ناشر الخير
09-30-2010, 07:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تـلاوة القـرآن
قال الله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا لعلَّكم تُرحمون(204)}
ومضات:
ـ لا يُصْغي المريض عادة إلى تعليمات الطبيب، ليطرب بصوته أو يأنس بكلامه، وإنما ليتدبَّرها برويَّة وإمعان، ثمَّ ينفِّذها حفاظاً على صحة جسده. وكلمات القرآن الكريم فيها تعليمات تشفي الروح والجسد، وعلينا أن نستوعب معانيها بدقَّة وانتباه، وننفِّذ وصاياها بحرص وعناية، لنصل إلى الغاية المرجوَّة منها، وهي سعادتنا في الحياة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء، ولتكون أماناً لنا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
في رحاب الآية:
القرآن الكريم كلام الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المُتَعبَّد بتلاوته، في آياته تكمن الحكمة، وفي سطوره الشفاء، وفي حناياه النور، يغزو القلوب فيحيي مَوَاتَها، لا يَخْلَق على مرِّ الزمن ولا يبلى مع تقادم الأيام، أُنزل من لدن حكيم عليم ليكون شريعة ومنهاجاً للبشرية إلى قيام الساعة. وقد حثَّنا الرسول الكريم على قراءته المستديمة، حيث ورد عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (رواه مسلم) فتلك العطايا الَّتي يحملها القرآن، لا تُغْدَق علينا، إن لم نُعْطِهِ أذناً صاغية، وعقلاً واعياً.
وعلى المستمع للقرآن أن يتأدَّب في مجلس التلاوة، فيكون خاشعاً مدركاً لما يسمع، محاولاً تفهُّم آياته وتدبُّرها، مستعداً للعمل بها وتطبيقها، لتتحوَّل من كلام مسموع، إلى عمل ملموس وسلوك محسوس. لذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقلون من آية إلى أخرى حتَّى يحسنوا فهم الأولى وتطبيقها التطبيق الكامل؛ فالقرآن أُنزل ليكون منهاجاً للتربية، لا قولاً يُتَغَنَّى به، ولا نغماً يُتَرَنَّم بترديده.
والإنصات يكون بالقلب والعقل معاً، ليخترق نور القرآن الأذن الخارجية إلى شغاف القلب، والحجب الَّتي تستره، فتدبُّ فيه الحياة، ورُبَّ آية سمعها الإنسان ووعاها، حرَّكت مكامن الخير في نفسه، وألهبت مشاعره، واستدرَّت دموع الخشية من عينيه، وغيَّرت مسيرة حياته من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن البعد عن الله إلى القرب، ومن القسوة إلى الرحمة. وليست قصَّة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببعيدة عن الأذهان، فقد سمع آية من آيات الله تُتلى، حين تسلل إلى أذنه صوت القارئ وهو يردِّد قول الله تعالى: {طه * ما أنْزَلْنَا عليك القرآنَ لتشقى * إلاَّ تذكِرَةً لِمن يخشى} (20 طه آية 1ـ3) فهوى الصنم المعبود من سماء قلبه إلى غير رجعة، وارتفعت مكانه كلمة التوحيد، وأعلن إسلامه بعد أن كاد الجميع ييأَسون من ذلك.
والاستماع إلى القرآن له مثوبة كبيرة عند الله تعالى، فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله كُتِبَتْ له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة». ولكن نور القرآن لا يدخل القلوب الملوَّثة بشهوات الدنيا وتعلُّقاتها، فلابدَّ قبل الاستماع من ذكر الله ذكراً ممزوجاً بالحبِّ والاطمئنان، مُفعماً بالخوف والتضرُّع والرجاء، في آناء الليل وأطراف النهار، وبذا تحدث للقلب صحوته، وترتدُّ إليه عافيته، فتثمر آيات القرآن فيه.
وأوَّل الثمرات الَّتي يجنيها المستمع من تلاوة القرآن، هي انشراح الصدر الَّذي يهدي إلى الإيمان، من غير حاجة إلى حجَّة أو برهان. ولكي يصل المرء إلى اليقين الصادق، ينبغي عليه أن يترجم تلاوة القرآن، وتفسيره وفهمه فهماً عميقاً، إلى واقع وعمل. وبهذا يزداد اعتقاده رسوخاً وعمله خصوبة، فيكون سماع التلاوة كإلقاء البذرة في التربة، وتكون الدراسة للآيات والعمل بها، كالسِّقاية والرِّعاية لها، حتَّى تنمو تلك البذرة، وتقوى وترتفع شجرة طيِّبة راسخة. عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (رواه مسلم) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المؤمن الَّذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة ريحها طيِّب وطعمها طيِّب» (متفق عليه).
قال الله تعالى: {فإذا قرأتَ القرآنَ فاستَعِذْ بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم(98) إنَّه ليس له سُلطَانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون(99) إنَّما سلطَانُهُ على الَّذين يتَوَلَّونَهُ والَّذين هم به مُشْرِكُون(100)}
ومضات:
ـ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، تهيئة للجو الَّذي يُتْلى فيه كتاب الله، وتطهير للقلب من الوسوسة، وإخلاصٌ لله بحيث لا يشغله عنه شاغل.
ـ لا يمكن لظلمة الشيطان أن تصمد أمام نور الله، المستقر في قلب المؤمن ولا أن تقاومه.
ـ أولياء الشيطان هم من استسلموا لنوازعه وفِتَنِهِ، وتحالفوا مع أعوانه وأتباعه، وهم أوَّل من ينزلق بين براثنه، فينالهم من شروره ألوان شتَّى.
في رحاب الآيات:
نور القرآن يباعد بين الإنسان والشيطان، ويحيي قلب الإنسان بماء الإيمان، ويحقِّق له الصلة مع حضرة الله والتوكُّل على فضله. فالشيطان حقيقة واقعة، وخلق من مخلوقات الله، أعطي العلم والقوَّة، ولكنَّ العُجْبَ والاستكبار سيطرا عليه، فتعالى على غيره من مخلوقات الله ـ وأَوَّلُهُمْ آدم عليه السَّلام أبو البشريَّة ـ فباء بالخسران والطرد من رحمة الله. لذلك ما فتئ يخطِّط ويكيد لكي يبعد آدم وذريَّته عن ورود موارد عطاءات الحضرة الإلهية، وعن كلِّ ما يُقَرِّبهم إليها. والقرآن الكريم هو ألدُّ أعداء الشيطان لأنه يكشف خططه وحبائله وينير للمؤمنين الطريق إلى حضرة الله، لذلك نصب الشيطان شِراكه ليبعد الناس عن تلاوته. إلا أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تفقده القوَّة والسيطرة، فتردُّ كيده إلى نحره، ويندحر مذموماً مقهوراً، لأن قدرته على الإغواء والإضلال، تتلاشى أمام نور الإيمان وقوَّة التوكُّل، فسلطان الإيمان والتوكُّل مبدِّد لكيد الشيطان ووسوسته.
والمؤمنون الَّذين يتوجَّهون إلى الله وحده، ويخلصون قلوبهم له، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم مهما اجتهد في ذلك، لأن صلتهم بالله تعصمهم من الاستسلام له، ولو أخطؤوا مرَّة وانزلقوا وراء وساوسه فإنهم لا يسترسلون، وسـرعان ما يتـوبون إلى ربِّهم ويستغفرون. وإنما سلطانه على الَّذين يجعلونه وليّاً لهم، ويُسْلِمُون له قيادتهم لإرضاء شهواتهم وإشباع نزواتهم.
قال الله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لَرأيْتَهُ خاشعاً مُتَصدِّعاً من خشيةِ الله وتلك الأمْثَالُ نضْرِبُها للنَّاس لعلَّهم يتفكَّرون(21)}
ومضات:
ـ إن في القرآن الكريم هدياً إلهياً، لو أوحى به الله تعالى إلى الجبال، لخشعت وتصدَّعت على قساوتها، لأنها مخلوقات مبرَّأة من الأهواء والعناد، وفي هذا باعث للإنسان ليتفكَّر بهذا القرآن، ويحسن تدبُّره بعيداً عن نزغات الهوى والضلال.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم علم إلهي متكامل، وضَّاءٌ بالنور الساطع من خلال حروفه وكلماته وسطوره، وهو دستور لحياة الإنسان المادية والروحية، يتضمَّن شيئاً عن تاريخ من سبق، وأنباءً عن بعض ما سيحدث. إنه كتاب فريد، حوى أخبار السماء والأرض والعوالم والنجوم، وعلم ما نعلم وما لا نعلم، فيه من فيض الرحمة ما لم تقدِّمه أمٌّ لوليدها، وفيه من أصناف التهديد ما يقشعرُّ من هوله جبابرة الأبطال، وفيه من دقَّة الإحكام وروعة البيان ما يعجز عنه اللسان، وفيه من العطاء الإلهي ما يفوق كلَّ تصوُّر وخيال. هذه الآيات الإلهية والحِكَم الربَّانية لو أدْرَكَتْها رواسي الأرض وشوامخ الجبال، بما فيها من حسٍّ مركَّز في ذرَّاتها؛ لذابت وانهارت أمامها، كما لو أن الخشية براكين عملاقة، انفجرت في أعماقها، فهدَّت كيانها ونقضت بنيانها، على الرغم من أنها خرجت من أعماق ذاتها.
إن لهذا القرآن هيمنةً وسلطاناً وأثراً روحياً محرِّكاً، وفي اللحظات الَّتي يكون فيها الكيان الإنساني متفتِّحاً ومستعدّاً لتلقِّي شيء من حقيقته، يُحْدِثُ في نفسه من التغيُّرات والتحوُّلات، ما يمثِّله فعل المغناطيس في عالم المادَّة والكهرباء بالأجسام أو أشد. ولكن هذه اللحظات المضيئة في حياة الإنسان قليلة، إذا ما قورنت باللحظات المعتمة الَّتي تنسحب على معظم حياته، لذلك نجد الآية الكريمة تستثير مشاعر الإنسان الَّذي لا يخشع عند تلاوة القرآن، ويُعرض عمَّا فيه من توسعةٍ لمدارك العقل والفكر وآفاق الروح. ولهذا فقد كان لهذه الآية مكانة عظيمة بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرَّات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وَكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يصلُّون عليه حتَّى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» (رواه الترمذي)، وهذه الآيات قوله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو عالِمُ الغيب والشَّهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم * هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو المَلكُ القدُّوسُ السَّلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبَّار المتكبِّرُ سُبحانَ الله عمَّا يشركونَ * هو الله الخالقُ البارئ المصوِّر له الأسماءُ الحسنى يسبِّح له ما في السَّمواتِ والأرضِ وهو العزيز الحكيم} (59 الحشر آية 22ـ24).
وغنيٌّ عن القول: أنّ قراءة هذه الآيات الكريمة بعد الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في مستهل النهار، هو تجديد يومي للبيعة من العبد المؤمن مع حضرة الله، متعهداً فيها قضاء يومٍ مثمر، يبذل فيه كلَّ أسباب الخير والبناء والتَّقوى مع جميع الخلائق، بإذن الله وعنايته وتوفيقه.
..منقـــول..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تـلاوة القـرآن
قال الله تعالى: {وإذا قُرِئ القرآنُ فاستمعوا له وأنصتوا لعلَّكم تُرحمون(204)}
ومضات:
ـ لا يُصْغي المريض عادة إلى تعليمات الطبيب، ليطرب بصوته أو يأنس بكلامه، وإنما ليتدبَّرها برويَّة وإمعان، ثمَّ ينفِّذها حفاظاً على صحة جسده. وكلمات القرآن الكريم فيها تعليمات تشفي الروح والجسد، وعلينا أن نستوعب معانيها بدقَّة وانتباه، وننفِّذ وصاياها بحرص وعناية، لنصل إلى الغاية المرجوَّة منها، وهي سعادتنا في الحياة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والإنسانية جمعاء، ولتكون أماناً لنا في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
في رحاب الآية:
القرآن الكريم كلام الله الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، المُتَعبَّد بتلاوته، في آياته تكمن الحكمة، وفي سطوره الشفاء، وفي حناياه النور، يغزو القلوب فيحيي مَوَاتَها، لا يَخْلَق على مرِّ الزمن ولا يبلى مع تقادم الأيام، أُنزل من لدن حكيم عليم ليكون شريعة ومنهاجاً للبشرية إلى قيام الساعة. وقد حثَّنا الرسول الكريم على قراءته المستديمة، حيث ورد عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» (رواه مسلم) فتلك العطايا الَّتي يحملها القرآن، لا تُغْدَق علينا، إن لم نُعْطِهِ أذناً صاغية، وعقلاً واعياً.
وعلى المستمع للقرآن أن يتأدَّب في مجلس التلاوة، فيكون خاشعاً مدركاً لما يسمع، محاولاً تفهُّم آياته وتدبُّرها، مستعداً للعمل بها وتطبيقها، لتتحوَّل من كلام مسموع، إلى عمل ملموس وسلوك محسوس. لذلك كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينتقلون من آية إلى أخرى حتَّى يحسنوا فهم الأولى وتطبيقها التطبيق الكامل؛ فالقرآن أُنزل ليكون منهاجاً للتربية، لا قولاً يُتَغَنَّى به، ولا نغماً يُتَرَنَّم بترديده.
والإنصات يكون بالقلب والعقل معاً، ليخترق نور القرآن الأذن الخارجية إلى شغاف القلب، والحجب الَّتي تستره، فتدبُّ فيه الحياة، ورُبَّ آية سمعها الإنسان ووعاها، حرَّكت مكامن الخير في نفسه، وألهبت مشاعره، واستدرَّت دموع الخشية من عينيه، وغيَّرت مسيرة حياته من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن البعد عن الله إلى القرب، ومن القسوة إلى الرحمة. وليست قصَّة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ببعيدة عن الأذهان، فقد سمع آية من آيات الله تُتلى، حين تسلل إلى أذنه صوت القارئ وهو يردِّد قول الله تعالى: {طه * ما أنْزَلْنَا عليك القرآنَ لتشقى * إلاَّ تذكِرَةً لِمن يخشى} (20 طه آية 1ـ3) فهوى الصنم المعبود من سماء قلبه إلى غير رجعة، وارتفعت مكانه كلمة التوحيد، وأعلن إسلامه بعد أن كاد الجميع ييأَسون من ذلك.
والاستماع إلى القرآن له مثوبة كبيرة عند الله تعالى، فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من استمع إلى آية من كتاب الله كُتِبَتْ له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة». ولكن نور القرآن لا يدخل القلوب الملوَّثة بشهوات الدنيا وتعلُّقاتها، فلابدَّ قبل الاستماع من ذكر الله ذكراً ممزوجاً بالحبِّ والاطمئنان، مُفعماً بالخوف والتضرُّع والرجاء، في آناء الليل وأطراف النهار، وبذا تحدث للقلب صحوته، وترتدُّ إليه عافيته، فتثمر آيات القرآن فيه.
وأوَّل الثمرات الَّتي يجنيها المستمع من تلاوة القرآن، هي انشراح الصدر الَّذي يهدي إلى الإيمان، من غير حاجة إلى حجَّة أو برهان. ولكي يصل المرء إلى اليقين الصادق، ينبغي عليه أن يترجم تلاوة القرآن، وتفسيره وفهمه فهماً عميقاً، إلى واقع وعمل. وبهذا يزداد اعتقاده رسوخاً وعمله خصوبة، فيكون سماع التلاوة كإلقاء البذرة في التربة، وتكون الدراسة للآيات والعمل بها، كالسِّقاية والرِّعاية لها، حتَّى تنمو تلك البذرة، وتقوى وترتفع شجرة طيِّبة راسخة. عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (رواه مسلم) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ المؤمن الَّذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجَّة ريحها طيِّب وطعمها طيِّب» (متفق عليه).
قال الله تعالى: {فإذا قرأتَ القرآنَ فاستَعِذْ بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم(98) إنَّه ليس له سُلطَانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون(99) إنَّما سلطَانُهُ على الَّذين يتَوَلَّونَهُ والَّذين هم به مُشْرِكُون(100)}
ومضات:
ـ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، تهيئة للجو الَّذي يُتْلى فيه كتاب الله، وتطهير للقلب من الوسوسة، وإخلاصٌ لله بحيث لا يشغله عنه شاغل.
ـ لا يمكن لظلمة الشيطان أن تصمد أمام نور الله، المستقر في قلب المؤمن ولا أن تقاومه.
ـ أولياء الشيطان هم من استسلموا لنوازعه وفِتَنِهِ، وتحالفوا مع أعوانه وأتباعه، وهم أوَّل من ينزلق بين براثنه، فينالهم من شروره ألوان شتَّى.
في رحاب الآيات:
نور القرآن يباعد بين الإنسان والشيطان، ويحيي قلب الإنسان بماء الإيمان، ويحقِّق له الصلة مع حضرة الله والتوكُّل على فضله. فالشيطان حقيقة واقعة، وخلق من مخلوقات الله، أعطي العلم والقوَّة، ولكنَّ العُجْبَ والاستكبار سيطرا عليه، فتعالى على غيره من مخلوقات الله ـ وأَوَّلُهُمْ آدم عليه السَّلام أبو البشريَّة ـ فباء بالخسران والطرد من رحمة الله. لذلك ما فتئ يخطِّط ويكيد لكي يبعد آدم وذريَّته عن ورود موارد عطاءات الحضرة الإلهية، وعن كلِّ ما يُقَرِّبهم إليها. والقرآن الكريم هو ألدُّ أعداء الشيطان لأنه يكشف خططه وحبائله وينير للمؤمنين الطريق إلى حضرة الله، لذلك نصب الشيطان شِراكه ليبعد الناس عن تلاوته. إلا أن الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم تفقده القوَّة والسيطرة، فتردُّ كيده إلى نحره، ويندحر مذموماً مقهوراً، لأن قدرته على الإغواء والإضلال، تتلاشى أمام نور الإيمان وقوَّة التوكُّل، فسلطان الإيمان والتوكُّل مبدِّد لكيد الشيطان ووسوسته.
والمؤمنون الَّذين يتوجَّهون إلى الله وحده، ويخلصون قلوبهم له، لا يملك الشيطان أن يسيطر عليهم مهما اجتهد في ذلك، لأن صلتهم بالله تعصمهم من الاستسلام له، ولو أخطؤوا مرَّة وانزلقوا وراء وساوسه فإنهم لا يسترسلون، وسـرعان ما يتـوبون إلى ربِّهم ويستغفرون. وإنما سلطانه على الَّذين يجعلونه وليّاً لهم، ويُسْلِمُون له قيادتهم لإرضاء شهواتهم وإشباع نزواتهم.
قال الله تعالى: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ لَرأيْتَهُ خاشعاً مُتَصدِّعاً من خشيةِ الله وتلك الأمْثَالُ نضْرِبُها للنَّاس لعلَّهم يتفكَّرون(21)}
ومضات:
ـ إن في القرآن الكريم هدياً إلهياً، لو أوحى به الله تعالى إلى الجبال، لخشعت وتصدَّعت على قساوتها، لأنها مخلوقات مبرَّأة من الأهواء والعناد، وفي هذا باعث للإنسان ليتفكَّر بهذا القرآن، ويحسن تدبُّره بعيداً عن نزغات الهوى والضلال.
في رحاب الآيات:
القرآن الكريم علم إلهي متكامل، وضَّاءٌ بالنور الساطع من خلال حروفه وكلماته وسطوره، وهو دستور لحياة الإنسان المادية والروحية، يتضمَّن شيئاً عن تاريخ من سبق، وأنباءً عن بعض ما سيحدث. إنه كتاب فريد، حوى أخبار السماء والأرض والعوالم والنجوم، وعلم ما نعلم وما لا نعلم، فيه من فيض الرحمة ما لم تقدِّمه أمٌّ لوليدها، وفيه من أصناف التهديد ما يقشعرُّ من هوله جبابرة الأبطال، وفيه من دقَّة الإحكام وروعة البيان ما يعجز عنه اللسان، وفيه من العطاء الإلهي ما يفوق كلَّ تصوُّر وخيال. هذه الآيات الإلهية والحِكَم الربَّانية لو أدْرَكَتْها رواسي الأرض وشوامخ الجبال، بما فيها من حسٍّ مركَّز في ذرَّاتها؛ لذابت وانهارت أمامها، كما لو أن الخشية براكين عملاقة، انفجرت في أعماقها، فهدَّت كيانها ونقضت بنيانها، على الرغم من أنها خرجت من أعماق ذاتها.
إن لهذا القرآن هيمنةً وسلطاناً وأثراً روحياً محرِّكاً، وفي اللحظات الَّتي يكون فيها الكيان الإنساني متفتِّحاً ومستعدّاً لتلقِّي شيء من حقيقته، يُحْدِثُ في نفسه من التغيُّرات والتحوُّلات، ما يمثِّله فعل المغناطيس في عالم المادَّة والكهرباء بالأجسام أو أشد. ولكن هذه اللحظات المضيئة في حياة الإنسان قليلة، إذا ما قورنت باللحظات المعتمة الَّتي تنسحب على معظم حياته، لذلك نجد الآية الكريمة تستثير مشاعر الإنسان الَّذي لا يخشع عند تلاوة القرآن، ويُعرض عمَّا فيه من توسعةٍ لمدارك العقل والفكر وآفاق الروح. ولهذا فقد كان لهذه الآية مكانة عظيمة بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرَّات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وَكَّلَ الله به سبعين ألف ملك يصلُّون عليه حتَّى يمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» (رواه الترمذي)، وهذه الآيات قوله تعالى: {هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو عالِمُ الغيب والشَّهادةِ هو الرَّحمن الرَّحيم * هو الله الَّذي لا إله إلاَّ هو المَلكُ القدُّوسُ السَّلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبَّار المتكبِّرُ سُبحانَ الله عمَّا يشركونَ * هو الله الخالقُ البارئ المصوِّر له الأسماءُ الحسنى يسبِّح له ما في السَّمواتِ والأرضِ وهو العزيز الحكيم} (59 الحشر آية 22ـ24).
وغنيٌّ عن القول: أنّ قراءة هذه الآيات الكريمة بعد الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في مستهل النهار، هو تجديد يومي للبيعة من العبد المؤمن مع حضرة الله، متعهداً فيها قضاء يومٍ مثمر، يبذل فيه كلَّ أسباب الخير والبناء والتَّقوى مع جميع الخلائق، بإذن الله وعنايته وتوفيقه.
..منقـــول..