزئُ إخراجها في غير الوقتِ المعيَّنِ. ولأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم عيَّنَها من أجناسٍ مختلفةٍ وأقْيامُها مختلَفةٌ غالباً. فلو كانت القيمةُ معتبرةً لكان الواجبُ صاعاً من جنسٍ وما يقابلُ قيمتَه من الأجناس الأخْرَى. ولأنَّ إخراج القيمةِ يُخْرِجُ الفطرةَ عن كَوْنِها شعيرةً ظاهرةً إلى كونها صدقةً خفيةً فإن إخراجَها صاعاً من طعامٍ يجعلُها ظاهرَةً بين المسلمينَ معلومةً للصغير والكبير يشاهدون كَيْلها وتوزِيعَها ويتعارفونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم يُخْرِجها الإِنسانُ خفية بينه وبين الآخذ.
وأما مقدارُ الفطرةِ فهو صاعٌ بصاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم الَّذِي يبلغُ وَزْنُه بالمثاقيلِ أربعَمائةٍ وثمانينَ مِثقالاً مِن الْبُرِّ الْجيِّد وبالغرامات كِيْلوَين اثنين وخْمُسَيْ عُشْر كِيْلو من البرِّ الجيِّد، وذلك لأنَّ زنَةَ المثقالِ أربعةُ غراماتٍ ورُبُعٌ فيكون مبلغُ أربعمائةٍ وثمانين مثقالاً ألْفَيْ غرام وأربعين غراماً. فإذا أراد أن يعرفَ الصاع النبويَّ فلْيزن كيلوينِ وأربعين غِراماً من البُرِّ الجيِّد ويضعها في إناءٍ بقدرِها بحيثُ تَملَّؤُه ثم يَكيلُ به.
وأما وقتُ وجوبِ الفطرةِ فهو غروبُ الشمسِ ليلةَ العيدِ، فمن كان مِنْ أهلِ الوجوبِ حينذَاك وجبتْ عليه وإلاَّ فلا. وعلى هذا فإذا مات قبلَ الغروب ولو بدقائقَ لم تجب الفطرةُ. وإن ماتَ بعدَه ولو بدقائقَ وجبَ إخراجُ فطرتِه، ولَوْ وُلِدَ شخصٌ بعدَ الغروب ولو بدقائقَ لم تجبْ فطرتُه، لكنْ يسن إخراجُها كما سبقَ وإن وُلِدَ قبل الغروبِ ولو بدقائقَ وجب إخراج الفطرةِ عنه.
وإنما كان وقتُ وجوبها غروبَ الشمس من ليلةِ العيدِ لأنَّه الوقت الذي يكونُ به الفطرُ من رمضان وهي مضافَةٌ إلى ذلك فإنه يقالُ: زكاةُ الفطرِ من رمضانَ فكانَ مناط الحكم ذلك الوقتُ.
وأمَّا زمنُ دفعِها فله وقتانِ: وقتُ فضيلةٍ ووقتُ جوازٍ. فأمَّا وقتُ الفضيلةِ: فهو صباحُ العيدِ قبلَ الصلاةِ لما في صحيح البخاريِّ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدرِيِّ رضي الله عنه قال: «كنَّا نُخْرِجُ في عهدِ النبي صلى الله عليه وسلّم يومَ الفطرِ صاعاً من طعامٍ»، وفيه أيضاً من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمَرَ بزكاةِ الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاةِ»، ورواه مسلم وغيره.
ولذلك كان من الأفضل تأخيرُ صلاةِ العيد يومَ الفطرِ ليتسعَ الوقتُ لإِخراج الفطرةِ. وأمَّا وقتُ الجوازِ فهو قبْل العيدِ بيوم أو يومين. ففي صحيح البخارَيِّ عن نافع قال: كانَ ابنُ عمرَ يعْطِي عن الصغير والكبير حتى وإنْ كانَ يعطِي عن بَنِيَّ، وكان يُعْطِيها الَّذِين يَقْبلونَها، وكانُوا يُعْطَون قبْلَ الفطرِ بيومٍ أو يومين.
ولا يجوزُ تأخيرُها عن صلاةِ العيدِ فإنْ أخَّرها عن صلاةِ العيدِ بلا عُذرٍ لم تُقْبَلْ منه لأنه خلافُ ما أمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم، وقد سبق من حديث ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ مَنْ أدَّاها قبْلَ الصلاةِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ مِنَ الصدقاتِ أمَّا إن أخَّرها لعذرٍ فلا بأسَ، مثلُ أن يصادفَه العيدُ في الْبَرِّ ليس عنده ما يدفعُ منه أو ليسَ عنده مَنْ يدفُع إليه، أو يأتَي خبرُ ثبوتِ العيدِ مفاجِئاً بحيثُ لا يَتَمَكَّنُ مِن إخراجها قبْلَ الصلاةِ أو يكون معتمداً على شخصٍ في إخراجها فينسى أنْ يُخْرِجَهَا فلا بأسَ أن يخرجها ولو بعدَ العيدِ لأنَّه معذورٌ في ذلك.
والواجبُ أنْ تصلَ إلى مستحقِّها أو وكيْلِهِ في وقتِها قبلَ الصلاةِ، فلو نَوَاها لشخصٍ ولم يصادفْه ولا وكِيْلَه وقتَ الإِخراجِ فإنه يدفعها إلى مستحق آخرَ ولا يؤخِّرُها عن وقتِهَا.
وأما مكانُ دفِعها فتدفعُ إلى فقراءِ المكانِ الَّذِي هو فيه وقت الإِخراج سواءٌ كانَ محل إقامتِهِ أو غَيرَه من بلادِ المسلمينَ لا سيَّما إن كانَ مكاناً فاضلاً كَمكَّة، والمدينةِ، أو كانَ فقراؤه أشدَّ حاجةً. فإن كان في بلدٍ ليس فيه مَنْ يدفعُ إليه أو كانَ لا يعرفُ المستحِقينَ فيه وكَّلَ من يدفعها عنه في مكانٍ فيه مستَحِقٌ.
والمستحِقُون لزكاةِ الفطرِ هُمْ الفقراءُ ومَنْ عليهم ديونٌ لا يستطيعونَ وفاءَها فيُعْطَون منها بقدر حاجتِهم. ويجوزُ توزيعُ الفطرةِ على أكثرَ من فقيرٍ. ويجوزُ دفعُ عددٍ من الْفِطَر إلى مسكينٍ واحدٍ، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قَدَّر الواجبَ ولم يقدِّر مَنْ يدفعُ إليهِ، وعلى هذا لو جَمَعَ جماعةٌ فطرَهم في وعاءٍ واحدٍ بعدَ كيلها وصارُوا يدفُعون منه بلا كيلٍ ثانٍ أجْزَأهم ذلك، لكنْ ينبَغِي إخبار الفقِير بأنَّهم لا يعلمُون مقدارَ ما يدفعون إليه لئَلاَّ يَغْتَرَّ به فيدفعه عن نفسه وهو لا يدري عن كيلِه. ويجوز للفقير إذا أخَذَ الفطرةَ من شخصٍ أن يدفَعَهَا عن نفسِه أو أحدٍ من عائلتِهِ إذا كالَهَا أو أخبرَه دافعها أنَّها كاملةٌ ووَثِقَ بِقَوْلِه.
اللَّهُمَّ وفِّقْنا للقيام بطاعتِك على الوجهِ الَّذِي يرضيكَ عنَّا، وَزَكِّ نفوسَنا وأقوالَنا وأفعالَنَا وطهِّرنَا من سوءِ العقيدةِ والقولِ والعملِ إنك جوادٌ كريمٌ. وصلَّى الله وسلَّم على نبيَّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-19-2018, 06:53 AM
المجلس التاسع والعشرون: في التوبة
الحمدُ لله الَّذِي نَصب من كلِّ كائنٍ على وَحْدانيتِه بُرهاناً، وتصرَّفَ في خليقَتِه كما شاءَ عزّاً وسُلطاناً، واختارَ المتقينَ فوَهبَ لهم أمناً وإيماناً، وعمَّ المذنبينَ بحلْمِه ورحمتِه عفْواً وغُفراناً، ولم يَقطعْ أرزاقَ أهلِ معصيتِه جوداً وامتناناً، روَّح أهلَ الإِخلاصِ بنسيم قربه، وحذَّر يومَ الحساب بجسيمِ كربِه، وحفظ السالكَ نحوَ رضاه في سِرْبه، وأكرَمَ المؤمنَ إذْ كتب الإِيمانَ في قلبِه. حَكَمَ في بَرِيَّتِه فأمَر ونَهَى، وأقام بمعونتِهِ ما ضَعُفَ ووَهىَ، وأيْقَظَ بموْعظتِهِ مَنْ غفَل وَسَها، ودَعَا المُذْنِبَ إلى التوبةِ لغفرانِ ذنبه، ربٌّ عظيمٌ لا يماثل الأنام، وغنيٌّ كريمٌ لا يحتاجُ إلى الشرابِ والطعام، الْخَلْقُ مفتقرونَ إليه وعلى الدوام، ومضْطرُّون إلى رحمتِهِ في الليالي والأيام.
أحمدُه حمدَ عابدٍ لربه، معتذرٍ إليه من تقصيرِهِ وذنبِه، وأشهدُ أن لا إِلهَ إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مُخلِصٍ من قلبِه، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى من حِزبه، صلَّى الله عليه وعلى أبي بكرٍ خيرِ صحبِه، وعلى عمرَ الَّذِي لا يسِيرُ الشيطانُ في سِرْبِه، وعلى عثمانَ الشهيد لا في صفِّ حَرْبِه، وعلى عليٍّ مُعينِه في حَرْبه، وعلى آلِهِ وأصحابِه ومن اهتدى بهدْيِه، وسلَّم تسليماً.
إخواني: اختمُوا شهرَ رمضانَ بالتوبةِ إلى الله من معاصِيْه، والإِنابةِ إليهِ بفعل ما يُرْضيه، فإنَّ الإِنسانَ لا يخلُو من الْخَطأ والتقصير، وكلُّ بنِي آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون، وقد حثَّ الله في كتابه وحثَّ النبي صلى الله عليه وسلّم في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه، فقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6]، وقال تعالى: {وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهاَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال سبحانه: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التحريم: 8]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَبِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. والآياتُ في ذكرالتوبةِ عديدة.
وأما الأحاديثُ فمنها: عن الأغَرِّ بنِ يَسَار المُزنيِّ رضي الله عنهُ قال: قالَ النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناسُ توبُوا إلى الله واستغفروه فإني أتوبُ في اليوم مئةَ مرة»، رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إني لأستغفر اللهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعين مرة»، رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «للهُ أشدُ فرَحاً بتوبةِ عبدِه حين يتوبُ إليهِ من أحدِكم كان على راحلتِه بأرضٍ فلاةٍ فانفلتت منُه وعليها طعامُه وشرابُه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجعَ في ظلِّها وقد أيِس من راحلتِه، فبينما هُو كذَلِكَ إذْ هو بها قائمةً عندَه، فأخذَ بخِطامِها،
ثم قالَ من شدَّةِ الفرحِ: اللَّهُمَّ أنتَ عبِدي وأنا ربُّك أخطأ من شدَّةِ الفرحِ»، رواه مسلم. وإنما يفرحُ سبحانَه بتوبةِ عبدِه لمحبَّتِه للتوبةِ والعفْوِ ورجوعِ عبدِه إليه بعد هَربِه منه، وعن أنس وابن عباسٍ رضي الله عنهم أنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لو أن لابن آدم وادياً من ذهبٍ أحبَّ أن يكونَ له وادِيَانِ ولن يملأ فَاه إِلاَّ الترابُ ويتوبُ الله على مَن تابَ»، متفق عليه.
فالتوبةُ هي الرجوعُ من معصية الله إلى طاعتِه لأنَّه سبحانه هو المعبودُ حقاً، وحقيقةُ العُبوديةِ هي التذللُ والخضوعُ للمعبودِ محبةً وتعظيماً، فإذا حصلَ مِنَ العبدِ شرودٌ عن طاعةِ ربِّه فتوبتُه أن يرْجعَ إليه ويقفَ ببابِه موقفَ الفقيرِ الذليلِ الخائف المنكسرِ بينَ يديِه.
والتوبةُ واجبةٌ على الفَوْرِ لا يجوزُ تأخيرُها ولا التسويفُ بها، لأنَّ الله أمَرَ بها ورسولُه، وأوَامِرُ الله ورسولِهِ كلُّها على الفورِ والمبادرةِ لأنَّ العبدَ لا يدري ماذا يحصلُ له بالتأخيرِ، فلعلَّهُ أن يفجأه الموتُ فلا يستطيعُ التوبةَ، ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ قَسْوةَ القلب وبُعْدَه عن الله عزَّ وجلَّ وضعفَ إيمانه، فإنَّ الإِيمانَ يزيْد بالطاعاتِ وينقصُ بالعصيانِ، ولأنَّ الإِصرارَ على المعصيةِ يوجبُ إلْفَهَا والتَّشبُّثَ بها، فإنَّ النفسَ إذا اعتادتْ على شيء صعُب عليها فِراقُه وحيئنذٍ يعسرُ عليه التخلصُ من معصيتِه ويفتحُ عليه الشيطانُ بابَ معاصٍ أخرى أكبرَ وأعظمَ مما كانَ عليه. ولِذَلِكَ قال أهلُ العلم وأربابُ السلوكِ: إن المعاصيَ بَرِيدُ الكفر ينتقلُ الإِنسانُ فيها مرحلةً مرحلةً حتى يزيغَ عن دينِه كلِّه نسأل الله العافيةَ والسلامةَ.
والتوبةُ التي أمر الله بها هي التوبةُ النصوحُ التي تشتمِلُ على شرَائطِ التوبةِ وهي خمسةٌ:
الأولُ: أن تكونَ خالِصةً لله عزَّ وجلَّ بأن يكونَ الباعِثُ لها حبَّ الله وتعظيمَه ورجاءَ ثوابِه والخوفَ من عقابِه، فلا يريدُ بها شيئاً من الدَنيا ولا تزَلُّفاً عند مخلوقٍ، فإن أراد هذَا لم تقبلْ توبتُه لأنَّه لم يَتُبْ إلى الله وإنما تابَ إلى الغرضَ الَّذِي قصدَه.
الثاني: أن يكونَ نادماً حزِناً على ما سلفَ من ذنبه يتمنَّى أنه لم يحصلْ منه لأجلِ أن يُحدثَ له ذلكَ الندمُ إنابةً إلى الله وانكساراً بينَ يديه ومَقْتاً لنفسه التي أمَرَتْه بالسوءِ فتكونُ توبتُه عن عقيدةٍ وبصيرةِ.
الثالثُ: أنْ يُقْلِعَ عن المعصيةِ فوراً، فإن كانتِ المعصيةُ بفعلِ محرمٍ تَرَكَهُ في الحالِ، وإن كانتْ المعصيةُ بتركِ واجبٍ فَعَله في الحالِ إنْ كان مما يمكن قضاؤه كالزكاةِ والحجِّ، فلا تصحُّ التوبةُ مع الإِصرارِ على المعصيةِ فلو قال: إنه تابَ من الرِّبا مثلاً وهو مستمرٌ على التعامُل به لم تصحَّ توبتُه ولم تكنْ هذه إلاَّ نَوْعَ استهزاءٍ بالله وآياتِه لاتزيدُه مِنَ الله إِلاَّ بُعداً. ولو تابَ من تركِ الصلاةِ مع الجماعةِ وهو مستمرٌ على تركِها لم تصح توبتُه.
وإذا كانتِ المعصيةُ فيما يتعلقُ بحقوقِ الخلقِ لم تصحَّ التوبةُ منها حتى يتخلَّصَ من تلك الحقوقِ، فإذا كانتْ معصيتُه بأخذِ مالٍ للغيرِ أو جحدِه لم تصح توبتُه حتى يؤدِّيَ المالَ إلى صاحبِه إن كان حيَّاً أو إلى ورثتِه إن كان ميتاً، فإن لم يكنْ له ورثةٌ أدَّاهُ إلى بيت المالِ، وإن كانَ لا يدري مَنْ صاحبُ المالِ تصدَّقَ به له والله سبحانَه يعلمُ بِه، وإن كانتْ معصيتُه بغِيْبَةِ مسلم وجبَ أن يَسْتحلَّهُ من ذلك إن كانَ قد علمَ بِغيبتِه إيَّاه أو خافَ أن يَعلَمَ بِها وإِلاَّ استغفَرَ له وأثْنَى عليهِ بصفاتِه المحمودةِ في المجلسِ الَّذِي اغتابَه فيه فإن الحسناتِ يُذْهِبْن السيئاتِ.
وتصحُّ التوبةُ من ذنبٍ مَعَ الإِصرارِ على غيرِه، لأنَّ الأعمال تتبعَّضُ والإِيمانَ يتفاضلُ، لكن لا يستحقُّ الوصفَ المطلقَ للتوبةِ وما يستحقُّه التائبون على الإِطلاقِ من الأوصافِ الحميدةِ والمنازلِ العاليةِ حتى يتوبَ إلى الله من جميع الذنوبِ.
الرابعُ: أن يعزمَ على أن لا يعودَ في المستقبل إلى المعصيةِ؛ لأنَّ هذه ثمرةُ التوبةِ ودليلُ صِدْقِ صاحبِها. قإن قالَ: إنه تائبٌ وهو عازمٌ أو متردِّدٌ في فعلِ المعصيةِ يوماً مَّا لم تصح توبتُه لأنَّ هذه توبةٌ مُؤقَّتةٌ يتحَّينُ فيها صاحبُها الْفُرَصَ المناسبةَ ولا تدل على كراهيتِهِ للمعصيةِ وفرارِه منها إلى طاعةِ الله عزَّ وجلَّ.
الخامسُ: أن لا تكونَ بَعْدَ انتهاءِ وقتِ قبولِ التوبةِ. فإن كانتْ بعد انتهاءِ وقتِ القبولِ لم تُقْبَلْ. وانتهاءُ وقتِ القبولِ نوعانِ. عامٌ لكلِّ أحدٍ وخاصٌ لكلِّ شخصٍ بنفسِه.
فأما العامُّ: فهو طلوعُ الشمسِ من مغربها، فإذا طلعتْ الشمسُ من مغربها لم تنفع التوبةُ. قال الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] والمرادُ ببعضِ الاياتِ طلوعُ الشمس من مغربها فسَّرَها بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلّم، وعن عبدالله بن عَمْرو بن العاصِ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «لا تزال التَّوبَةُ تُقْبَلُ حَتَّى تطلعَ الشَّمسُ من مغربها، فإذا طلعتْ طُبعَ على كلِّ قلبٍ بِما فيهِ وكفَى الناسَ العملُ». قال ابنُ كثيرٍ: حسنُ الإِسنادِ وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ تابَ قبلَ أن تطلُعَ الشمس مِنْ مغربِها تاب الله عليه»، رواه مسلم.
وأما الخاصُّ: فهو عندَ حضورِ الأجلِ فمتَى حضر أجلُ الإِنسانِ وعاينَ الموتَ لم تنفعْه التوبةُ ولم تُقْبلْ منه. قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الأَنَ} [النساء: 18] وعن عبدِالله بن عمرَ بن الْخَطَّابِ رضي الله عنهما، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يَقْبَلُ تَوبةَ العبدِ ما لَمْ يُغرغِرْ» يعني بِرُوحِه، رواه أحمدُ والترمذيُّ وقال: حديثٌ حسنٌ.
وَمَتَى صحَّتِ التوبةُ باجتماع شروطِها وقُبِلتْ محا الله بها ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي تابَ منه وإنْ عَظُمَ. قال الله تعالى: {قُلْ يعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 35].
وهذه الآيةُ في التائبينَ المنيبينَ إلى ربِّهم المسلِمين لَهُ. قال الله عالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110].
فبادِرُوا رَحِمَكم الله أعماركم بالتوبةِ النصوحِ إلى ربِّكم قبل أن يفجأكم الموتُ فلا تستطِيعون الخلاص.
اللَّهُمَّ وفقْنَا للتوبةِ النصوحِ التي تمْحُو بها ما سلَفَ من ذنوبنا ويسِّرْنَا لليُسْرى، وجنِّبْنَا العسرى، واغفرْ لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمينَ في الآخِرةِ والأولى، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ. وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
-قمر الليالي-
06-19-2018, 06:57 AM
المجلس الثلاثون: في ختام الشهر
الحمدُ لله الواسعِ العظيم، الجوادِ البَرِّ الرَّحِيم، خلقَ كلَّ شَيْء فقدَّره، وأنزلَ الشرعَ فَيَسَّره وهو الحكيمُ العليم، بدأ الخلقَ وأنهاه، وسيَّر الفَلَكَ وأجراه، {وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38 - 40].
أحمدُهُ على ما أوْلى وهدَى، وأشكرهُ على ما وهبَ وأعطَى، وأشهدُ أنه لا إِله إِلاَّ هو الملك العليُّ الأعلى، الأولُ الَّذِي ليس قَبْلَه شَيْء، والاخِرُ الَّذِي ليس بَعْدَه شيء، والظاهرُ الَّذِي ليس فوقَه شيء، والباطِنُ الَّذِي ليس دونَه شيء، وهو بكلِّ شيء عليم، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه المصطفى على المرسلين، صلَّى الله عليه وعلى صاحبِه أبي بكر أفضل الصِّدِّيقين، وعلى عمرَ المعروفِ بالقوةِ في الدِّين، وعلى عثمانَ المقتولِ ظلماً بأيدي المجرمين، وعلى عليٍّ أقربِهم نسباً على الْيقين، وعلى جميعِ آلِهِ وأصحابِه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليماً.
إخواني: إن شهرَ رمضانَ قَرُبَ رحيلُه وأزِفَ تحويلُه، وإنه شاهدٌ لكم أو عليكم بما أودعتموه من الأعمال، فمن أودعه عملاً صالحاً فليحمد الله على ذلك وليَبْشِر بِحُسْنِ الثوابِ، فإن الله لا يضيعُ أجرَ مَنْ أحسنَ عملاً، ومن أودَعه عملاً سيئاً فَليتُبْ إلى ربِّه توبةً نصوحاً فإن الله يتوبُ على من تاب، ولَقَدْ شرعَ الله لكم في خِتامِ شهرِكم عباداتٍ تزيدُكم من الله قُرْباً وتزيدُ في إيمانكم قُوَّةً وفي سِجلِّ أعمالِكم حسنات، فشرعَ الله لكم زكاةَ الفطرِ وتقدَّم الكلامُ عليها مفصَّلاً، وشرع لكم التكبيرَ عند إكْمالِ الْعِدَّةِ من غروبِ الشمس ليلة العيدِ إلى صلاةِ العيدِ. قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] وصِفتُهُ أنْ يقولَ الله أكبر الله أكبر لا إِله إِلاَّ الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ويُسَنُّ جهرُ الرجالِ به في المساجدِ والأسواقِ والبيوتِ إعلاناً بتعظيم الله وإظهاراً لعبادتِه وشكرِه ويُسِرُّ به النساءُ لأنهن مأموراتٌ بالتَستُّر والإِسرار بالصوتِ، ما أجملَ حالَ الناسِ وهُمْ يكبِّرون الله تعظيماً وإجلاَلاً في كلِّ مكانٍ عندَ انتهاء شهرِ صومِهم يملأون الآفاق تكبيراً وتحميداً وتهليلاً يرجون رحمةَ اللهِ ويخافون عذابَه. وشرَع الله سُبحانه لعبادِه صلاةَ العيدِ يومَ العيد وهي من تمام ذكر الله عزَّ وجلَّ، أمَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم بها أمَّتَه رجالاً ونساءً، وأمْرُه مطاعٌ لقولِه تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} [محمد: 33]. وقد أمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم النساءَ أن يَخْرُجنَ إلى صلاةِ العيد، مع أنَّ البيوتَ خيرٌ لهن فيما عدَا هذه الصلاة.
وهذا دليلٌ على تأكيدها، قالت أمُّ عطيةَ رضيَ الله عنها: أمَرَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم أن نُخرجهُن في الْفِطْرِ والأضحى؛ العَوَاتِقَ والحُيَّضَ وذواتِ الخُدورِ، فأمَّا الحيَّضُ فيعتزِلْنَ المُصَلَّى ويشهدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. قلتُ: يا رسولَ الله إحْدانَا لا يكونُ لها جِلبابٌ، قال: «لِتُلْبِسْها أختُها مِنْ جلبابِها». متفق عليه. الجلبابُ لباسٌ تلتحفُ فيه المرأة بمنزلةِ العباءةِ.
ومن السُّنَّة أنْ يأكُلَ قبلَ الخروجِ إلى الصلاة في عيدِ الفطرِ تَمَرَاتٍ وتراً ثلاثاً أوْ خمساً أو أكثرَ من ذلك يَقْطَعُها على وِترٍ لقولِ أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: «كان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لا يَغْدُو يومَ الفطرِ حتى يأكل تمراتٍ ويأكلُهن وِتراً»، رواه أحمدوالبخاري. ويخرُجُ ماشياً لاَ راكباً إلا مِنْ عذرٍ كعَجْزٍ وبُعْدٍ لقولِ عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «من السنةِ أن يخرُجَ إلى العيدِ ماشياً»، رواه الترمذيُّ وقال: حديث حسن (فيه الحارث الأعور وأكثر الحفاظ على توهينه، ووثقه بعضهم).
ويسنُّ للرجلِ أنْ يتجَمَّل ويلبسَ أحسنَ ثيابِه لما في صحيح البخاري عن عبدالله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قال: أخَذَ عُمَرُ جبةً من إسْتَبرقٍ ـ أي حريرٍ ـ تباعُ في السوقِ فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالَ: يا رسولَ الله ابْتَعْ هذِه يعني اشتَرِها تجمَّلُ بها للعيدِ والوفودِ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما هذِهِ لباسُ مَنْ لا خلاقَ له»، وإنما قالَ ذلك لكونها حريراً. ولا يجوزُ للرجل أن يلبسَ شيئاً من الحريرِ أو شيئاً من الذهب لأنهما حرامٌ على الذكورِ من أمَةِ محمد صلى الله عليه وسلّم. وأما المرأةُ فتَخرجُ إلى العيدِ غير متجمِّلةً ولا متطيِّبةً ولا متبرجةً ولا سافرةً لأنها مأمورةٌ بالتَّسَتر منهِيةٌ عن التبُّرِجِ بالزينةِ وعن التطيُّبِ حالَ الخروجِ.
ويُؤَدي الصلاةَ بخشوعٍ وحضورِ قلبٍ، ويكثرُ من ذكرِ الله ودعائِه ويرجو رحمتَه، ويخافُ عذابَه، ويتذكرُ باجتماع الناس في الصلاةِ على صعيد المسجدِ اجتماعَ الناسِ في المَقَام الأعظمِ بينَ يدي الله عزَّ وجلَّ في صعيدِ يومِ القيامةِ، ويَرى إلى تفَاضِلِهم في هذا المجتمع فيتذكر به التفاضلَ الأكبرَ في الآخرةِ، قال الله تعالى: {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلأَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإِسراء: 21]. ولْيكُنْ فَرحاً بنعمةِ الله عليه بإدراكِ رمضانَ وعمل ما تَيَسَّرَ فيه من الصلاةِ والصيام والقراءةِ والصدقةِ وغير ذلك من الطاعاتِ فإنَّ ذلك خيرٌ من الدنيا وما فيها {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] فإنَّ صيامَ رمضانَ وقيامَه إيماناً واحتساباً من أسباب مغفرةِ الذنوبِ والتخلصِ من الآثام. فالمؤمِنُ يفرحُ بإكمالِه الصومَ والقيام، لتَخلُّصِه به من الآثام، وضعيفُ الإِيمانِ يفرحُ بإكمالِه لتَخلُّصِه من الصيامِ الَّذِي كان ثقيلاً عليه ضائقاً به صدرُه، والْفَرقَ بين الفرحين عظيم.
إخواني: إنه وإن انْقَضَى شهرُ رمضانَ فإن عمل المؤمنِ لا ينقضِي قبْلَ الموت. قال الله عزَّ وجلَّ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «إذا مات العبدُ انقطعَ عملُه»، فلم يَجْعلْ لانقطاع العملِ غايةً إلاّ الموتَ، فلئِن انقضى صيامُ شهرِ رمضانَ فإن المؤمنَ لن ينقطعَ من عبادةِ الصيام بذلك، فالصيام لا يزالُ مشروعاً ولله الحمد في العام كلِّه.
ففي صحيح مسلمٍ من حديثِ أبي أيوبَ الأنصاريِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «من صامَ رمضانَ ثم أتْبَعه ستاً من شوالٍ كان كصيام الدهرِ». وصيامُ ثلاثةِ أيام من كلِّ شهرٍ قال فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله»، رواه أحمد ومسلم. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أوصانِي خَلِيلي صلى الله عليه وسلّم بثلاثٍ وذكر منها صيام ثلاثةِ أيامٍ من كلِّ شهر.
والأوْلَى أن تكونَ أيامَ الْبِيض وهي الثالث عشرَ والرابعَ عشرَ والخامسَ عشرَ، لحديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يا أبا ذرٍّ إذا صمت من الشهر ثلاثةً فصُم ثلاثَ عشرةَ وأربعَ عشرةَ وخمسَ عشرةَ»، رواه أحمد والنسائي في الصحيح.
وفي صحيح مسلم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ عن صومِ يومِ عرفة فقال: «يُكَفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقيةَ». وسُئِلَ عن صيامِ عاشُورَاءَ فقال: «يُكَفِّر السنةَ الماضيةَ». وسُئِلَ عن صومِ يوم الاثنين فقال: «ذَاكَ يومٌ وُلِدتُ فيه ويومٌ بُعِثْتُ فيه أوْ أُنزِلَ عَلَيَّ فيه». وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم سُئِلَ: أيُّ الصيامِ أفضلُ بَعْد شهرِ رمضانَ؟ قال: «أفضلُ الصيامِ بعد شهرِ رمضانَ صيامُ شهر الله المحَرَّمِ».
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالتْ: «ما رأيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم اسْتَكْمَل شهراً قطُّ إِلاَّ شهرَ رمضانَ. وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ صياماً منه في شعبانَ». وفي لفظ: «كان يصومُه إِلاَّ قليلاً». وعنها رضي الله عنها قالتْ: «كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم يتَحَرَّى صيامَ الاثنين والخميس»، رواه الخمسة إلاَّ أبا داودَ فَهُوَ له من حديثِ أسامةَ بن زيدٍ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ فأحبُّ أن يُعْرَضَ عملِي وأنا صائمٌ»، رواه الترمذيُّ (ضعيف لكن له شاهد يعضده، وقد ثبت في صحيح مسلم أن الأعمال تعرض كل يوم اثنين وخميس).
ولئِن انقَضَى قيامُ شهرِ رمضانَ فإنَّ القيامَ لا يزالُ مشروعَاً ولله الحمدُ في كلِّ ليلةٍ من ليالِي السَّنَةِ ثابتاً من فعلِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلّم وقولِه، ففي صحيح البخاري عن المغيرةِ بن شعبةَ رضي الله عنه قال: إن كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم لَيَقُومُ أو لَيُصَلِّي حَتَّى تَرِمَ قَدمَاه، فيقالُ لَهُ فيقولُ: «أفَلاَ أكونُ عبداً شكوراً؟»، وعن عبدِالله بن سَلاَم رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أيُّها الناسُ أفْشُوا السَّلامَ وأطِعموا الطعامَ وصِلُوا الأرحامَ وصَلُّوا بالليل والناسُ نيامٌ تَدْخلوا الجنةَ بسَلامِ»، رواه الترمذيُّ وقال: حسن صحيح (رواه الإمام أحمد أيضاً وله شواهد يرتقي بها إلى الصحة).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «أفضلُ الصلاةِ بعد الفريضة صلاة الليل». وصلاة الليل تشمل التطوع كلَّه والوتر فيصلِّي مَثْنَى مثنى فإذا خَشِيَ الصبحَ صلَّى واحدةً فأوتَرَت ما صَلَّى، وإن شاءَ صلَّى على صفةِ ما سبقَ في المجلس الرابعِ.
وفي الصحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: «يَنْزلُ ربُّنا تباركَ وتعالى كلِّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حينَ يبقى ثلثُ الليل الآخِرُ فيَقولُ: مَنْ يدعونِي فأسْتجِيبَ له؟ مَن يسألُني فأعطيه؟ من يستغفَرُني فأغفرَ له؟».
والرواتبُ التابعَةُ للفرائِض اثنتَا عشْرةَ ركعةً: أربعٌ قبل الظهرِ وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل صلاةِ الفجرِ، فَعَنْ أمِّ حبيبةَ رضي الله عنها قالتْ: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم يقولُ: «ما من عبدٍ مسلمٍ يصلَّي لله تعالى كلَّ يومٍ ثِنْتَيْ عَشْرة ركعة تطوعاً غير فريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة»، وفي لفظ: «من صلَّى ثِنْتَي عشرةَ ركعةً في يومٍ وليلة بُنِي له بهن بيتٌ في الجنة»، رواه مسلم.
والذِّكرُ أدْبارَ الصلواتِ الخمس أمرَ اللهُ به في كتابه وحثَّ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلّم إذا سلَّم استغفرَ ثلاثاً وقال: «اللَّهُمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ تباركتَ يا ذَا الجلالِ والإِكرام»، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلّم: «من سبَّح الله في دُبُرِ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثينَ وحمدَ اللهَ ثلاثاً وثلاثين وكبَّرَ ثلاثاً وثلاثين فتلك تِسْعةٌ وتسعون، ثم قالَ تمام المئةِ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ الملكِ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قدير غفرت خطاياه وإن كانت مثلَ زَبَد البحرِ»، رواه مسلم.
فاجتهدُوا إخوانِي في فعلِ الطاعاتِ، واجتنبُوا الخطايَا والسيئاتِ، لتفوزُوا بالحياةِ الطيبةِ في الدنيا والأجْرِ الكثير بعد المَمَات قال الله عزَّ وجلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَلِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَوةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ طَيِّبَةً} [النحل: 97].
اللَّهُمَّ ثبِّتنا على الإِيمانِ والعملِ الصالحِ، وأحينَا حياةً طيبةً، وألْحِقْنَا بالصَّالحين، والحمد لله ربِّ العالمينَ وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعين.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا، نسألُ الله أن يجعلَ عملنَا خالصاً لوجهه ومقرباً إليه ونافعاً لعباده، وأن يتولانا في الدنيا والآخرةِ ويهدينَا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وكان الفراغ منه يوم 29 محرم
من عام ستة وتسعين وثلاث مئة وألف
على يد مؤلفه الفقير إلى مولاه محمد بن صالح العثيمين
والحمد لله رب العالمين
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِه أجمعين.
vBulletin® v3.8.11, Copyright ©2000-2024