ابتسامة
10-23-2013, 02:49 AM
http://im35.gulfup.com/azNvF.png (http://www.monms.com/vb)
الآداب والرقائق
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
http://im36.gulfup.com/lddtw.png (http://www.monms.com/vb)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد
وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين
أمــــــ بعد ـــــــا؛
وأما الخطرات : فشأنها أصعب ، فإنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، فمن راعى خطراته
ملك زمام نفسه وقهر هواه ، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ، ومن استهان بالخطرات قادته قهرا
إلى الهلكات ، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة .
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
[ سورة النور : 39 ] .
وأخس الناس همة وأوضعهم نفسا ، من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة ، واستجلبها لنفسه وتجلى بها ،
وهي لعمر الله رءوس أموال المفلسين ، ومتاجر البطالين ، وهي قوت النفس الفارغة ، التي قد قنعت من
الوصل بزورة الخيال ، ومن الحقائق بكواذب الآمال ، كما قال الشاعر :
أماني من سعدى رواء على الظما سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
وهي أضر شيء على الإنسان ، ويتولد منها العجز والكسل ، وتولد التفريط والحسرة [ ص: 155 ] والندم ،
والمتمني لما فاتته مباشرة الحقيقة بجسمه حول صورتها في قلبه ، وعانقها وضمها إليه ، فقنع بوصال
صورة وهمية خيالية صورها فكره .
وذلك لا يجدي عليه شيئا ، وإنما مثله مثل الجائع والظمآن ، يصور في وهمه صورة الطعام والشراب ،
وهو لا يأكل ولا ويشرب .
والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خسارة النفس ووضاعتها ، وإنما شرف النفس وزكاؤها ، وطهارتها
وعلوها بأن ينفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها ، ولا يرضى أن يخطرها بباله ، ويأنف لنفسه منها .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول :
خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه .
وخطرات يستدفع بها مضار دنياه .
وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته .
وخطرات يستدفع بها مضار آخرته .
فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة ، فإذا انحصرت له فيها أمكن اجتماعه منها ولم يتركه
لغيره ، وإذا تزاحمت عليه الخطرات لتزاحم متعلقاتها ، قدم الأهم فالأهم الذي يخشى فوته ،وأخر الذي ليس بأهم
ولا يخاف فوته .
بقي قسمان آخران :
أحدهما : مهم لا يفوت .
والثاني : غير مهم ولكنه يفوت .
ففي كل منهما ما يدعو إلى تقديمه ، فهنا يقع التردد والحيرة ، فإن قدم المهم ؛ خشي فوات ما دونه ،وإن قدم ما دونه
فاته الاشتغال به عن المهم ، وكذلك يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ،ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر .
فهو موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ، ومن هاهنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح ، وخاب من خاب ، فأكثر من
ترى ممن يعظم عقله ومعرفته ، يؤثر غير المهم الذي لا يفوت على المهم الذي يفوت ، ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ،
ولكن مستقل ومستكثر .
والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر ، وإليها مرجع الخلق والأمر ، وهي إيثار أكبر
المصلحتين وأعلاهما ، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها ،والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها .
[ ص: 156 ] فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها ، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
خطرات العاقل
فخطرات العاقل وفكره لا يجاوز ذلك ، وبذلك جاءت الشرائع ، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على
ذلك ، وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها : ما كان لله والدار الآخرة ، فما كان لله فهو أنواع :
أحدها : الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها ، وفهمها وفهم مراده منها ، ولذلك أنزلها الله تعالى ، لا لمجرد تلاوتها ،
بل التلاوة وسيلة . قال بعض السلف : أنزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا .
الثاني : الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها ، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته ، وحكمته وإحسانه ،
وبره وجوده ،وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها ، وذم الغافل عن ذلك .
الثالث : الفكرة في آلائه وإحسانه ، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم ، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه .
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه . ودوام الفكرة في ذلك مع
الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة .
الرابع : الفكرة في عيوب النفس وآفاتها ، وفي عيوب العمل ، وهذه الفكرة عظيمة النفع ، وهذا باب لكل
خير ، وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء ، ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانبعثت وصار
الحكم لها ، فحيي القلب ، ودارت كلمته في مملكته ، وبث أمراءه وجنوده في مصالحه .
الخامس : الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه ، فالعارف ابن وقته ، فإن أضاعه
ضاعت عليه مصالحه كلها ، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت ، وإن ضيعه لم يستدركه أبدا .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
قال الشافعي- : " صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين : أحدهما قولهم : الوقت سيف ،
فإن قطعته وإلا قطعك " .
وذكر الكلمة الأخرى : " ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل " .
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم ، ومادة المعيشة الضنك
في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من السحاب ، فما كان من وقته لله وبالله [ ص: 157 ] فهو حياته وعمره ،
وغير ذلك ليس محسوبا من حياته ، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم ، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو
والأماني الباطلة ، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة ، فموت هذا خير له من حياته .
وإذا كان العبد - وهو في الصلاة - ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله .
وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر ، فإما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة ، وخدع كاذبة ، بمنزلة خواطر
المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ، ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق :
إن كان منزلتي في الحشر عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر ، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته ، فالخاطر كالمار على الطريق ، فإن تركته مر وانصرف
عنك ،وإن استدعيته سحرك بحديثه وغروره ، وهو أخف شيء على النفس الفارغة الباطلة ، وأثقل شيء على
القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة .
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين : نفسا أمارة ونفسا مطمئنة ، وهما متعاديتان ، فكل ما خف على هذه
ثقل على هذه ، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى ، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه
على هواها ، وليس لها أنفع منه ، وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله ،وما جاء به داعي الهوى .
وليس عليها شيء أضر منه ، والملك مع هذه عن يمنة القلب،والشيطان مع تلك عن يسرة القلب ،والحروب مستمرة
لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا ، والباطل كله يتحيز مع الشيطان والأمارة ،والحق كله يتحيز مع الملك
والمطمئنة،والحرب دول وسجال ، والنصر مع الصبر ، ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العاقبة في الدنيا والآخرة،
وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا : أن العاقبة للتقوى،والعاقبة للمتقين،فالقلب لوح فارغ ،والخواطر نقوش تنقش
فيه ، فكيف يليق بالعاقل أن يكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع ، وأماني باطلة ، وسراب لا حقيقة له ؟ فأي
حكمة وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش ؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في
محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه ،فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية ، لم تستقر فيه الخواطر النافعة ، فإنها
لا تستقر إلا في محل فارغ ، كما قيل : [ ص: 158 ]
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا فارغا فتمكنا
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
وهذا كثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر ، وأن لا يمكنوا خاطرا يدخل قلوبهم حتى تصير القلوب
فارغة قابلة للكشف وظهور حقائق العلويات فيها ، وهؤلاء حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء ، فإنهم أخلوا القلوب من
أن يطرقها خاطر فبقيت فارغة لا شيء فيها ، فصادفها الشيطان خالية ، فبذر فيها الباطل في قوالب أوهمهم أنها
أعلى الأشياء وأشرفها ،وعوضهم بها عن الخواطر التي هي مادة العلم والهدى ، وإذا خلا القلب عن هذه الخواطر
جاء الشيطان فوجد المحل خاليا ، فيشغله بما يناسب حال صاحبه ، حيث لم يستطعأن يشغله بالخواطر السفلية ،
فشغله بإرادة التجريد والفراغ من الإرادة التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلا أن تكون هي المستولية على قلبه ، وهي
إرادة مراد الله الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه ، وشغل القلب واهتمامه بمعرفته على التفصيل به ، والقيام به ،
وتنفيذه في الخلق ،والتطرق إلى ذلك ،والتوسل إليه بالدخول في الخلق لتنفيذه ، فيضلهم الشيطان عن ذلك بأن
دعاهم إلى تركه وتعطيله من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها .
وأوهمهم أن كمالهم في ذلك التجريد والفراغ ، وهيهات هيهات ، إنما الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات
والفكر في تحصيل مراضي الرب تعالى من العبد ومن الناس ، والفكر في طرق ذلك والتوصل إليه ، فأكمل الناس
أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لذلك ، كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لحظوظه وهواه أين كانت ،
والله المستعان .
وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الرب تعالى ، فربما استعملها
في صلاته ،فكان يجهز جيشه وهو في الصلاة ،فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة،وهذا من باب تداخل العبادات
في العبادة الواحدة ، وهو من باب عزيز شريف ، لا يدخل منه إلا صادق حاذق الطلب ، متضلع من العلم ، عالي
الهمة ، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
المصدر / اسلام ويب
http://im36.gulfup.com/t32W3.png (http://www.monms.com/vb)
الآداب والرقائق
الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي
أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ( ابن قيم الجوزية)
http://im36.gulfup.com/lddtw.png (http://www.monms.com/vb)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد
وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين
أمــــــ بعد ـــــــا؛
وأما الخطرات : فشأنها أصعب ، فإنها مبدأ الخير والشر ، ومنها تتولد الإرادات والهمم والعزائم ، فمن راعى خطراته
ملك زمام نفسه وقهر هواه ، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب ، ومن استهان بالخطرات قادته قهرا
إلى الهلكات ، ولا تزال الخطرات تتردد على القلب حتى تصير منى باطلة .
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب
[ سورة النور : 39 ] .
وأخس الناس همة وأوضعهم نفسا ، من رضي من الحقائق بالأماني الكاذبة ، واستجلبها لنفسه وتجلى بها ،
وهي لعمر الله رءوس أموال المفلسين ، ومتاجر البطالين ، وهي قوت النفس الفارغة ، التي قد قنعت من
الوصل بزورة الخيال ، ومن الحقائق بكواذب الآمال ، كما قال الشاعر :
أماني من سعدى رواء على الظما سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
وهي أضر شيء على الإنسان ، ويتولد منها العجز والكسل ، وتولد التفريط والحسرة [ ص: 155 ] والندم ،
والمتمني لما فاتته مباشرة الحقيقة بجسمه حول صورتها في قلبه ، وعانقها وضمها إليه ، فقنع بوصال
صورة وهمية خيالية صورها فكره .
وذلك لا يجدي عليه شيئا ، وإنما مثله مثل الجائع والظمآن ، يصور في وهمه صورة الطعام والشراب ،
وهو لا يأكل ولا ويشرب .
والسكون إلى ذلك واستجلابه يدل على خسارة النفس ووضاعتها ، وإنما شرف النفس وزكاؤها ، وطهارتها
وعلوها بأن ينفي عنها كل خطرة لا حقيقة لها ، ولا يرضى أن يخطرها بباله ، ويأنف لنفسه منها .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
ثم الخطرات بعد أقسام تدور على أربعة أصول :
خطرات يستجلب بها العبد منافع دنياه .
وخطرات يستدفع بها مضار دنياه .
وخطرات يستجلب بها مصالح آخرته .
وخطرات يستدفع بها مضار آخرته .
فليحصر العبد خطراته وأفكاره وهمومه في هذه الأقسام الأربعة ، فإذا انحصرت له فيها أمكن اجتماعه منها ولم يتركه
لغيره ، وإذا تزاحمت عليه الخطرات لتزاحم متعلقاتها ، قدم الأهم فالأهم الذي يخشى فوته ،وأخر الذي ليس بأهم
ولا يخاف فوته .
بقي قسمان آخران :
أحدهما : مهم لا يفوت .
والثاني : غير مهم ولكنه يفوت .
ففي كل منهما ما يدعو إلى تقديمه ، فهنا يقع التردد والحيرة ، فإن قدم المهم ؛ خشي فوات ما دونه ،وإن قدم ما دونه
فاته الاشتغال به عن المهم ، وكذلك يعرض له أمران لا يمكن الجمع بينهما ،ولا يحصل أحدهما إلا بتفويت الآخر .
فهو موضع استعمال العقل والفقه والمعرفة ، ومن هاهنا ارتفع من ارتفع وأنجح من أنجح ، وخاب من خاب ، فأكثر من
ترى ممن يعظم عقله ومعرفته ، يؤثر غير المهم الذي لا يفوت على المهم الذي يفوت ، ولا تجد أحدا يسلم من ذلك ،
ولكن مستقل ومستكثر .
والتحكيم في هذا الباب للقاعدة الكبرى التي عليها مدار الشرع والقدر ، وإليها مرجع الخلق والأمر ، وهي إيثار أكبر
المصلحتين وأعلاهما ، وإن فاتت المصلحة التي هي دونها ،والدخول في أدنى المفسدتين لدفع ما هو أكبر منها .
[ ص: 156 ] فيفوت مصلحة لتحصيل ما هو أكبر منها ، ويرتكب مفسدة لدفع ما هو أعظم منها .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
خطرات العاقل
فخطرات العاقل وفكره لا يجاوز ذلك ، وبذلك جاءت الشرائع ، ومصالح الدنيا والآخرة لا تقوم إلا على
ذلك ، وأعلى الفكر وأجلها وأنفعها : ما كان لله والدار الآخرة ، فما كان لله فهو أنواع :
أحدها : الفكرة في آياته المنزلة وتعقلها ، وفهمها وفهم مراده منها ، ولذلك أنزلها الله تعالى ، لا لمجرد تلاوتها ،
بل التلاوة وسيلة . قال بعض السلف : أنزل القرآن ليعمل به ، فاتخذوا تلاوته عملا .
الثاني : الفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها ، والاستدلال بها على أسمائه وصفاته ، وحكمته وإحسانه ،
وبره وجوده ،وقد حض الله سبحانه عباده على التفكر في آياته وتدبرها وتعقلها ، وذم الغافل عن ذلك .
الثالث : الفكرة في آلائه وإحسانه ، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم ، وسعة رحمته ومغفرته وحلمه .
وهذه الأنواع الثلاثة تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه . ودوام الفكرة في ذلك مع
الذكر يصبغ القلب في المعرفة والمحبة صبغة تامة .
الرابع : الفكرة في عيوب النفس وآفاتها ، وفي عيوب العمل ، وهذه الفكرة عظيمة النفع ، وهذا باب لكل
خير ، وتأثيرها في كسر النفس الأمارة بالسوء ، ومتى كسرت عاشت النفس المطمئنة وانبعثت وصار
الحكم لها ، فحيي القلب ، ودارت كلمته في مملكته ، وبث أمراءه وجنوده في مصالحه .
الخامس : الفكرة في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم كله عليه ، فالعارف ابن وقته ، فإن أضاعه
ضاعت عليه مصالحه كلها ، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت ، وإن ضيعه لم يستدركه أبدا .
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
قال الشافعي- : " صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين : أحدهما قولهم : الوقت سيف ،
فإن قطعته وإلا قطعك " .
وذكر الكلمة الأخرى : " ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل " .
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم ، ومادة المعيشة الضنك
في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من السحاب ، فما كان من وقته لله وبالله [ ص: 157 ] فهو حياته وعمره ،
وغير ذلك ليس محسوبا من حياته ، وإن عاش فيه عاش عيش البهائم ، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو
والأماني الباطلة ، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة ، فموت هذا خير له من حياته .
وإذا كان العبد - وهو في الصلاة - ليس له من صلاته إلا ما عقل منها فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله .
وما عدا هذه الأقسام من الخطرات والفكر ، فإما وساوس شيطانية وإما أماني باطلة ، وخدع كاذبة ، بمنزلة خواطر
المصابين في عقولهم من السكارى والمحشوشين والموسوسين ، ولسان حال هؤلاء يقول عند انكشاف الحقائق :
إن كان منزلتي في الحشر عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمنا واليوم أحسبها أضغاث أحلام
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
واعلم أن ورود الخاطر لا يضر ، وإنما يضر استدعاؤه ومحادثته ، فالخاطر كالمار على الطريق ، فإن تركته مر وانصرف
عنك ،وإن استدعيته سحرك بحديثه وغروره ، وهو أخف شيء على النفس الفارغة الباطلة ، وأثقل شيء على
القلب والنفس الشريفة السماوية المطمئنة .
وقد ركب الله سبحانه في الإنسان نفسين : نفسا أمارة ونفسا مطمئنة ، وهما متعاديتان ، فكل ما خف على هذه
ثقل على هذه ، وكل ما التذت به هذه تألمت به الأخرى ، فليس على النفس الأمارة أشق من العمل لله وإيثار رضاه
على هواها ، وليس لها أنفع منه ، وليس على النفس المطمئنة أشق من العمل لغير الله ،وما جاء به داعي الهوى .
وليس عليها شيء أضر منه ، والملك مع هذه عن يمنة القلب،والشيطان مع تلك عن يسرة القلب ،والحروب مستمرة
لا تضع أوزارها إلا أن يستوفى أجلها من الدنيا ، والباطل كله يتحيز مع الشيطان والأمارة ،والحق كله يتحيز مع الملك
والمطمئنة،والحرب دول وسجال ، والنصر مع الصبر ، ومن صبر وصابر ورابط واتقى الله فله العاقبة في الدنيا والآخرة،
وقد حكم الله تعالى حكما لا يبدل أبدا : أن العاقبة للتقوى،والعاقبة للمتقين،فالقلب لوح فارغ ،والخواطر نقوش تنقش
فيه ، فكيف يليق بالعاقل أن يكون نقوش لوحه ما بين كذب وغرور وخدع ، وأماني باطلة ، وسراب لا حقيقة له ؟ فأي
حكمة وعلم وهدى ينتقش مع هذه النقوش ؟ وإذا أراد أن ينتقش ذلك في لوح قلبه كان بمنزلة كتابة العلم النافع في
محل مشغول بكتابة ما لا منفعة فيه ،فإن لم يفرغ القلب من الخواطر الردية ، لم تستقر فيه الخواطر النافعة ، فإنها
لا تستقر إلا في محل فارغ ، كما قيل : [ ص: 158 ]
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا فارغا فتمكنا
http://im32.gulfup.com/xn4Ws.png (http://www.monms.com/vb)
وهذا كثير من أرباب السلوك بنوا سلوكهم على حفظ الخواطر ، وأن لا يمكنوا خاطرا يدخل قلوبهم حتى تصير القلوب
فارغة قابلة للكشف وظهور حقائق العلويات فيها ، وهؤلاء حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء ، فإنهم أخلوا القلوب من
أن يطرقها خاطر فبقيت فارغة لا شيء فيها ، فصادفها الشيطان خالية ، فبذر فيها الباطل في قوالب أوهمهم أنها
أعلى الأشياء وأشرفها ،وعوضهم بها عن الخواطر التي هي مادة العلم والهدى ، وإذا خلا القلب عن هذه الخواطر
جاء الشيطان فوجد المحل خاليا ، فيشغله بما يناسب حال صاحبه ، حيث لم يستطعأن يشغله بالخواطر السفلية ،
فشغله بإرادة التجريد والفراغ من الإرادة التي لا صلاح للعبد ولا فلاح إلا أن تكون هي المستولية على قلبه ، وهي
إرادة مراد الله الديني الأمري الذي يحبه ويرضاه ، وشغل القلب واهتمامه بمعرفته على التفصيل به ، والقيام به ،
وتنفيذه في الخلق ،والتطرق إلى ذلك ،والتوسل إليه بالدخول في الخلق لتنفيذه ، فيضلهم الشيطان عن ذلك بأن
دعاهم إلى تركه وتعطيله من باب الزهد في خواطر الدنيا وأسبابها .
وأوهمهم أن كمالهم في ذلك التجريد والفراغ ، وهيهات هيهات ، إنما الكمال في امتلاء القلب من الخواطر والإرادات
والفكر في تحصيل مراضي الرب تعالى من العبد ومن الناس ، والفكر في طرق ذلك والتوصل إليه ، فأكمل الناس
أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لذلك ، كما أن أنقص الناس أكثرهم خواطر وفكرا وإرادات لحظوظه وهواه أين كانت ،
والله المستعان .
وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كانت تتزاحم عليه الخواطر في مراضي الرب تعالى ، فربما استعملها
في صلاته ،فكان يجهز جيشه وهو في الصلاة ،فيكون قد جمع بين الجهاد والصلاة،وهذا من باب تداخل العبادات
في العبادة الواحدة ، وهو من باب عزيز شريف ، لا يدخل منه إلا صادق حاذق الطلب ، متضلع من العلم ، عالي
الهمة ، بحيث يدخل في عبادة يظفر فيها بعبادات شتى ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
المصدر / اسلام ويب
http://im36.gulfup.com/t32W3.png (http://www.monms.com/vb)