طيف عابر
10-27-2012, 01:20 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قصيدة تصويرية للمؤرخ الكبير الزركلي تتكلم عن الاستعمار والتغول على أرض العرب وأخذها عنوة وسلبهم حريتهم وانتهاك خصوصيتهم وحقهم في الحياة
(1)
سكنت ضوضاء من في الحي – لا حي تراه
وغفا الثائر لا يلهج إلا بمناه
رقد الساهر واعتادته أحلام هواه
وبكى الموجع ، حتى بلل الدمع ثراه
غفل الناس وللحدثان والدهر انتباه
هدأت ثائرة الليل ، ولاحت في الفضاء
شهب تلمع كالآمال ، زهراً ، كالرّجاء
(2)
طوت الظلمة في أردانها كوخ وقار
حاطه أهلوه من زهر الأقاحي بإطار
وتراءى البحر عن يمناه ، منشور الإزار
ضم عذراء وأطفالاً كلألاء الدراري
وفتىً كالصبح أو أنقى – وكهلاً كالنهار
أسرة راضية العيشة – باتت في هناء
نعمت ، آمنةً سوء تصاريف القضاء
(3)
قرع الباب فصاحت ربة المنزل «ليلى» :
من يزور الحي أو يطرق هذا الباب ليلا ؟
فتعالى الصوت : لا تخشى – فداك الروح – ويلا
وافد : مالت به نحوكم الظلماء ميلا
فتمشّت تفتح الباب – يجرّ التيه ذيلا
وإذا الطارق يختال بأبراد السناء
طُبعت في وجهه سيما وجوه الكبرياء
(4)
عجبت من شأنه فانقلبت تدعو الشقيقا
وإذا والدها يسأل : ما الأمر ؟ – مفيقا
حدّثته أن في الباب نزيلاً أو صديقا
فسعى يستقبل الضيف ، ويهديه الطريقا
مرحباً بالزائر الوافد كالطيف طروقا
نحن في منتصف الليل ، عسـى داعي اللقاء
موجباً حمدي لمولاي المفدّى وثنائي
(5)
وجم الوافد حيناً ، يتحرى ما يقول
وانبرى يخطب ود الشيخ ، والشيخ ملول
قال : يا مولاي هذا البيت ظل لي ظليل
ولك الفضل ومهما أُبد فالقول فضول
أنت من أهل ودادي ولك الذكر الجميل
قال : والآن ؟ – أجاب الزائر : الآن عزائي
هو أن تقبلني جار صباح ومساء
(6)
عجب الشيخ ، وقال : الصفح إن أخطأت ، عني
أنت نعم الجار – وأقبل واضح الأعذار مني
قال : إني لك عون ! قال : شكراً لا تعني
أنا حسبي منك عطف الوُدّ ، في ضعفي وسني
ودنت ليلى فناداها فتى الليل : اطمئني
جئتكم أخدمكم خدمة موفور العطاء
إنما الخير بخير وجزاء بجزاء
(7)
بسمت ليلى ، وقالت : أنت أحسنت فشكرا
نحن في يسـر ، وإن لم تدع الأيام وفرا
فتطلب غير هذا القصـر يا مولاي ، قصـرا
قال : مهلاً يا مهاة الحي ، إني بك أدرى
أنتِ قد أحببتني ، والأب راضٍ بي صهرا
بُهتت من قوله واضطربت : – يا للسماء
أيُّ فاري فرية يلصقها بي – بإزائي
(8)
وأفاق الأخ من هجعته – والليل داج
فتصدى يتبع الصوت وضوضاء الحجاج
شهد العذراء غضبى وأباه في انزعاج
ورأى الضيف ثقيلاً مستمراً في لجاج
قال : من أنت ؟ وما شأنك ؟ ما أنت بناج
أطرق الوافد ختلاً ومشـى في خيلاء
قال : صبراً أيها الناشئ ما دائي بداء
(9)
أنا لي أمنية ليس لكم منها مناص
لي عذراؤكم ما إن لها مني محاص
جرحتني بهواها والجراحات قصاص
بيننا السلم إذا شئت – وإلا فالرصاص
قال : لا يرضى الفتى العار – فموت أو خلاص
ودرى الشيخ مصير الأمر – يا للاعتداء
صاح واحتاط ابنه ، يجذب أطراف الرداء
(10)
أزمع الباغي نزالاً ، فتوارى فاستعدا
وتلقاه الفتى ، والأب والعذراء شدّا
بكت الأطفال ذُعراً ، حين عاد الأمر جِدّا
حسر العاتي نقاباً ، فإذا عبدٌ تردّى
برداء المجد ، ساء العبد للأشراف نِدّا
صرخت ليلى : أخي «يوسف» زين النبلاء
اطعن المجرم ، روِّ الأرض منه بالدماء
(11)
زأر الخصمان واشتد فتى القصـر فدارا
حول عبد السوء لا يألو كروراً وانحدارا
ضرباتٍ بنصالٍ ، لم تلد إلا شرارا
وفتاة الحي تدعو الله سرا وجهارا
رعدت في القصـر منها شهقةٌ تقذف نارا
قتل الجاني أخي ، شلّت يد الباغي المرائي
آهِ يا غادرُ أدميت قلوب الضعفاء
(12)
وحنا الكهل على «يوسف» مغمياً عليه
لا يعي أمراً ، يفور الدمع من باصرتيه
فصحا يوسف صحو الموت يدعو باكييه
قال : أختي وأبي ! واثناهما بين يديه
حضناه ، فتلوّى ، موجعاً من جانبيه
مشهد يغلب فيه الدمع وصف الشعراء
صرع الغدر عماد الحي فخر الشهداء
(13)
لم يكد يغمض عينيه الفتى ، حتى تعالى
صخب الباكين حوليه يميناً وشمالا
أدركته قوةٌ ، فانتهض الرأس فقالا :
أنا إن متُّ فقد أحييت للناس مثالا
إنما الحر إذا سيم الأذى يجهر : لا ، لا !
هكذا فليتلق الموت فتيان الوفاء
ما أرى في صفحة العالم حيا للبقاء
(14)
أبتي ، لا تنسني ، واحم فتاة الطهر أنتا
فإذا أدركك الموت كما مِتُّ عُذِرتا
كَفكِفي دمعكِ يا ليلايَ كوني لي أختا
تاجها العفة لا ترضى بغير الطهر بتّا
يا طفيلات أبي أصلحكن الله نبتا
كن عوناً لأبيكن وخلين بكائي
وتناقلن حديثي ، إنه رمز الإباء
(15)
وقضـى يوسف ، والعذراءُ تبكي وتنوح
فإذا القاتل يدنو من أبيها ، ويصيح
ما مضـى فات ، ولا ترجع بعد الفوت روح
خلِّ عنك الندب إني لك يا شيخ نصيح
لست بالبارح هذا البيت هيهات النزوح
فأجاب الأب والعذراء : سقياً للفناء
من لنا بالموت يمحو ما نقاسي من عناء
(16)
ضحك الفاتك من قوليهما وانسلّ يدعو
عصبةً كامنةً ، فانهال نحو القصـر جمع
بات من في الدار أسرى ولدمع العين همع
كمت الأفواه ، كفت أعين ، أوقر سمع
حارت الألباب ، ضاقت أنفسٌ ، أقفر ربع
أين من يُنقذ بنت النور ، مرآة الضياء
من مهاوي البؤس والآلام ، من أيدي الشقاء
(17)
أين من يصغي لأنّات العذارى والعويل
أين من يضمد جرح القلب في الجسم العليل
أين من يرحم ضعف الطفل في القيد الثقيل
أين من يحنو على الأوّاه في الأسر الطويل
أين من يجزي جُناة الشـر بالشـر الوبيل
ليس في الناس سميعٌ أو مجيبٌ للنداء
فقد العطف … فواهاً للضعاف البؤساء
في أمان الله.
قصيدة تصويرية للمؤرخ الكبير الزركلي تتكلم عن الاستعمار والتغول على أرض العرب وأخذها عنوة وسلبهم حريتهم وانتهاك خصوصيتهم وحقهم في الحياة
(1)
سكنت ضوضاء من في الحي – لا حي تراه
وغفا الثائر لا يلهج إلا بمناه
رقد الساهر واعتادته أحلام هواه
وبكى الموجع ، حتى بلل الدمع ثراه
غفل الناس وللحدثان والدهر انتباه
هدأت ثائرة الليل ، ولاحت في الفضاء
شهب تلمع كالآمال ، زهراً ، كالرّجاء
(2)
طوت الظلمة في أردانها كوخ وقار
حاطه أهلوه من زهر الأقاحي بإطار
وتراءى البحر عن يمناه ، منشور الإزار
ضم عذراء وأطفالاً كلألاء الدراري
وفتىً كالصبح أو أنقى – وكهلاً كالنهار
أسرة راضية العيشة – باتت في هناء
نعمت ، آمنةً سوء تصاريف القضاء
(3)
قرع الباب فصاحت ربة المنزل «ليلى» :
من يزور الحي أو يطرق هذا الباب ليلا ؟
فتعالى الصوت : لا تخشى – فداك الروح – ويلا
وافد : مالت به نحوكم الظلماء ميلا
فتمشّت تفتح الباب – يجرّ التيه ذيلا
وإذا الطارق يختال بأبراد السناء
طُبعت في وجهه سيما وجوه الكبرياء
(4)
عجبت من شأنه فانقلبت تدعو الشقيقا
وإذا والدها يسأل : ما الأمر ؟ – مفيقا
حدّثته أن في الباب نزيلاً أو صديقا
فسعى يستقبل الضيف ، ويهديه الطريقا
مرحباً بالزائر الوافد كالطيف طروقا
نحن في منتصف الليل ، عسـى داعي اللقاء
موجباً حمدي لمولاي المفدّى وثنائي
(5)
وجم الوافد حيناً ، يتحرى ما يقول
وانبرى يخطب ود الشيخ ، والشيخ ملول
قال : يا مولاي هذا البيت ظل لي ظليل
ولك الفضل ومهما أُبد فالقول فضول
أنت من أهل ودادي ولك الذكر الجميل
قال : والآن ؟ – أجاب الزائر : الآن عزائي
هو أن تقبلني جار صباح ومساء
(6)
عجب الشيخ ، وقال : الصفح إن أخطأت ، عني
أنت نعم الجار – وأقبل واضح الأعذار مني
قال : إني لك عون ! قال : شكراً لا تعني
أنا حسبي منك عطف الوُدّ ، في ضعفي وسني
ودنت ليلى فناداها فتى الليل : اطمئني
جئتكم أخدمكم خدمة موفور العطاء
إنما الخير بخير وجزاء بجزاء
(7)
بسمت ليلى ، وقالت : أنت أحسنت فشكرا
نحن في يسـر ، وإن لم تدع الأيام وفرا
فتطلب غير هذا القصـر يا مولاي ، قصـرا
قال : مهلاً يا مهاة الحي ، إني بك أدرى
أنتِ قد أحببتني ، والأب راضٍ بي صهرا
بُهتت من قوله واضطربت : – يا للسماء
أيُّ فاري فرية يلصقها بي – بإزائي
(8)
وأفاق الأخ من هجعته – والليل داج
فتصدى يتبع الصوت وضوضاء الحجاج
شهد العذراء غضبى وأباه في انزعاج
ورأى الضيف ثقيلاً مستمراً في لجاج
قال : من أنت ؟ وما شأنك ؟ ما أنت بناج
أطرق الوافد ختلاً ومشـى في خيلاء
قال : صبراً أيها الناشئ ما دائي بداء
(9)
أنا لي أمنية ليس لكم منها مناص
لي عذراؤكم ما إن لها مني محاص
جرحتني بهواها والجراحات قصاص
بيننا السلم إذا شئت – وإلا فالرصاص
قال : لا يرضى الفتى العار – فموت أو خلاص
ودرى الشيخ مصير الأمر – يا للاعتداء
صاح واحتاط ابنه ، يجذب أطراف الرداء
(10)
أزمع الباغي نزالاً ، فتوارى فاستعدا
وتلقاه الفتى ، والأب والعذراء شدّا
بكت الأطفال ذُعراً ، حين عاد الأمر جِدّا
حسر العاتي نقاباً ، فإذا عبدٌ تردّى
برداء المجد ، ساء العبد للأشراف نِدّا
صرخت ليلى : أخي «يوسف» زين النبلاء
اطعن المجرم ، روِّ الأرض منه بالدماء
(11)
زأر الخصمان واشتد فتى القصـر فدارا
حول عبد السوء لا يألو كروراً وانحدارا
ضرباتٍ بنصالٍ ، لم تلد إلا شرارا
وفتاة الحي تدعو الله سرا وجهارا
رعدت في القصـر منها شهقةٌ تقذف نارا
قتل الجاني أخي ، شلّت يد الباغي المرائي
آهِ يا غادرُ أدميت قلوب الضعفاء
(12)
وحنا الكهل على «يوسف» مغمياً عليه
لا يعي أمراً ، يفور الدمع من باصرتيه
فصحا يوسف صحو الموت يدعو باكييه
قال : أختي وأبي ! واثناهما بين يديه
حضناه ، فتلوّى ، موجعاً من جانبيه
مشهد يغلب فيه الدمع وصف الشعراء
صرع الغدر عماد الحي فخر الشهداء
(13)
لم يكد يغمض عينيه الفتى ، حتى تعالى
صخب الباكين حوليه يميناً وشمالا
أدركته قوةٌ ، فانتهض الرأس فقالا :
أنا إن متُّ فقد أحييت للناس مثالا
إنما الحر إذا سيم الأذى يجهر : لا ، لا !
هكذا فليتلق الموت فتيان الوفاء
ما أرى في صفحة العالم حيا للبقاء
(14)
أبتي ، لا تنسني ، واحم فتاة الطهر أنتا
فإذا أدركك الموت كما مِتُّ عُذِرتا
كَفكِفي دمعكِ يا ليلايَ كوني لي أختا
تاجها العفة لا ترضى بغير الطهر بتّا
يا طفيلات أبي أصلحكن الله نبتا
كن عوناً لأبيكن وخلين بكائي
وتناقلن حديثي ، إنه رمز الإباء
(15)
وقضـى يوسف ، والعذراءُ تبكي وتنوح
فإذا القاتل يدنو من أبيها ، ويصيح
ما مضـى فات ، ولا ترجع بعد الفوت روح
خلِّ عنك الندب إني لك يا شيخ نصيح
لست بالبارح هذا البيت هيهات النزوح
فأجاب الأب والعذراء : سقياً للفناء
من لنا بالموت يمحو ما نقاسي من عناء
(16)
ضحك الفاتك من قوليهما وانسلّ يدعو
عصبةً كامنةً ، فانهال نحو القصـر جمع
بات من في الدار أسرى ولدمع العين همع
كمت الأفواه ، كفت أعين ، أوقر سمع
حارت الألباب ، ضاقت أنفسٌ ، أقفر ربع
أين من يُنقذ بنت النور ، مرآة الضياء
من مهاوي البؤس والآلام ، من أيدي الشقاء
(17)
أين من يصغي لأنّات العذارى والعويل
أين من يضمد جرح القلب في الجسم العليل
أين من يرحم ضعف الطفل في القيد الثقيل
أين من يحنو على الأوّاه في الأسر الطويل
أين من يجزي جُناة الشـر بالشـر الوبيل
ليس في الناس سميعٌ أو مجيبٌ للنداء
فقد العطف … فواهاً للضعاف البؤساء
في أمان الله.